Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 1-3)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
الحمد لله العليم بخلقه ، اللطيف لرشد عباده ، ضرب لهم الآيات والبيان ؛ لينقلهم بحكمته وتدبيره من الجهالة إلى العلم ، ومن الضلالة إلى الهدى ، ووصى رسوله أن يدعو عباده إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة ، فبعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الناس كافة ، وأنزل إليه الكتاب تلا فيه ما في الكتب الأولى ؛ ليبين لأهل الكتاب والمشركين أن النبي الأمي العربي لم يعلم ما في الكتب الأعجمية إلا من عند الله ؛ ليكون ذلك أوضح لهم في الحجة . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الرسالة معروفاً عند الفريقين أنه لم يتل كتاباً ، ولا خطه بيمينه ، ولا كان عندهم من شعرائهم ، ولا المعروف بأنسابهم وعلم أنبيائهم ؛ وذلك أبلغ في البرهان ، فأنبأ فيه علم الغيوب ، وفرض الفرائض ، وحكم فيه الأحكام ، وأنزل فيه الحجج بتأليف يعجز عنه من دون الله ؛ ليبين لهم أنه من عند الله ، فأنف قومه ، وأبوا أن يستمعوه واستكبروا عليه ، وقالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] وقالوا : { لاَ تَسْمَعُواْ لِهَـٰذَا ٱلْقُرْآنِ وَٱلْغَوْاْ فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] ؛ فأتاهم العليم الخبير من قبل أنفسهم وكبرهم ؛ فأنزل في الكتاب كلاماً افتتح به السورة لم يكن من كلام قومه ؛ فلما سمعوه ظنوا أنه بديع ابتدعه محمد صلى الله عليه وسلم كإبداعهم البلاغات والأوابد ، وأنفوا أن يكون محمد يقدر من ذلك على ما لا يقدرون ، فتدبروا الكتاب ليعلموا صدوره بما بعده من الكلام ، فسمعوا كلاماً مجيداً [ حكيماً ] ، ونبأ عظيما ، وحججاً نيرة ، ومواعظ شافية ؛ فدخل أكثرهم في الإسلام ، وقعد عنه رجلان : معاندٌ متعمد ، وجاهل مقلد لا ينظر ، وفيما أنزل مما وصف قوله : { كۤهيعۤصۤ } [ مريم : 1 ] ، و { طسۤمۤ } [ الشعراء ، القصص : 1 ] ، و [ { الۤمۤصۤ } ] و { الۤر } [ يونس ، هود ، يوسف ، إبراهيم ، الحجر : 1 ] وما أشبهها . فقال : { الۤمۤصۤ } . ليعطف بها على النظر فيما بعدها . ثم ابتدأ فقال : { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ } . يقول : كتاب من ربك ؛ لتنذر به عباده . { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } . يقول : فلا يضيقن صدرك عن الذي فرض الله عليك فيه من البلاغ إلى قومك ، وبما فرض عليك من البراءة منهم ، وممّا يعبدون من دون الله ؛ فكأن الرسول صلى الله عليه وسلم يخاف ما خافت الرسل من بين يديه ، فقال موسى : { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } [ الشعراء : 14 ] وقد كان يعرف قومه بالتسرع إلى القتل فيما ليس مثل ما يأتيهم به ، فأمنه الله منهم بقوله : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [ المائدة : 67 ] ، وقال في آخر هذه السورة : { ٱدْعُواْ شُرَكَآءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ } [ الأعراف : 195 ] : يفهمونها عن الله - تعالى - فإنها من أعظم آيات الله لرسوله صلى الله عليه وسلم أعلمه أنهم لا يصلون إلى ما يخاف منهم . وفي الأثر " أن الله - تعالى - لما أرسله إلى قومه ، فقال : " أي رب إذا يثلغوا رأسي فيذروه مثل خُبزَة " فأمنه الله - تعالى - من ذلك " ، فقال : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } من البلاغ ، ولا يضيقن صدرك بما فرض الله عليك من العبادة والحكم الذي تخالف فيه قومك . ثم وصف الكتاب فقال : { وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } . يقول : يتذكرون بما فيه ويتدبرونه فيعلمون به الحق من الباطل ، ويذكرون به ما فرض عليهم . ويحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة خطاباً خاطب الله بها رسله يفهمونها لا يفهمها غيرهم ، [ على ما يكون لملوك الأرض بينهم وبين خواصّهم إشارات يفهمها خواصهم ولا يفهمها غيرهم ] ، هذا متعارف فيما بين الخلق أن يكون لهم فيما بينهم وبين خواصهم ما ذكرنا ؛ فعلى ذلك يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة خطابات من الله خاطب بها رسله - وهم خواصه - يفهمونها ولا يفهمها غيرهم ، ثم وجهُ فهمهم يكون لوجهين : يخبرهم فيقول : إني إذا أنزلت إليكم كذا فمرادي من ذلك كذا ، أو كان البيان والمراد منها مقروناً بها وقت إنزالها ففهموا المراد منها بما أفهمهم الله وأراهم ما لم ير ذلك غيرهم ؛ كقوله : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ ٱلْكِتَابَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَاكَ ٱللَّهُ } [ النساء : 105 ] ، أرى رسله شيئاً لم ير ذلك غيرهم ، ولا أطلعهم على ذلك ، فهو من المتشابه على غيرهم ؛ وأما على الرسل فليس من المتشابه . وقال الفراء : يحتمل أن تكون هذه الحروف المقطعة المتفرقة التي أنزلها من أ ب ت ث إلى آخرها كأنه قال : إني جمعت هذه الحروف المقطعة فجعلتها كتاباً ، فأنزلتها ؛ من نحو : { الۤمۤصۤ } [ الأعراف : 1 ] ، و { الۤمۤ * ٱللَّهُ } [ آل عمران : 1 - 2 ] ، و { الۤـمۤ * ذَلِكَ ٱلْكِتَابُ } [ البقرة : 1 - 2 ] ، و { الۤمۤر } [ الرعد : 1 ] ونحوه ، والله أعلم بما أراد به ذلك . وقد ذكرنا هذا في صدر الكتاب مقدار ما حفظنا وفهمنا من أقاويل أهل العلم في ذلك . وقوله - عز وجل - : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } . قيل : الحرج : هو الضيق في الصدر ، ثم يحتمل ضيق الصدر وجوهاً : يحتمل ضيق الصدر ما يحل عليه في ذلك من الشدائد والخطورات بتبليغه إلى الكفرة الذين نشئوا على الكفر والشرك ، وخاصة الفراعنة والملوك الذين همتهم القتل والإهلاك لمن استقبلهم بالخلاف . أو أن يوسوس في صدره الشيطان أنه ليس من عند الله ، أو أن يقول له : إنه من أساطير الأولين ؛ على ما قال أولئك الكفرة : { مَا هَـٰذَآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } [ الأحقاف : 17 ] . ثم يحتمل قوله : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } على النهي ، أي : لا يكن في صدرك منه حرج ، أي : لا يضق صدرك مما حمل عليك . وقال بعضهم : { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ } ، أي : شك أنه من عند الله نزل . وقد ذكرنا أن العصمة لا تمنع النهي ؛ لأنه بالنهي ما يكون عصمه . ويحتمل : ليس على النهي ، ولكن على ألا تحمل على نفسك ما فيه هلاكك ؛ كقوله : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } [ النحل : 127 ] ، وكقوله : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] : ليس على النهي ؛ ولكن على ألا تحمل على نفسك ما فيه هلاكك ؛ فعلى ذلك هذا ، والله أعلم . ثم إن الله - عز وجل - أمنه عما كان يخاف من أولئك بقوله : { وَٱللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ ٱلنَّاسِ } [ المائدة : 67 ] ، وأمنه من وساوس الشيطان ؛ على ما روي في الخبر أنه قيل : " ألك شيطان ؟ فقال : " كان ، ولكن أعنت عليه ؛ فأسلم " أمّن - عز وجل - رسوله عن ذلك كله ؛ لما ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { لِتُنذِرَ بِهِ } . يحتمل أنه أمره أن ينذر به الكفرة ، ويبشر به المؤمنين ؛ كقوله : { لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ وَبُشْرَىٰ لِلْمُحْسِنِينَ } [ الأحقاف : 12 ] ؛ فعلى ذلك قوله : { لِتُنذِرَ بِهِ } الكفرة . { وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } . أي : بشرى على ما ذكرنا ، ويكون في الإنذار بشرى ؛ لأنه إذا أنذر فقبل الإنذار ، فهو له بشرى . ويحتمل قوله : { لِتُنذِرَ بِهِ } ، أي : الكل الموافق والمخالف جميعاً ؛ كقوله : { لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] ، { وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } ، أي : الذي ينتفع به المؤمنون . وقوله - عز وجل - : { ٱتَّبِعُواْ } . لا تتبعوا أولئك في التحليل والتحريم وفي الأمر والنهي ؛ لأنه ليس إلى الخلق التحليل والتحريم . وقوله : { ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } . أمر المؤمنين أن يتبعوا ما أنزل إليهم من ربهم ، على ما أمر رسوله صلى الله عليه وسلم أن يتبع ما أنزل إليه من ربه ؛ كقوله : { ٱتَّبِعْ مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [ الأنعام : 106 ] ؛ ليعلم أن ما أنزل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هو منزل إلى المؤمنين [ جميعاً ] . وقوله - عز وجل - : { ٱتَّبِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } . فيما ذكر ، وما يحل وما يحرم ، وما يأمر وينهى . { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } . قيل : أرباباً ، أي لا تتبعوا من دونه أولياء فيما يحلون ويحرمون ، ويأمرون وينهون ، أي : إنما عليهم اتباع ما حرم عليهم ، واستحلال ما أحل لهم . وأما إنشاء التحليل والتحريم فلا . وقال بعض أهل التأويل : أولياء الأصنام ، والأوثان . ولكن لا يحتمل هاهنا ، ولكن قد ذكرنا أنهم كانوا يتبعون عظماءهم في التحليل والتحريم ؛ كقوله : { ٱتَّخَذُوۤاْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ ٱللَّهِ } [ التوبة : 31 ] ، وكانوا لا يتخذون أولئك الأحبار أرباباً في الحقيقة ، ولكن كانوا يتبعونهم فيما يحلون ويحرمون ويصدرون عن آرائهم ؛ فسموا بذلك لشدة اتباعهم أولئك في التحليل والتحريم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } . قال أهل التأويل : يعني بالقليل : المؤمنين ، ولكن يحتمل قوله : { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } ، أي : لا تتذكرون رأساً ؛ لأن الخطاب جرى فيه لأولئك الكفرة ، وفيهم نزلت الآية .