Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 69, Ayat: 25-37)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يٰلَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَٰبِيَهْ } والإيتاء بالشمال أحد أعلام الشقاء ، فتمنى ألا يؤتى بما فيه علم شقائه . وقوله - عز وجل - : { وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ } يقول هذا في الوقت الذي قرأ ورأى فيه خلاف ما كان يظن في الدنيا ويحسب ؛ لأنه كان يحسب أنه في الدنيا أحسن صنعاً من الذين آمنوا ، وأقرب منزلة إلى الله - تعالى - كما قال : { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } [ الكهف : 104 ] فظهر [ له بقراءته ] الكتاب أنه لم يكن على ما حسب ؛ بل قد أساء صنيعه ؛ فود عند ذلك ألا يعرف ما حسابه ؛ لئلا تظهر مساوئه . ويحتمل أنه يتمنى أنه ترك ميتاً ولم يُحي حتى كان لا يرى الحساب ولا يعرفه . وقوله - عز وجل - : { يٰلَيْتَهَا كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } أي : ياليت الميتة الأولى { كَانَتِ ٱلْقَاضِيَةَ } ، أي : يا ليت الميتة الأولى كانت دائمة علي . وقال بعض أهل التأويل : يا ليت النفخة الآخرة كانت تقضي بالموت والهلاك ، لم تكن محيية باعثة ، والله أعلم . وقال قتادة : تمنّوا الموت ، ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليهم منه ، ثم الموت عليهم مقضي ، وليس بقاضٍ ، فحقه أن يقول : يا ليتها [ كانت مقضية ] ؛ ولكن هذه اللفظة [ يذكرها الناس في كل مكروه ] من الأمور ؛ ألا ترى أن الناس يدعون الله - تعالى - بأن يصرف عنهم قضاء السوء ، وليس بقضاء الله ؛ بل هو مقضيِهِ ؛ فخرج القول على ما تعارفوا ، وهذا كما يقال : ( الصلاة أمر الله ) ، وليست هي بأمره ، ولكن تأويله : أنها بأمره ما تقام ، فسمي أيضاً قضاء الله ، وهو في الحقيقة مقضيه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ } فالأصل أن الكفرة كانوا يفتخرون بكثرة أموالهم ، فيقولون : { نَحْنُ أَكْثَـرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] فيزعمون أن الله - تعالى - بما آتاهم من الأموال يدفعون عن أنفسهم العذاب بأموالهم إن حل بهم ، فيتبين لهم في ذلك الوقت أنها لا تغني عنهم شيئاً ، فيقول كل واحد منهم : { مَآ أَغْنَىٰ عَنِّي مَالِيَهْ } . وقوله - تعالى - : { هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } ذكر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : كل سلطان في القرآن فهو حجة ، فالأصل : أن الكافر كان يحتج في الدنيا لنفسه بحجج باطلة ، فمرة يقول : { مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [ الشعراء : 154 ] ، ويقول مرة : { مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ الأحقاف : 17 ] ، ومرة يقول : هذا سحر ، ومرة يقول : هو مجنون ، وغير ذلك ، فيعبر بقوله : { هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } أي : هلكت تلك الحجج التي [ كنا ] نتشبث بها ، واضمحلت ، وظننا أنها حجج . ومنهم من يقول : السلطان : هو القدر والشرف ؛ أي : ذهب ذلك كله . وقيل : أي : هلك عني تكبّري وسلطاني على الأنبياء - عليهم السلام - في الدنيا وترك الاكتراث إليهم . وجائز أن يكون أراد به : أن السلطان الذي كان لي على نفسي في الدنيا قد انقطع ؛ لأنه كان يملك استعمالها في مرضاة الله - تعالى - فيقول : قد انقطع ذلك السلطان ؛ لأني لا أملك استعمالها فيما أستوجب به مرضاة الله ؛ لأنه يسلم فلا يقبل منه إسلامه . ثم يجوز أن تكون الهاءات في هذه الخطابات على معنى الإشارات إلى الأنفس ، أو على تأكيد الأمر والمبالغة : كالنسابة ، أو كأنهم ينادون أنفسهم بذلك ، وقد تدخل الهاء في النداء ؛ كقوله يا ربّاه ، ويا سيّداه . وجائز أن يكون الوقف وإجمام الكلام ، وأهل النحو يسمّونه : هاء الاستراحة . وقوله - عز وجل - : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } ، وقال في موضع آخر { خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ } [ الدخان : 47 ] وهو السوق على العنف ، وقال في موضع آخر : { وَنَسُوقُ ٱلْمُجْرِمِينَ إِلَىٰ جَهَنَّمَ وِرْداً } [ مريم : 86 ] ، فكأنهم - والله أعلم - يغلون ، وبدأ بالأمر بالإغلال ؛ لأن الناس في الدنيا يجتهدون كل الجهد في منع العذاب بأيديهم ، فأخبر أن أيديهم تغل في الآخرة ؛ فلا يتهيأ لهم دفع ما يحل بهم من العذاب ؛ فيكون ذلك أشد في العذاب عليهم ، ويكون حالهم كما قال الله - تعالى - : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوۤءَ ٱلْعَذَابِ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } [ الزمر : 24 ] فتغل يداه ؛ كي يتقي النار بوجهه ، ثم يدخلون في السلاسل فيجرون ويسحبون ويساقون على وجوههم على اختلاف أحوال القيامة . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ ٱلْجَحِيمَ صَلُّوهُ } أي : أدخلوه ، يقال : لحم مصلي : أي مشوي ؛ فجائز أن يؤمر بأن يشوى في الجحيم . وقوله : { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } فذكر أولاً : أنهم يغلون ، ثم يصلون الجحيم ، ثم يسلسلون إذ ذاك ، وحق مثله أن يسلسل ، ثم يمد إلى الجهنم ، ولكنّه يشبه أن يكونوا أولاً يحشرون ، ثم يساقون إلى نار جهنم بقوله : { وَسِيقَ ٱلَّذِينَ كَـفَرُوۤاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ زُمَراً } [ الزمر : 71 ] وإذا وردوها هموا أن يفروا منها ، فيسلسلون إذ ذاك ، ويسحبون في النار حينئذ ؛ فلا يتهيأ لهم الهرب . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ } ففيه بيان السبب الذي لأجله استوجبوا هذا العقاب ، وهو أنهم كانوا لا يؤمنون بالله العظيم . ثم قوله : { لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } جائز أن يكون لا يؤمن [ بوحدانية الله ] ، أو لا يؤمن بإرسال الرسل ، أو كان لا يؤمن بالبعث ، وإلا فهم يؤمنون بالله ، ولكن من لم [ يكن مؤمناً ] بالرسل والبعث فهو غير مؤمن في الحقيقة ؛ لأن الإله الحق هو الذي أرسل الرسل ، ويقدر على البعث ، والكافر لا يثبت له قدرة البعث ، ولا يراه أرسل الرسل ، فصار لا يؤمن بالله العظيم في الحقيقة . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } ، إخبار أنه كان لا يؤمن بالبعث ؛ لأن الناس ليسوا يطلبون من [ المساكين الجزاء ] لما يطعمونهم ، وإنما يطعمونهم لوجه الله تعالى ، ورجاء الثواب في الآخرة ، والكافر غير مؤمن بالجزاء ؛ ليحمله ذلك على الإطعام ، وليس هو بكسب يرغب فيه من مكاسب الدنيا ؛ فكأنه يقول : إن الذي أفضى به إلى النار تركه الإيمان بالله - تعالى - أو بالبعث . ويجوز أن يكون قوله : { وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } إثبات السخرية من الذي ترك الحض على أهله بالإطعام ؛ كقوله : { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] يقول : كيف أطعمه ومن بيده خزائن السماوات والأرض لا يطعمه ؟ ! فلو كان أهلاً للإطعام لكان الأولى من يطعمه هو الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { فَلَيْسَ لَهُ ٱلْيَوْمَ هَا هُنَا حَمِيمٌ } أي : قريب يرجو منه ، وهو كقوله : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] فليس له قريب يرجوه ، أو ينفعه ذلك الحميم ، وقد كان له في الدنيا حميم ينتفع به ويرجو منه . وقوله : { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } ، وقال في موضع آخر : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } [ الغاشية : 6 ] ، وقال في موضع آخر : { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا ٱلضِّآلُّونَ ٱلْمُكَذِّبُونَ * لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا ٱلْبُطُونَ } [ الواقعة : 51 - 53 ] والزقوم غير الضريع ؛ فهذا - والله أعلم - يدل أن في جهنم دركات ، فأهل دركة منها لا يجدون غير الغسلين ، وأهل دركة منها [ يجدون غير ذلك ، وأهل دركة منها ] طعامهم الزقوم ، ليس لهم غيره ، وإلا لو لم يحمل الأمر على هذا ، أوجب ما ذكرناه [ اختلافاً ، فيخرج أن يكون من عند الله بقوله : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ ٱللَّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ ٱخْتِلاَفاً كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ] . ثم يجوز أن يكون قدر لأهل كل دركة ما توجبه الحكمة أن يكون ذلك طعامهم ؛ فعلى ما كانوا يفتخرون في هذه الدنيا بالأطعمة على من دونهم ، ويهينون من لم يكن عنده ذلك الطعام ، جعل الله - تعالى - لهم من ذلك الوجه طعاماً في الجحيم يهانون به . وقال الحسن : إن القرآن كله كسورة واحدة ، والسورة كأنها آية واحدة ، فكأنه جمع بين هذه الأشياء كلها في آية واحدة فقال : { وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } ، { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } [ الغاشية : 6 ] ، و { مِّن زَقُّومٍ } [ الواقعة : 52 ] ، وإذا حمل على ما ذكر ارتفع توهم التناقض ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } فجائز أن يكون هذا اسماً لشيء من الأشياء التي يعذب بها أهل النار ، لم يطلع الله - تعالى - الخلق على علم ذلك ومعرفته في الدنيا ، وقد ذكر أسامي في الآخرة ليس للخلق بمعرفتها عهد ؛ ألا ترى أن الزقوم ليس باسم لشيء يستقبح ويستفظع في الدنيا ، ثم جعله الله - تعالى - اسماً للشيء المستبشع الكريه في الآخرة ، وقال { عَيْناً فِيهَا تُسَمَّىٰ سَلْسَبِيلاً } [ الإنسان : 18 ] ، والسلسبيل غير معروف فيما بين أهل اللسان . وقال بعضهم : الغسلين : ما يسيل من جلود أهل النار إذا عذبوا ، وذلك هو الصديد والقيح . وجائز أن يكون إذا اشتد حرهم استغاثوا إلى الله - تعالى - وطلبوا منه ما يرجون أن يرفع عنهم الحر ، فيصب عليهم ما يزيد في عذابهم ؛ فيسمى ما يزول عنهم : غسلينا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ ٱلْخَاطِئُونَ } ، فهم الذين قال : { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ ٱلْعَظِيمِ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } . ثم قوله - عز وجل - : { فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً } لا يجوز أن تكون السلسلة تفضل عن أبدانهم فتأخذ فضل مكان من جهنم ؛ لأنه - تعالى - وعد أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين ، ولو كانت تلك السلسلة آخذة فضل مكان ، لكان لا يقع الامتلاء بالجنة والناس أجمعين فقط ، فيؤدي إلى خلف الوعد ، والله - عز وجل - لا يخلف الميعاد ، ولكن إن كانت تلك السلسلة أطول من أبدانهم فهي تدار على أهلها ؛ ليقع لهم بها فضل تضييق وغم ، فأمّا أن تفضل عن أبدانهم فلا يحتمل . وذكر عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : " حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ؛ فإنه أهون - أو قال : أيسر - عليكم ، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا ، وتجهزوا للعرض الأكبر يوم القيامة ؛ { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ } [ الحاقة : 18 ] " . وعن الحسن أنه قال : " إن المؤمن قوام نفسه ، يحاسب نفسه لله - تعالى - وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة ؛ لأن المؤمن يفجؤه الشيء فيقول : والله إني لأستهينك وإنك لمن حاجتي ، ولكن والله ما لي من صلة إليك ، هيهات حيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء ؛ فيرجع إلى نفسه ، فيقول : ما أردت هذا ، ما لي ولهذا ، والله ما أعذر ، والله لا أعود لهذا إن شاء الله - تعالى - إن المؤمنين قوم أوثقهم العذاب ، وحال بينهم وبين هلكتهم ، إن المؤمن أسِير في الدنيا يسعى في فكاك نفسه ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وبصره ولسانه وجوارحه كلها . فمحاسبة النفس : أن ينظر في كل فعل يريد أن يقدم عليه إلى عاقبته ، فإن كان رشداً أمضاه وأنفذه ، وإن كان غيّاً انتهى عنه ، كما قال [ النبي ] - عليه السلام - : " إذا أردت أمراً فدبّر عاقبته ، فإن كان رشداً فأمضه ، وإن كان غيّاً فانته عنه " . وقال في خبر آخر : " إن المؤمن وقّاف وزان " ، ووزنه : ما ذكر في الخبر الأول من النظر في العواقب ، فإذا نظر في العاقبة ، ورأى الرشد في إنفاذه ، فقد وزنه ، وإذا رأى خلاف الرشد ، انتهى عنه ، ولم يقدم عليه ، فذلك وقفه ، فهذا الذي ذكرنا محاسبة المرء نفسه فيما يروم من الأمور . ومحاسبة نفسه في الأفعال التي ارتكبها وأمضاها أن ينظر : فإن كان ارتكب محرماً ، تاب عنه ، واستغفر لله - تعالى - لعله بفضله يمن عليه بالمغفرة ، وإن كان ذلك فعلاً مرضياً حمد الله - تعالى - وسأله التوفيق بمثله ؛ فهذه هي [ محاسبة العبد لنفسه فيما ارتكب ] من الأفعال .