Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 69, Ayat: 13-18)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } فكأنهم سألوا : متى تكون الواقعة والحاقة والقارعة ؟ فأخبر عن ذلك بقوله : { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ * وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ * وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } ، فجوابهم في قوله : { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } [ ثم ] قد بيّنا أن الأسئلة كلها خرجت [ على بيان الوقت ، والله - تعالى - لم يبين لهم وقت كونه ، وإنما أجاب ] عن الأحوال التي تكون في ذلك الوقت ؛ لما لا فائدة لهم في تبيين وقته ، ولا حاجة إلى معرفته ، وإنما الفائدة في تبيين أحواله ؛ لما يقع بها الترغيب والترهيب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } فجائز أن يكون على حقيقة النفخ . واحتمل أن يكون على قدر نفخة واحدة ؛ فتكون فائدته ذكر سهولة أمر البعث على الله - تعالى - لأن قدر النفخة مما يسهل على المرء في الشاهد ، ولا يتعذر . وجائز أن يكون ذكر النفخ ؛ لما أن الروح تدخل في أجسادهم ، وتنتشر فيها ، وذلك عمل النفخ ؛ لأن الريح إذا نفخت في وعاء سرت فيه وانتشرت ، فكنى عن دخول الروح في الجسد بالنفخ ؛ إذ ذلك عمله ، وكنى بالنفخ عن خروج الروح من الأجساد لهذا ، وعلى هذا تأويل قوله : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] ليس على حقيقة النفخ ؛ ولكن عمل الروح فيها عمل النفخ ، فقيل ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فِي ٱلصُّورِ } قيل : الصور : هو القرن ينفخ فيه النفخة الأولى ؛ فيصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، ثم ينفخ [ فيه ] مرة فإذا هم قيام ينظرون . ومنهم من يقول : أي : نفخ الروح في صور الخلق ؛ لكن جمع الصورة : الصور ، بنصب الواو ؛ فلا يحتمل أن يكون المراد منه : جمع الصورة ، لكنه يجوز أن يكون الله - تعالى - جعل نفخ الصور سبباً لإفنائهم وإحيائهم ، لا أنه يعجزه شيء عن الإفناء والإحياء ما لم ينفخ في الصور ، لكنه جعله سبباً لنوع الحكمة والمصلحة أو لمحنة ذلك الملك والابتلاء ؛ على ما عرف من أنواع المحن في الملائكة من إنزال المطر ، وتسيير السحاب ، وجعلهم الموكلين على أعمال بني آدم ، وغير ذلك . وقوله : { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } كسرتا كسرة واحدة . وقيل : هدمتا هدمة واحدة . وقال بعضهم : زلزلتا زلزلة واحدة ؛ فكأنه يقول - والله أعلم - : تتزلزل الأرض ، فتقذف ما في بطنها من الفضول ، وتخرج ما فيها من الجواهر التي ليست منها بتلك الدكة ، وتخرج أصول الجبال منها ، ثم يجعله الله - تعالى - كثيباً مهيلاً مثل الرمل ، ثم يُعْمِل عليه الريح فيجعله هباء منثوراً ، وتراه من لينه كالعهن المنفوش ، ثم يسير مثل السحاب ، فيقع في شعاب الأرض والأودية والأماكن المختلفة ؛ فتصير الأرض كما قال - تعالى - : { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [ طه : 106 - 107 ] ، وهكذا الريح إذا عملت على شيء وتقع عليه ، تفرقه في النواحي ، وتسوي به الشقوق ، وتبسطه على وجه الأرض . وقوله - عز وجل - : { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ } ليس أنها تحمل من مكان إلى مكان ، ولكن تدخل هذه في هذه ، وتضرب هذه على هذه بالدكة ؛ فتصير كأنها حملت لذلك ، وإذا كان كذلك ، فقد وقعت الواقعة يومئذ ، وهذا على اختلاف الأوقات ؛ ليكون معنى الآيات التي جاءت في الجبال على السواء ، والله أعلم . وقيل : في آيات أخر بيان آخر : بيان تقديم فناء الجبال قبل الأرض بقوله : { يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا } [ طه : 105 - 106 ] ، أي : يذر الأرض { قَاعاً صَفْصَفاً } [ طه : 106 ] وغيرها من الآيات ؛ مما يدل على تقديم فناء الجبال قبلها ، فإما أن يكون معنى تبديل الأرض تغييرها عن الحالة التي هي عليها اليوم من انهدام البنيان ، واستواء الأودية ، وإزالة الجبال ؛ على ما جاء في الأخبار ، فسمي لذلك : تبديلاً ؛ كما يقال لمن تغير عن الحالة الحسنة إلى غيرها : تبدلت ، يراد : [ أي : تغيرت عن حالتك ] ؛ فعلى ذلك معنى الآية ؛ أي : تكسر الجبال ، وتتغير حالة الأرض في دفعة واحدة . أو يكون في الآية إخبار عن شدة الفزع في ذلك اليوم أن [ يدكه دكة ] واحدة ؛ تفني الجبال والأرض ، وإن كان إفناء الجبال قبل إفناء الأرض ، ليس أنهما يفنيان جميعاً بدفعة واحدة ، لكن بالدكة الواحدة تهلك الجبال والأرض ؛ فيكون المراد بيان شدة اليوم وهوله ؛ لا بيان ترتيب فناء البعض على البعض ، والله أعلم . وقوله - تعالى - : { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ ٱلْوَاقِعَةُ } وهو الحساب والجزاء ؛ كقوله : { وَإِنَّ ٱلدِّينَ لَوَٰقِعٌ } [ الذاريات : 6 ] وأدخلت الهاء في أسماء القيامة تعظيماً لشأنها . وقوله - عز وجل - : { وَٱنشَقَّتِ ٱلسَّمَآءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } قال بعضهم : تفرقت ، وهكذا الشيء إذا انشق تفرق وتباين ، وبه يظهر الشق . ويحتمل أن يكون الشق كناية عن اللين ؛ أي : تلين بعد صعوبتها ، دليله : قوله - عز وجل - : { فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } أي : ضعيفة بعدما كانت تنسب إلى الصلابة ، ويدل على ذلك قوله : { يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ } [ الأنبياء : 104 ] وإنما يطوي الشيء في الشاهد بعدما يلين في نفسه . وجائز أن تنشق السماء لنزول أهلها ، فلا يبقى فيها إلا الملائكة الذين على أطرافها ، ثم تنضم [ فتبين ] للطي ، والله أعلم . وجائز أن يكون ذكر [ انفطارها وانشقاقها وانفتاحها ؛ تهويلاً للخلق من الوجه الذي ذكرنا فيما قبل . وجائز أن تكون للسماوات أبوابٌ ، فتفتح أبوابها ؛ فيكون ] انشقاقها وانفطارها فتح أبوابها . وجائز أن يكون الشق ليس فتح الأبواب ؛ لأنه ذكر هذا في موضع التهويل ، وليس في فتح أبوابها كثير تهويل . وقوله : { فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } أي : ضعيفة مسترخية . وقيل : الوهي : الخرق ، وهو يحتمل ؛ لأنها إذا انشقت انخرقت . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } الأرجاء : النواحي والأطراف ، وهي أطراف السماوات ونواحيها ، وواحد الأرجاء : رجا ، مقصور . والملك أريد به الملائكة ، أخبر أنهم على أطراف السماوات ونواحيها ، فيحتمل أنهم وكلوا وامتحنوا بها وبحفظها بعد الشق ؛ لئلا تسقط على أهل الأرض . وجائز أن يجعل أطرافها وجوانبها لبعض الملائكة ، فتفتح أبواب السماء فتنزل الملائكة الذين كان مسكنهم عندها إلى الأرض ، كما قال - تعالى - : { وَنُزِّلَ ٱلْمَلاَئِكَةُ تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] ويبقى الملائكة الذين كان مسكنهم في أرجائها ينتظرون أمر ربهم . ثم الملك ليس يحتاج إلى مكان يقر فيه وإن جعلت السماء مسكناً لهم ؛ لأن الملائكة ينزلون من السماء إلى الأرض ، ويقرون على الهواء من غير أن يكون [ في الهواء مقر ] . والثالث : يبين أنها لا تتفرق كل التفرق ، ولكن وسطها ينشق لما ذكرنا ، والباقي بحاله . ويحتمل : { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } على ما يمرّ به في السماء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } فيحتمل أن يكون الملائكة في النفخة الأولى يصعقون إلا الثمانية الذين يحملون العرش كما قال : { وَنُفِخَ فِي ٱلصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ إِلاَّ مَن شَآءَ ٱللَّهُ } [ الزمر : 68 ] ، فيكون هؤلاء الثمانية من الذين استثنوا ؛ فلا يصعقون ؛ فهم يحملون العرش ؛ فتكون أمكنتهم على أرجاء السماوات ، وهو قوله : { وَٱلْمَلَكُ عَلَىٰ أَرْجَآئِهَآ } . وقوله - عز وجل - : { ثَمَانِيَةٌ } جائز أن يكون أراد به ثمانية أملاك . وجائز أن [ يكون أراد به ] ثمانية أصناف من الملائكة ، كما ذكر في التفسير . وجائز أن يكون هؤلاء الثمانية يهلكون ثم يحيون قبل أن يحيا سائر الخلق ، فيحملون عرش ربنا على أكتافهم ، فإذا بعث الله - تعالى - الخلائق رأوا العرش على أكتافهم ، والعرش هو سرير الملك . وجائز أن يكون ذلك من نور ، كما ذكر في الخبر : " أن عين الشمس إذا أرادت أن تطلع فإن جبريل - عليه السلام - يأتي العرش ، فيأخذ كفّاً من ضيائه ، ثم يلبس الشمس كما يلبس أحدكم قميصه ، وإذا أراد القمر أن يطلع أخذ جبريل - عليه السلام - كفّاً من نور العرش ، فيلبس القمر كما يلبس أحدكم قميصه " ، فجائز أن يكون العرش من الضياء والنور . ثم أجل الأشياء وأعظمها في أعين الخلق الضياء والنور ، وإليهما ينتهي الرغب ؛ فيكون في ذكر العرش ذكر عظيم عرش الرب وملكه جل جلاله . ثم إن كل ملك في الشاهد يتخذ لنفسه عرشاً ، يتفاوت ذلك على مقدار ملكهم وسلطانهم لا ليجعل ذلك مسكناً لنفسه ، فإذا لم يتوهم من الخلق أنهم يتخذون ذلك لمقاعدهم ومجالسهم فلأن لا يتوهم ذلك من الله أولى . وقوله - عز وجل - : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } [ أي : تعرضون على أعمالكم فلا تخفى عليكم خافية ] ، أي : يظهر لكم في ذلك اليوم ، ويصير بارزاً في ذلك اليوم ، كما قال - تعالى - : { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } [ الطارق : 9 ] أي : تظهر لهم سرائرهم حتى يعرفوها ، ولا يخفى عليهم شيء منها . وجائز أن [ يكون قوله ] : { لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } أي : على الله - تعالى - ولكن كل من ادعى إخفاء شيء من أمره على الله - تعالى - وظن أن الله - تعالى - لا يطلع عليه ، فسيعلم في ذلك اليوم أنه لا تخفى عليه خافية ، وهو كقوله - تعالى - { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] ليس فيه أن الملك كان لغيره ، ولكن بعض الناس كانوا يدعون الإشراك في الملك في الدنيا ، فيتركون في ذلك اليوم دعواهم ، ويتيقنون أنه هو المنفرد بالملك ، وعلى ذلك قوله - تعالى - { وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً } [ إبراهيم : 21 ] ولم يكونوا بمختفين عنه قبل ذلك ؛ بل كانوا له في [ كل ] وقت بارزين ، ولكن من أنكر ادعاء الإخفاء في الدنيا يدع في ذلك اليوم ، ويقر بالبروز ، والله المستعان . ثم روي في الخبر " أن العرضات ثلاث : عرضتان فيهما خصومات ومعاذير " ؛ أي : يختصمون ويتنازعون ، فإذا ظهر ذلك جعلوا يعتذرون ، ويسألون ربهم العفو والصفح عن ذنوبهم وخصومهم ، و " العرضة الثالثة عند تطاير الصحف " . ومعنى قوله : { تُعْرَضُونَ } أي : يعرض الخلق بعضهم على بعض حتى لا يخفى على أحد خصمه . أو تعرض أعمالهم حتى يذكر كل أحد صنيعه ، وكل خصم خصومته ؛ فكأنهم قد نسوا ذلك من كثرة الفزع وشدة الأهوال ، لكن الله - تعالى - يطلعهم على ذلك حتى يذكروا ذلك ، والله أعلم .