Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 142-144)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَوَاعَدْنَا مُوسَىٰ ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } . ذكر ههنا ثلاثين ليلة ثم ذكر التمام بالعشر ، وذكر في السورة التي [ فيها ] ذكر البقرة أربعين ليلة بقوله : { وَإِذْ وَٰعَدْنَا مُوسَىٰ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [ البقرة : 51 ] ، وهو واحد كان الميعاد له أربعين ليلة ، لكن يحتمل ذكر ثلاثين مرة وعشراً وجهين : أحدهما : أن ثلاثين ليلة كان لأمر وعشراً لأمر آخر ، فذُكِرَت متفرقة لما كان الأمرين مختلفين . والثاني : أنه كان في وقتين ، كان هذا في وقت والآخر في وقت ، والقصّة واحدة ، والميعاد واحد ، فذكر التمام بعشر ؛ كقوله : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي ٱلْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } [ البقرة : 196 ] ، وإن كانت في وقتين ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } . قيل : [ تم ] الميعاد الذي وُعِدَ له أربعين ليلة . وقوله - عز وجل - : { وَقَالَ مُوسَىٰ لأَخِيهِ هَارُونَ ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } . فإن قيل : ما معنى قول موسى لأخيه هارون : { ٱخْلُفْنِي فِي قَوْمِي } ، وهو كان مبعوثاً معه ، رسولان إلى فرعون مشتركان في تبليغ الرسالة [ إلى فرعون ] بقوله : { وَأَشْرِكْهُ فِيۤ أَمْرِي } [ طه : 23 ] ، وقوله : { إِنَّا رَسُولُ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ الشعراء : 16 ] وقوله : { فَأْتِيَاهُ فَقُولاۤ إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } [ طه : 47 ] ، وقوله : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي } [ القصص : 34 ] فإذا كان هو رسولاً كموسى في تبليغ الرسالة ، كيف احتاج إلى أن يقول موسى : اخلفني في قومي وهما - شرعاً - سواء في الرسالة ؟ قيل : يحتمل هذا وجهين : [ يحتمل ] أن يكونا كما ذكر رسولين ، لكن من ولى اثنين أمراً لم يكن لواحد منهما أن ينفرد به إلا بأمر الآخر ، فعلى هذا كأنه قال له : اخلفني في الحكم بينهم ، وأصلح ذات بينهم ، ولا تتبع من دعاك إلى سبيل المفسدين . أو يحتمل أن يكون موسى كان هو الرسول أولاً وكان إليه الحكم ، وهارون كان دخيلاً في أمره ردءاً له على ما قال : { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي } [ القصص : 34 ] ولأن موسى كان هو المأمور بها أولاً والمبعوث إليهم دونه . ألا ترى أنه كان هو المناجي ربه دون هارون ، وكان هو المعطي الألواح دون هارون ؛ كقوله : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي ٱلأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 145 ] ، وهو الذي قال : { إِنِّيۤ آنَسْتُ نَاراً } [ طه : 10 ] ، وهو الذي نودي بالبركة دون هارون ، وغير ذلك من الآيات ، فإذا كان كذلك استخلفه موسى في قومه . وقوله - عز وجل - : { وَلَمَّا جَآءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا } . أي : لميعادنا الذي وعدناه . { وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } . لا يجوز لنا أن نصف كيفية الكلام وماهيته ، سوى أنه أنشأ كلاماً وصوتاً أسمعه موسى كيف شاء بما شاء بكلام مخلوق وصوت مخلوق . { قَالَ رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي . … } الآية [ الاعراف : 143 ] . قال قائلون : إن موسى لم يسأل ربَّه الرؤية لنفسه ، ولكن سأل لقومه لسؤال القوم له ؛ كقوله : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى ٱللَّهَ جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] ، لكن هذا بعيد ؛ لأنه لو كان سؤاله إياه لسؤال قومه ، لكان لا يقول : { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } ، ولكن يقول : أرهم ينظرون إليك ، فدل أنه لم يكن لذلك . وقال قائلون : لم يكن سؤال ربه رؤية الرب ، ولكن سأل ربه رؤية الآيات والأعلام والأدلة التي بها يُرَى ، وذلك جائز سؤال الرؤية : سؤال رؤية الآيات والأعلام ، وذلك أيضاً بعيد ؛ لأنه قد أعطاه من الآيات والأعلام ما لم يكن له الحاجة إلى غيرها من الآيات ؛ من نحو : العصا التي كان يضرب بها الحجر فَتَفْجُرُ منه اثنتي عشرة عيناً ، وما كان من فرق البحر وإهلاك العدو ، واليد البيضاء ، وغير ذلك من الآيات ، فإذا بطل ذلك ، دل أنه سأل حقيقة الرؤية ، والقول بها لازم عندنا في الآخرة ، وحق من غير إدراك ولا تفسير ، والدليل على ذلك قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ وَهُوَ يُدْرِكُ ٱلأَبْصَٰرَ } [ الأنعام : 103 ] ، ولو كان لا يرى لم يكن لنفي الإدراك حكمة ؛ إذ لا يدرك غيره بغير الرؤية ، فمع نفي الإدراك وغيره من الخلق لا يدرك إلا بالرؤية لا معنى له ، والله الموفق . وأيضاً قول موسى : { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ … } الآية ولو كان لا يجوز الرؤية لكان منه جهل بربه ، ومن يجهله لا يحتمل أن يكون موضعاً لرسالته ، أميناً على وحيه . وبعد فإنه لم ينهه ولا آيسه ، وبدون ذلك قد نهى نوحاً وعاتب آدم وغيره من الرسل ، وذلك لو كان لا يجوز لبلغ الكفر ثم قال : فإن استقر مكانه فسوف تراني . فإن قيل : لعله سأل آية ليعلم بها ؟ قيل : لا يحتمل ذا ؛ لوجوه : أحدها : أنه قال : { لَن تَرَانِي } ، وقد أراه الآية . وأيضاً أن طلب الآيات يخرج مخرج التعنت ؛ إذ قد أراه الآيات على ما ذكرنا ، وذلك صنيع الكفرة أنهم لا يزالون يطلبون الآيات ، وإن كانت الكفاية قد [ ثبتت ] لهم فمثله ذلك أيضاً . وأيضاً إنه قال : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي … } [ و ] الآية التي يستقر معها الجبل [ هي ] دون التي لا يستقر معها ؛ ثبت أنه لم يرد بذلك الآية . وأيضاً محاجة إبراهيم - عليه السلام - قومه في النجوم وما ذكر بالأفول والغيبة ، ولم يحاجهم بألاّ يحب ربّاً يرى ، ولكن حاجهم بألا أحب ربّاً يأفل ؛ إذ هو دليل عدم الدوام ، ولا قوة إلا بالله . وأيضاً قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 23 ] ، ثم لا يحتمل ذلك الانتظار ؛ لوجوه : أحدها : أن الآخرة ليست بوقت للانتظار ، إنما هي الدنيا ، وهي دار الوقوع والجود إلا في وقت الفزع ، وقيل : أن يعاينوا في أنفسهم ما له حق الوقوع . والثاني : قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } [ القيامة : 22 ] : وذلك وقوع الثواب . والثالث : قوله : { إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 23 ] : وإلى حرف يستعمل في النظر إلى الشيء لا في الانتظار . والرابع : أن القول به يخرج مخرج البشارة لعظيم ما نالوه من النعم ، والانتظار ليس منه ، مع ما كان الصرف عن حقيقة المفهوم قضاء على الله ، فيلزم القول بالنظر إلى الله ، كما قال على نفي جميع معاني الشبه عن الله سبحانه على ما أضيف إليه من الكلام والفعل والقدرة والإرادة أن يجب الوصف به على نفي جميع معاني الشبه ، وكذلك القول بالهيئة ، فمن زعم أن الله تعالى لا يقدر أن يكرم أحداً بالرؤية ، فهو يقدر في الرؤية التي فهمها من الخلق ، وإذا كان القول بـ { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [ طه : 5 ] وغير ذلك من الآيات لا يجوز دفعها بالعرض على المفهوم من الخلق ، بل يحقق ذلك على نفي الشبه ، فمثله خبر الرؤية . وأيضاً قوله : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ ٱلْحُسْنَىٰ وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] ، وجاء في غير خبر النظر إلى الله ، وقد يحتمل غير ذلك ممّا جاء فيه التفسير ، لكنه لولا أن القول بالرؤية كان أمراً ظاهراً ، لم يحتمل صرف ظاهر لم يجيء فيها إليها ويدفع به الخبر ، والله أعلم . وأيضاً ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير خبر أنه قال " [ إنكم ] سترون ربكم يوم القيامة كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون " ، وسئل : " هل رأيت ربك ؟ فقال : بقلبي قلبي " ، فلم ينكر على السائل السؤال ، وقد علم السائل [ أن ] رؤية القلب إذ هي علم قد علمه ، وأنه لم يسأل عن ذلك ، وقد حذر الله المؤمنين [ عن السؤال ] عن أشياء قد كفوا عنها بقوله : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } [ المائدة : 101 ] ، فكيف يحتمل أن يكون السؤال عن مثله يجيء ، وذلك كفر في الحقيقة عند قوم ، ثم لا ينهاهم عن ذلك ولا يوبخهم في ذلك ، بل يليق القول في ذلك ، ويرى أن ذلك ليس ببديع ، والله الموفق . وأيضاً : إن الله وعد أن يجزي أحسن مما عملوا به في الدنيا ، ولا شيء أحسن من التوحيد ، وأرفع قدراً من الإيمان به ؛ إذ هو المستحسن بالعقول والثواب الموعود من جوهر الجنة ، حسنة حسن الطبع ، وذلك دون حسن العقل ؛ إذ لا يجوز أن يكون شيء حسناً في العقول لا يستحسنه ذو عقل ، وجائز ما استحسنه الطبع طبعاً لا يتلذذ به كطبع الملائكة ، ومثله في العقوبة ؛ لذلك لزم القول بالرؤية لتكون كرامة تبلغ في الجلالة ما أكرموا به ، وهو أن يصير لهم المعبود بالغيب شهوداً كما صار المطلوب من الثواب حضوراً ، ولا قوة إلا بالله . ولا يحتمل العلم ؛ لأن كلاًّ يجمع على العلم بالله في الآخرة العلم الذي لا يعتريه الوسواس ، وذلك علم العيان لا علم الاستدلال ، وكثرة الآيات لا تحقق علم الحق الذي لا يعتريه ذلك ، دليله قوله : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ … } [ الأنعام : 111 ] الآية ، وما ذكر من استعانة الكفرة بالكذب في الآخرة وإنكار الرسل [ عليهم ] ، وقولهم : { لَمْ يَلْبَثُوۤاْ إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } [ الأحقاف : 35 ] ، وغير ذلك . وبعدُ ، فإنه إذ لا يجوز أن يصير علم العيان بحق علم الاستدلال ، لم يجز أن يصير علم الاستدلال بحق علم العيان ، فثبت أن الرؤية توجب ذلك . وبعدُ ، فإن في ذلك العلم يستوي الكافر والمؤمن والبشارة بالرؤية خُصَّ بها المؤمن ، ولا قوة إلا بالله . ولا نقول بالإدراك ؛ لقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ } [ الأنعام : 103 ] ؛ فقد امتدح بنفي الإدراك لا بنفي الرؤية ، وهو كقوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] ، كان في ذلك إيجاب العلم ، ونفي الإحاطة ، فمثله في حق الإدراك ، وبالله التوفيق . وأيضاً إن الإدراك إنما هو الإحاطة بالمحدود ، والله يتعالى عن وصف الحدِّ ؛ إذ هو نهاية وتقصير عما هو أعلى منه على أنه واحدي الذات ، والحدُّ وصف المتصل الأجزاء حتى ينقضي مع إحالة القول بالحد ؛ إذ كان كل ما يحد أو به يحد ، فهو على ذلك لا يتغير ، على أن لكل شيء حدّاً يدرك سبيله نحو الطعم واللون والذوق والحد ، وغير ذلك من الحدود وخاصية الأشياء ، جعل الله لكل شيء من ذلك وجهاً يدرك ويحاط به ، حتى العقول والأعراض ، وأخبر الله تعالى أنه ليس بذي حدود وجهات من طرق إدراكه بالأسباب الموضوعة لتلك الجهات ، وعلى ذلك القول بالرؤية والعلم جميعاً ، ولا قوة إلا بالله . وبعدُ ، فإن القول بالرؤية يقع على وجوه لا يعلم حقيقة كل وجه من ذلك إلا بالعلم بذلك الوجه حتى إذا عبر عنه بالرؤية صرف إلى ذلك ، وما لا يعرف له الوجه بدون ذكر الرؤية لزم الوقف في ماهيتها على تحقيقها . وأما الإدراك : فإنما هو معنى الوقوف على حدود الشيء . ألا ترى أن الظل في التحقيق يُرَى ، لكنه لا يدرك إلا بالشمس ، وإلا كان مرئيّاً على ما يرى لوقت نسخ الشمس ، ولكن لا يدرك بالرؤية إلا بما يتبين له الحد ، وكذلك ضوء النهار يرى لكن حده لا يعرف بذاته ، وكذلك الظلمة ؛ لأن طرفها لا يرى فيدرك ويحاط به ، وبالحدود يدرك الشيء ، وإن كان يرى لا بها ؛ ولذلك ضرب المثل بالقمر ، لأنه لا يعرف حده ولا سعته ليوقف ويحاط به ويرى بيقين ، ولا قوة إلا بالله . والأصل فيه القول بذلك على قدر ما جاء ، ونفي كل معنى من الخلق ، ولا يفسر بما لم يجيء ، والله الموفق . ثم زعم الكعبي أن الغائب إذا لم يخرج عن الوجوه التي بها يعلم ، فكذلك لا يرى إلا بالوجوه التي بها يرى من المباينة للمدى ، ولما حل فيه المرئي بالمسافة والمقابلة واتصال الهواء والصغر وعدم الصغر والبعد ، ولو جازت الرؤية بخلاف هذه لجاز العلم به . وقال الشيخ - رحمه الله - : وهذا خطأ ؛ لأنه قدر برؤية جوهره ، وقد علم أن غير جوهره جوهر يرون من الوجه الذي لا يقدر على الإحاطة بجوهره فضلاً عن إدراكه ببصره ؛ نحو الملائكة والجن وغيرهم ممّا يروننا من حيث لا نراهم ، والجثة الصغيرة نحو البق ، ونحو ذلك مما يرى لنا لو توهم مثل ذلك البصر لما احتمل الإدراك ، ويرى الملك الذي يكتب جميع أفعالنا ، ويسمع جميع أقوالنا على ما لو أردنا تقدير ذلك بما عليه جبلنا للزم إنكار ذلك كله ، وذلك عظيم ، وكذلك ما ذكر من نطق الجلود ، وغيرها مما لو امتحن بمثلها أمر الشاهد لوجد عظيماً . وبعدُ ، فإنه في الشاهد يفصل بين البصرين في الرؤية والتمييز على قدر تفاوتهما بما اعتراهما من الحجب ، مما لو قابل أحدهما حال الآخر على حاله وجده مستنكراً ، وإذا كان كذلك بطل التقدير بالذي ذكر ، والله الموفق . وأيضاً : إنه في الشاهد بكل أسباب العلم لا يعلم غير العرض والجسم ، ثم جائز العلم بالغائب خارجاً منه ، فمثله الرؤية . والثالث : ما ذكرنا من رؤية الظل والظلمة والنور من غير شيء من تلك الوجوه . والرابع : أنه قد يجوز وجود تلك المعاني كلها مع عدم الرؤية ، إما بالحجب أو بالجوهر ، فجاز تحقيق الرؤية على نفي تلك المعاني نحو ما أجيب القائل بالجسم عند معارضته بالفاعل والعالم ؛ إذ وجد جسم لا كذلك ، فيجوز وجود ذلك ولا جسم ، فمثله في الرؤية على أن البعد الذي يحجبنا الرؤية يجوز أن يبلغه بصر غيرنا ، فصار ارتفاع الرؤية بالحجاب ، فإذا ارتفع جاز ، ولا قوة إلا بالله . وبعدُ ، فإن الذي يقوله تقدير برؤية الأجسام ، ولم يمتحن بصره بغير الأجسام والأعراض ؛ إذ كيف سبيل الرؤية له . وبعد ، فإن كل جسم يرى ، وإن كانت الدقة والبعد يحجبان فيجوز ارتفاعهما عن بصر غير فيرى على ما يرى ملك الموت مَنْ بأطراف الأرض ووسطها مما لو اعتبر ذلك ببصر البشر ، لما احتمل الإدراك ، فثبت أن الذي قدر به ليس هو سبب تعريف ما يبصره ، ولكن بسبب تعريف ما يحجب به البصر ، فإذا ارتفع رأى مع ما كان المنفي رؤيته لذاته عرض ، وإلا فكل جسم يرى ، فإن لزم إنكار الرؤية لما ليس بجسم أو لما لا يرى إلا بما ذكر للزم الإقرار به ؛ لأن الذي لا يرى لذاته هو العرض ، وإلا فكل غير يرى ، ولا قوة إلا بالله . وعورض بأمر الدنيا ومحال العرض بذلك لا تسقط المحنة وترفع الكلفة والدنيا هي لهما . ثم ذكر في أمر موسى أن ذلك على علم الإحاطة بالآيات ، وقد بيّنا فساد ذلك ، وما ذلك العلم بالذي يسأل وهو رسول بعث إلى ما به نجاة الخلق ، وذلك لا يكون بغير الممتحن ؛ إذ هو تبليغ الرسالة والدعاء إلى العبادة وهي محنة ، بل سأل الرؤية ؛ ليجل قدره [ و ] ليعرف عظيم محله عند الله ، أو أن يكون الله أمره به ؛ ليعلم الخلق جواز ذلك ، وبالله التوفيق . ثم استدل بأنه لم ير من يعقل إنما أُري الجبل والجبل لا يعقل ليعلمه وليراه ، فيقال له : ولو كانت الآية فالجبل لا يراها ولا يعقل ، وإذا كان كذلك فالآية إذا صار اندكاك الجبل وانشقاقه لا أن أراه الآية يستدل بها ، وفي هذا آية قد أرى موسى الآية ، وهو اندكاك الجبل ، والله يقول : { لَن تَرَانِي } ، وحملته على الآية ، وقد رآها ، ولا قوة إلا بالله . فإن قيل : ما معنى توبته لو كان سؤاله على الأمر ؟ قيل : على العادة في الخلق من يحدثه عند الأهوال بلا حدوث ذنب ، أو لما رأى من جلال الله وعظمته فزع إلى التوبة وإحداث الإيمان به ، وإن لم يكن ما يوجب ذلك ، وذلك متعارف في الخلق . ويحتمل أن يكون قوله : { لَن تَرَانِي } كان عنده جواز الرؤية في الشاهد ، واحتمال وسعه ذلك بما وعد الله في الآخرة فرجع عما كان عنده ، وآمن بالذي قال : { لَن تَرَانِي } ، وإن كان في الأصل إيمانه داخلاً على نحو إحداث المؤمنين الإيمان بكل آية تنزل ، وبكل فريضة تتجدد ، وإن كانوا في الجملة مؤمنين بالكل ، والله الموفق . وقد بيّنا ما قالوا في قوله : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22 - 23 ] ، والأصل في الكلام أنه إذا كان على أمر معهود ، أو يقرن به المقصود إليه صرف عن حقيقته ، وإلا لا ، وذلك نحو قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ ٱلظِّلَّ } [ الفرقان : 45 ] ، وألم تر كيف فعل ربك . وأصله : أن من قال : رأيت فلاناً ، أو نظرت إلى فلان ، لم يحتمل غير ذاته ، وإذا قال : رأيته يقول كذا ، ويفعل كذا ، أنه لا يريد به رؤية ذاته ، فمثله أمر قصة موسى ، وهذه الآية . وروي عن ضرار بن عمرو أنه أتى البصرة ، فقال : يا أهل البصرة ، إما أن كان موسى مشبهاً ، وإما أن كان الله يُرَى ؛ لأنه لو كان بالذي لا يرى فسأل ربّه رؤيته ، كان جاهلاً به ، مشبهاً خلقه به ، فدل أنه يرى . ثم الأصل أن من تأمل الذي ذكره الكعبي عرف أنه مشبهي المذهب ؛ لأنه لم يذكر المعنى الذي له يجب أن تكون الرؤية بتلك الشرائط ، إنما أخبر أنه كذلك وجد ، وهو قول المشبهة أنه وجد كل فاعل في الشاهد جسماً ، وكذا كل عالم ، فيجب مثله في الغائب ، ثم ذكر معنى رؤية الجسم ، ولم يذكر معنى رؤية غير الجسم حتى يكون له دليلاً . وبعد ، فإنه نفي بالدقة والبعد وهما زائلان عن الله تعالى ، ثم احتج بامتداح الله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ ٱلأَبْصَٰرُ } [ الأنعام : 103 ] ، وقال : لا يجوز أن يزول فمثله عليه في قوله : { خَٰلِقُ كُلِّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 102 ] وقوله : { وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ المائدة : 120 ] ، فلا يجوز أن يزول ، ثم قد وصف الله بالرؤية على إسقاط ما ذكر ، فثبت أن ذلك طريق لا يؤدي عن كنه ما به الرؤية . فإن قيل : كيف يرى ؟ قيل : بلا كيف ؛ إذ الكيفية تكون لذي صورة ، بل يرى بلا وصف قيام ، وقعود ، واتكاء ، وتعلق ، واتصال ، وانفصال ، ومقابلة ، ومدابرة وقصر ، وطول ، ونور ، وظلمة ، وساكن ، ومتحرك ، ومجانس ، ومباين ، وخارج ، وداخل ، ولا معنى يأخذه الوهم أو يقدره العقل لتعاليه عن ذلك . وقوله - عز وجل - : { فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً … } الآية . قال أبو بكر الأصم : تجلي بالآيات والأعلام التي بها يرى [ لا رؤية الذات ] ، وكذلك قال في قوله : { رَبِّ أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } : إنه إنما سأل ربه الآيات والأعلام التي [ بها ] يُرَى لا رؤية الذات ، وقد بينا بُعْدَه وإحالته ؛ لما قد أعطاه من الآيات والأعلام : [ ما فيه ] غنية عن غيرها ، فلا يحتاج إلى غيرها . وقال الحسن : إن موسى سأل ربه الرؤية في غير وقت الرؤية ، وهو يقر بالرؤية ، لكنه يقول : سألها في الدنيا وبنية هذا العالم لا تحتمل ذلك . ألا ترى أنه قال : { فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } ، أخبر أن الجبل لا يستقر له ، فكيف تستقر أنت ؟ لكنه ينشيء بنية تحتمل ذلك . وقال الحسن : لذلك قال موسى : إني { تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } أن ليس في الدنيا الرؤية ، إلى نحو هذا يذهب الحسن ، وقد ذكرنا نحن الوجه على قدر ما حضر لنا . وقال أهل التأويل : قوله : { تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ } ، أي : ظهر ، لكن لا يفهم من ظهوره ما يفهم من ظهور الخلق على ما ذكرنا في قوله : { ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } [ الأعراف : 54 ] وقوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ } [ الفجر : 22 ] [ وغيرهما ] من الآيات ، لا يقدر استواؤه باستواء الخلق ، وكذلك مجيئه ، فعلى ذلك ظهوره ، وبالله العصمة . وروي أن في التوراة " أنه جاء من طور سيناء ، وظهر من جبل ساعور واطلع من جبل فاران " وتأويله جاء وحيه على موسى في طور سيناء ، وظهر على عيسى في جبل ساعور ، واطلع على محمد في جبل فاران ، ثم العجب أن كيف اجترأ موسى بالسؤال بسؤال مثله ؟ ! { أَرِنِيۤ أَنظُرْ إِلَيْكَ } ، لكنه يحتمل وجوهاً : أحدها : على الأمر بالسؤال على ذلك ؛ ليعلم أنه يرى ، ويعتقدوا ذلك . أو على الظن منه لما رأى أنه أعطاه أشياء لا يكون مثلها في الدنيا إنما يكون في الآخرة ، خص بها ؛ من نحو انفجار العيون من الحجر من غير مؤنة تكون لهم في ذلك من حفر الأنهار وإصلاحها وأنواع المؤن ، ونحو ما أعطاهم من اللباس الذي ينمو ويزداد على قدر قامتهم وطولهم ، ومن نحو ما أعطاهم من المن والسلوى على غير مؤنة ولا جهد ، وذلك كله وصف الجنة ، فلما رأى ذلك ظن أن الرؤية - أيضاً - تكون في الدنيا على ما كان له من أشياء لم يكن مثلها لأحد في الدنيا ، أو لمّا رأى أنه سمع كلام ربه ، وألقى [ على ] مسامعه كلامه لا من مكان ، ولا من قريب ، ولا [ من ] بعيد ، [ ولا من أسفل ، ] ولا من أعلى ، ولا من فوق ، ولا من تحت ، لكنه سمعه بما شاء ، وكيف شاء ، بلطفه ، فعلى [ ذلك ] ظن أنه يجوز له أن يسأل ربه الرؤية ، فيريه ، بما شاء كيف شاء بلطفه كما [ أسمع كلامه بلطفه لما ] ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { قَالَ يٰمُوسَىٰ إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } . سمى الله - عز وجل - موسى وسائر الأنبياء - عليهم السلام - بأسماء الجوهر : موسى ، وعيسى ، ونوح وإبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، وسمى نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم نبيّاً ورسولاً ، وذلك يدل على تفضيله ، وكذلك سمى سائر الأمم المتقدمة بـ { يَٰبَنِي إِسْرَائِيلَ } [ البقرة : 40 ] و { يَابَنِيۤ ءَادَمَ } [ الأعراف : 31 ] ، وسمى أمة محمد صلى الله عليه وسلم : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ البقرة : 104 ] ، وقال : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ } [ آل عمران : 110 ] ونحوه ، فذلك يدل - أيضاً - على تفضيل أمة محمد صلى الله عليه وسلم على غيرها من الأمم . وقوله - عز وجل - : { إِنِّي ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } . كان مصطفى ومفضلاً بالكلام على الناس كافة الأنبياء وغيرهم ؛ لأن الله تعالى لم يكلم أحداً من الرسل إلا بسفير سوى موسى ؛ فإنه كلمه ، ولم يكن بينهما سفير . وأما قوله : { ٱصْطَفَيْتُكَ عَلَى ٱلنَّاسِ } على أناس زمانه ، وأهله خاصة ، ويحتمل : برسالاتي التي بين موسى وبين الله تعالى ، وهذا ينقض على المعتزلة قولهم : إن الله تعالى لا يرسل رسولاً إلا وهو يستحق الرسالة ، ولو كان طريقه الاستحقاق لا الإفضال والإحسان ، لم يكن للامتنان معنى ، دلّ أن طريقه الإفضال والإحسان لا الاستحقاق ، والله أعلم . وعلى قول المعتزلة لا يكون الله مصطفياً موسى ولا غيره من الأنبياء ، ولكن هم الذين اصطفوا أنفسهم ] . وقوله - عز وجل - : { فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ } يخرج على وجهين : أحدهما : القبول ، أي : اقبل ما أعطتيك ؛ كقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] . ويحتمل قوله : { فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ } ، أي : اعمل بما آتيتك بأحسن العمل ، وكن من الشاكرين [ لنعمته التي أنعمها عليه ] من التكليم والرسالة وغيرهما من النعم ، والله الموفق .