Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 69, Ayat: 38-52)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ } : قد وصفنا أن تأويل قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } أي : فلا أقسم بما تبصرون من خلق السماوات والأرضين وأنفسكم ، وما لا تبصرون في أنفسكم من الأسماع ، والأبصار ، والقلوب ، والعقول . أو ما تبصرون من الخلائق ممن حضركم ، وما لا تبصرون من الخلائق ممن غاب عنكم ، فيكون القسم بما نبصر وما لا نبصر قسم بالخلائق أجمع ؛ لأن جملة الخلائق على هذين الوجهين ، فصنف منهم يرى ، وصنف لا يرى ، وقد ذكرنا أن القسم من الله - عز وجل - لتأكيد ما يقصد إليه مما يعرف بالتدبّر والتأمل . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } أي : الذي تسمعونه منه تسمعون من رسول كريم ، ثم ذكر - هاهنا - أنه قول رسول كريم ، وقال في موضع آخر : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 6 ] فذكر - هاهنا - : كلام الله ، وذكر في الآية [ الأولى ] : أنه قول رسول كريم ، فأما ما أضيف إلى الرسول فهو من حيث بلوغنا إليه من جهة الرسول ، لا بأمر غيره وصلنا إليه ، وأضيف إلى الله - تعالى - لأن مجيئه وبدأه من عنده ، وأضيف إلى الرسول ؛ لأن ظهوره في حقنا كان به ، وهذا كما أضيف ما وعاه القلب إلى الأذن بقوله : { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 12 ] ؛ لأنه إنما يوصل إلى الوعي بالأذن ؛ فعلى ذلك أضيف القول إلى الرسول من حيث كان سماع الخلق من جهة الرسول ، عليه السلام . ثم الأصل أن [ الكلام والقول ] لا يسمعان ، وإنما المسموع منهما الصوت الذي يعرف الكلام والقول به ، ويدل عليه ، لا أن يكون كلامه في الحقيقة صوته ، فينسب أيضاً هذا القرآن إلى كلام الله - تعالى - لما يدل على كلامه ، لا أن يكون المسموع - في الحقيقة - هو كلامه [ وجائز أن يكون تأويل قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } ، أي : إن الذي سمعتموه ] من النبي صلى الله عليه وسلم أتاكم به لقول تلقاه من عند الله الرسولُ الكريم ، فيذكرهم هذا ليؤمنهم من تخليط يقع فيه من الشياطين وغيرهم من الأعداء . ثم جائز أن يكون الرسول الكريم هو جبريل - عليه السلام - كما قال - تعالى - في سورة : ( إذا الشمس كورت ) : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ } [ التكوير : 19 - 20 ] . ويحتمل أن يكون الرسول الكريم هو محمداً صلى الله عليه وسلم ، والأشبه أن يكون هو المراد ؛ لأنهم كانوا ينكرون رسالته ، ولم يكونوا يقولون في جبريل - عليه السلام - شيئاً . وقوله - عز وجل - : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } أي : إن هذا القرآن لقول رسول كريم ، ليس بقول شاعر ، ولا بقول كاهن . ثم قوله : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } { قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } يحتمل أن يكون تأويله : فبقليل ما تؤمنون ، وبقليل ما تذكرون مما جاءكم به الرسول ، فالقليل الذي آمنوا به وتذكروا فيه هو الذي كان راجعاً إلى منافعهم ، فأما الذي كان عليهم فهم لم يؤمنوا به ولا تذكروا فيه ، وإذا كان تأويله ما ذكرنا ، فانتصاب القليل ؛ لانتزاع حرف الخافض ، وفي الحقيقة انتصابه [ لكونه ] مصدراً ، وهو المفعول المطلق . وجائز أن يكون أضاف القليل إلى قول : الكاهن والساحر ، وتأويله : أن الأمور لو كانت على ما تزعمون بأنه قول كاهن و [ قول ] ساحر ، فما بالكم لا تصدقون بالقليل منه ، وقد تعلمون أن الساحر وإن كان الغالب عليه الكذب فيما يأتي ، فقد يصدق في القليل منه ، وكذلك الكاهن ، فما لكم لا تصدقون بالقليل منه ، وأنتم تعلمون أنه صادق ، فإن كان على هذا فهو في موضع إيجاب الحق عليهم أن يصدقوه . وإن كان على التأويل الأول ، ففيه إضمار أنهم لا يؤمنون إلا بالقليل منه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، فالتنزيل في الحقيقة لا يحتمل أن يسمع ؛ لأنه إخبار عن فعله ، وإنما الذي يسمع منه هو المنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أضاف إلى نفسه التنزيل ؛ ليعلم أن هذه الأخبار ، وهي قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } وقوله - عز وجل - : { تَنزِيلٌ } خرجت على المجاز ، ليس على التحقيق ؛ لأن التنزيل هو إنزاله ، فسمي : تنزيلاً ؛ لأنه هو الذي كلفه الإنزال ، لا أن يكون هو الذي تولى الإنزال ، وإن كان هو خالقه . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ } ، فهذا عطف على ما تقدم من قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ } ، وعليه وقوع القسم ، وهو موضعه ؛ فكأنه يقول : إن الذي تلقاه من عند رسول كريم ، وما هو بقول تلقاه من كاهن أو ساحر ، ولا بقول تقوله علينا ، ولو تقول ، لأخذنا منه باليمين . ويحتمل وجهاً آخر ، وهو أن الذي يسمعون منه رسول كريم ، وليس بشاعر ، ولا كاهن ، ولا متقول ؛ لأنهم كانوا مرة ينسبونه إلى الكهانة ، ومرة إلى السحر ، ومرة أنه تقوله على الله ، ولو تقول { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } يبين أن عذاب الله بأخص عباده أسرع وقوعاً إذا هم خالفوا ، وزلوا - منه بأعدائه ؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } فبين أنّه لو وجد منه شيء مما قالوا فيه ، لأخذه على المكان ؛ ألا ترى إلى آدم - عليه السلام - وما حل به عندما ابتلي بالزلة والخلاف ، وكذلك يونس - عليه السلام - وما عوتب على أثر الزلة ؛ وهذا لأن عذاب الأولياء يخرج مخرج التنبيه ، والتذكير ، والاستدعاء إلى ما كانوا عليه من الطاعة ، والانقياد قبل ارتكابهم الزلة ، ولا كذلك عذاب الأعداء ، فأخر عذابهم إلى اليوم الذي يدوم عليهم فيه العذاب . وفيه وجه آخر : وهو أن الذي سمعتم منه لو كان سحراً أو شعراً أو كهانة أو تقوله ، لكان لا يمهله الله - تعالى - بل يؤاخذه على المكان من غير أن حجزوا ، كما قال : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } ، فإمهاله دل على أن الأمر ليس كما قالوا ، بل هو تنزيل من رب العالمين . وقوله - عز وجل - : { لأَخَذْنَا مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } فأخذ الله - تعالى - : عذابه وعقوبته ؛ كقوله - تعالى - : { فَأَخَذْنَٰهُمْ بِٱلْبَأْسَآءِ وَٱلضَّرَّآءِ } [ الانعام : 42 ] ، وقوله - عز وجل - : { فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } [ الأعراف : 95 ] . وقوله : { بِٱلْيَمِينِ } أي : بالقوة ؛ أي : لا يعجزنا عنه شيء ، ولا يفوتنا عذابه ؛ كقوله - عز وجل - : { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } [ الزمر : 51 ] ، و [ هو ] كقوله - تعالى - : { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } [ الواقعة : 60 ] ، أي : لا يعجزنا ما عنده من الشرف والقوة من أن نؤاخذه ، وننزل عليه النقمة . وجائز أن يكون اليمين صلة القول ، لا على تحقيق اليد ، فذكر اليمين ؛ لأن التأديب في الشاهد والأخذ يقع بها ، وهو كقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } [ الحج : 10 ] ، فأضاف التقديم إلى اليد ، لا على تحقيق اليد ؛ إذ يجوز ألا يكون ليديه بما قدم صنع ، لكن لما كان التقديم في الشاهد يقع بالأيدي ، فذكرت اليدان على ذلك ، لا على تحقيق الفعل بهما ، فكذلك يجوز أن تكون اليمين ذكرت ؛ لما بها يقع الأخذ والتأديب في الشاهد ، وإن لم يكن هناك يمين ، والله أعلم . واليمين : القوة ، وسمّيت اليمين : يميناً ؛ لأن قدرة الرجل تكون فيها ، وسمي ملك الرقاب : ملك يمين ؛ لأن ملك اليمين يكتسب بالقهر والغلبة ، وإنما يصل المرء إلى القهر والغلبة بالقوة ؛ فسمي : ملك يمين لهذا ، لا أن يراد بذكر اليمين تحقيق اليمين ؛ إذ اليد لا تملك شيئاً حتى يضاف إليها ، فكذلك فيما أضيف من اليمين إلى الله - تعالى - فالمراد منه القوة . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ ٱلْوَتِينَ } قيل : الوتين : عرق في القلب . وقيل : حبل في القلب . وقيل : هو العرق الذي إذا قطع مات صاحبه ، وهو عرق متصل بالظهر ، فكأنه قال : نعذبه عذاباً لا بقاء له مع ذلك العذاب ، وهذا من أعظم آيات الرسالة في أنهم متى زلوا أخذوا على المكان ، ويكون فيه أمان الخلق عن إحداث التغيير والتبديل من الرسل ؛ لأنهم لو غيّروا لعذبوا . ثم قوله - عز وجل - : { مِنْهُ بِٱلْيَمِينِ } فجائز أن يكون قوله : { مِنْهُ } زيادة في الكلام ، وحقه الإسقاط ، ويكون معناه : لأخذناه باليمين . وجائز أن يكون معناه : لأخذنا من تقوله وسحره وكهانته باليمين ، فإن كان على هذا فحقه الإثبات ، وليس بصلة زائدة . وقوله - عز وجل - : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } ، ففي هذا يأس منه لأولئك الكفرة ؛ لأنهم كانوا يطمعون من رسول الله صلى الله عليه وسلم اتباعهم وموافقتهم على ملتهم ؛ فأخبر أنه لو أجابهم لقطع منه وتينه ، وأخذه أخذاً لا يملكون منع ذلك عنه ، ولا دفعه ، ولم يكن أحد ينصره عند ذلك أو يحجزه عنا ، وهو كقوله - تعالى - : { وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ ٱلَّذِي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ … } إلى قوله : { إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ ٱلْحَيَاةِ وَضِعْفَ ٱلْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً } [ الإسراء : 73 - 75 ] . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } ، فالمتقون : الموحّدون ، فسمّاهم مرة : متقين ، ومرة : صابرين شاكرين ؛ كقوله - عز وجل - : { إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } [ إبراهيم : 5 ] وهو تذكرة ؛ لأنه يذكرهم الوعد والوعيد ، وما يتقى وما يؤتى ، وغير ذلك ، فهو تذكرة ، يعني : القرآن . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } أي : بآياتي ورسلي ، ثم نمهلكم ، فهو صلة قوله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ ٱلأَقَاوِيلِ } فبيّن أنه مع كذبهم بآياته ورسله يمهلهم ، ولا يعجل عليهم بالعقوبة ، ولو وجد التقول من الرسول ، لكان يستأصله ، ويقطع وتينه ، فهو على ما ذكرنا : أن عذابه على خواص عباده أسرع وقوعاً إذا خالفوا منه بأعدائه . وجائز أن يكون قوله : { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } هم المنافقون ؛ لأنهم كانوا يظهرون الموافقة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بألسنتهم ، ويخالفونه ويكذبونه بقلوبهم ؛ فيكون هذا التأويل راجعاً إلى أهل النفاق ، والتأويل الأول إلى أهل الكفر الذين أظهروا التكذيب . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى ٱلْكَافِرِينَ } ، أي : العذاب حسرة عليهم يوم القيامة ؛ لأنه شافع مشفع لمن اتبعه وعمل بما فيه ، وما حل ، مصدق لمن نبذه وراء ظهره ولم يعمل به ، فهو حسرة عليهم ؛ لأنه يخاصمهم ، فيخصمهم ويشهد عليهم ، فيصدق في شهادته . أو يذكرون يوم القيامة معاملتهم بالقرآن ، فيندمون عليه ، ويزيدهم حسرة ؛ لأنهم كانوا إذا تلي عليهم القرآن في الدنيا ازدادوا عند تلاوته ضلالاً وكفراً ، وازدادوا به رجساً إلى رجسهم ، كما قال [ الله تعالى ] : { وَأَمَّا ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَىٰ رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] ، وهو ليس بسبب لازدياد الرجس ، ولكنهم كانوا يحدثون زيادة تكذيب وضلال عند التلاوة ؛ فأضيفت الزيادة إلى القرآن ؛ إذ كان القرآن هو الذي يحملهم على زيادة التكذيب ؛ فهذه المعاملة تزيدهم حسرة يوم القيامة ؛ فأضيفت إلى القرآن ؛ إذ كان القرآن هو الذي عنده وقعوا فيه ، كما أضيف الرجس إليه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } ، والأصل : أن الحق اسم لما يحمد عليه ، فحقه أن ينظر فيما تستعمل هذه اللفظة ، فيصرفها إلى أحمد الوجوه ، فإذا استعملت في الإخبار أريد بها الصدق ؛ نحو أن يقال : " هذا خبر حق " ؛ أي : صدق ، وإذا استعملت في الحكم أريد بها : العدل ، وإذا استعملت في الأقوال والأفعال ، أريد بها : الإصابة ؛ فقوله : { وَإِنَّهُ لَحَقُّ ٱلْيَقِينِ } أي : صدق ويقين أنه من رب العالمين ، فهو صلة قوله - عز وجل - : { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ ٱلْعَالَمِينَ } . وقوله - عز وجل - : { فَسَبِّحْ بِٱسْمِ رَبِّكَ ٱلْعَظِيمِ } قيل : صلِّ . وقيل : اذكره بالاسم الذي إذا سميت كان تسبيحاً ، أي تنزيهاً عن كل ما قالت فيه الملاحدة ، وما نسبت إليه مما لا يليق به ، والله الهادي [ وعليه التكلان ] .