Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 70, Ayat: 1-18)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ } قرئ بتسكين الألف ، ومعناه : سال واد بعذاب واقع للكافرين ، أي : جرى واد بعذاب واجب . والقراءة العامّة بالهمزة من السؤال ، وتأويله على سؤال القوم العذاب بقولهم : { إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ أَوِ ٱئْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، وقولهم : { عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } [ ص : 16 ] . وقيل : هو النضر بن الحارث ، سأل ذلك ، فقتل يوم بدر بعدما أسر ؛ هكذا قال بعض أهل التأويل . ولكن عندنا [ أن ] هذا وإن كان في الظاهر خارجاً مخرج السؤال ، لكن لم يكن سؤاله هذا لينزل به العذاب في التحقيق ، وإنما هذا منه على جهة الاستبعاد بالعذاب والاستهزاء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، [ والذي حملهم على الاستبعاد والإنكار هو أنه كان عند أهل مكة : أنه لو كان فيهم نبي ، لكانوا هم أحق بالنبوة من رسول الله - عليه السلام - ] لأنهم هم الذي بسطت لهم الدّنيا ، وهم الذين لهم نفاذ الكلام في البلاد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم تبسط له الدنيا ، ولا كان لكلامه فيما بينهم نفاذ ، فيظنون بهذا أنهم أقرب منزلة عند الله - تعالى - من النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه لا يستقيم في العقل أن يصل الولي إلى عدوه ، ويحسن إليه ويدع صلة وليه ويجفوه ، فهذا الظن الذي ذكرنا هو الذي حملهم على تكذيب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يخبرهم من حلول العذاب بالتكذيب ، وعلى الاستهزاء به ، فكان سؤال السائل على جهة الاستبعاد والإنكار للعذاب ، لا أن كانوا مقرين به ثمّ استعجلوه . وذكر أن أبا جهل قال يوم بدر : اللهم انصر أبرنا قسماً ، وأوصلنا رحماً ، وأقرانا للضيف ؛ فكان يدعو بهذا لما عنده : أنه أشرف حالاً وأعلى منزلة عند الله - تعالى - من محمد صلى الله عليه وسلم وأتباعه ، ومن كان هذا شأنه ، فهو أولى أن ينصر ؛ قال الله - تعالى - : { وَإِذْ قَالُواْ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ ٱلسَّمَآءِ } [ الأنفال : 32 ] ، ولو لم يكن عندهم أنهم أقرب منزلة وأحق أن يكونوا أولياء ، وإلا لم يكونوا يجترئون أن يسألوا بهذا ، فهذه الشبهة التي ذكرناها هي التي أورثت لهم ما ذكرناها من الظن ، حتى زعموا أنهم أحق بالرسالة ، وظنهم هذا يتولد من ظن إبليس ، وذلك أن إبليس قال : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 76 ] ؛ فظن أن أمر الفاضل للمفضول بالسجود في الخضوع له خارج عن حد الحكمة ؛ فصار إلى ما صار إليه من الخزي واللعن ، فكذلك هؤلاء لما رأوا من نفاذ كلمتهم وسعتهم في الدنيا ظنوا أنهم أقرب إلى الله - تعالى - إذ التوسع عندهم دلالة الولاية والقرب . ثم سفههم هو الذي حملهم على التكبّر على رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك الخضوع ، وإلا لو أعطوا النصفة من أنفسهم ، لكان يجب أن يكونوا هم أطوع خلق الله - تعالى - لأن الواجب على من كثرت عليه النعم من آخر أن يكون هو أشكر للنعم ، وأطوع له فيما يدعوه إليه من الذي قلَّت نعمه عليه ، فإذا كانوا مقرين أن نعم الله عليهم أكثر ، وإحسانه إليهم أوفر ، أوجب ما ذكروا أن يكونوا هم ألزم لطاعته ، وآخذ لما يأمرهم به ، وكذلك إبليس اللعين إذا رأى لنفسه فضلا ، وإنما استوجب ذلك بما أنعم الله - عز وجل - عليه ، كان الحق عليه أن يتسارع إلى طاعته وينقاد لما أمر به ؛ لا أن يظهر الخلاف من نفسه وترك الائتمار بأمره . وقوله - عز وجل - : { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } أي : هو واقع بهم لا محالة في علم الله تعالى . أو { وَاقِعٍ } بمعنى : سيقع ، كما يقال : قابل : أي : سيقبل . وقوله - عز وجل - : { لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } فإن كان قوله : { لِّلْكَافِرِينَ } صلة قوله : { بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } ، فحقه أن يقول : على الكافرين ، ولكن اللام من حروف الإضافة والخفض ، وحروف الإضافة مما [ يستبدل بعضها ببعض ] ؛ فجعل اللام بدلا عن " على " . وإن كان قوله : { لِّلْكَافِرِينَ } صلة قوله : { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } فمعناه : أن ليس على الكافرين دافع لعذاب الله - عز وجل - بل واقع بهم لا محالة ، فأبدلت اللام مكان " عن " ؛ لأنهما جميعاً من حروف الخفض . وقد يدفع العذاب عن المسلمين من وجوه : إما برحمة الله - تعالى - أو بشفاعة الرسل والأخيار ، وإما بحسنات سبقت منهم ، توجب تكفير سيئاتهم . فأما الكفار فلا تنالهم رحمته ، ولا شفاعة أحد من الخلائق ، وليست لهم حسنات تكفر سيئاتهم ، فليس لهم ما يدفع عنهم العذاب . وجائز أن يكون معناه : أن الذين ظنوا أنه ينصرهم عند النوائب وحلول الشدائد ، لا يقوم بنصرهم ، ولا يشفع لهم ؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام ، ويعبدون الملائكة على رجاء أن يشفعوا لهم ، ويقربوهم إلى الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { مِّنَ ٱللَّهِ ذِي ٱلْمَعَارِجِ } أي : ذلك العذاب لهم من الله - تعالى - ذي المعارج ؛ أي : [ من ] له المعارج ؛ كقوله - عز وجل - : { ذُو ٱلْعَرْشِ ٱلْمَجِيدُ } [ البروج : 15 ] أي : الذي له العرش . واختلفوا في المعارج : قال بعضهم : هي المصاعد ، وهي السماوات ، وسمّاهن مصاعد ؛ لأن بعضها أصعد من بعض وأرفع ، ولو قال : ذي المسافل ، كان مستقيماً ، واقتضى ما يقتضي قوله : ذي المعارج ؛ لأن بعضها إذا كان أصعد [ من بعض ؛ فالذي ] تحتها أهبط وأسفل ، ولكن ذكر المصاعد ؛ لأن هذا أعلى في الوصف . ثم في ذكر هذا عظيم نعمه وإحسانه إلى خلقه ؛ حيث خلق السماوات والأرض مسكناً لأهلها ، وبسط الأرض مسكناً لأهلها ، حتى إذا عرفوا هذا عرفوا أن له أن يفضل بعضاً على بعض ، وله أن يصطفي من يشاء من الناس للرسالة ويختص بها . وذكرهم - أيضاً - حكمته وعلمه وقدرته وسلطانه حيث وضع سماء على سماء ، وخلقهن طباقاً من غير عمد تحتها تمسكها ، أو علائق من فوقها تربطها ، فتبين أنه يمسكها بحكمته وقدرته وسلطانه ؛ فيكون في ذكر كل وجه مما ذكرنا إزالة الشبهة التي اعترضت لهم في أمر البعث والرسالة وإيضاح بأن من قدر على ما ذكرنا لقادر على الإعادة بعد الإفناء . وقيل : المعارج : المعالي ، أي : الذي له العلو والرفعة ، كما قلنا في قوله : الحمد لله ، أي : لا أحد يستحق الحمد في الحقيقة ، وما حمد أحد إلا وذلك في الحقيقة لله - تعالى - لأنه به استفاده ، فعلى ذلك قولنا : له العلو والرفعة ، أي : ليس أحد يستفيد العلو والكرامة إلا وحقيقة ذلك لله - تعالى - لأنه استفاده به . والثاني : أي : هو الموصوف بالعلو والجلال عما يقع عليه أوهام الخلق . وقوله - عز وجل - : { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ وَٱلرُّوحُ إِلَيْهِ } يحتمل أن يكون معنى قوله : { تَعْرُجُ } ليس عن هبوط يصعد ويعرج ، لكن أنشأهم كذلك معروجين ؛ كقوله : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلأَنْعَامِ } [ الزمر : 6 ] ، أي : أنشأهم كذلك . وقوله - عز وجل - : { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا } [ الرحمن : 7 ] ليس أنها كانت في موضع منحط فرفعها ، لكنه كذلك خلقها مرفوعة ؛ فعلى ذلك قوله - عز وجل - : { تَعْرُجُ ٱلْمَلاَئِكَةُ } ، أي : أنشأهم كذلك ليستعملهم { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } . ووجه آخر - وهو الأشبه بالآية - : وهو ما قالوا : إن الملائكة تعرج إليه ؛ أي : إلى الموضع الذي منه أرسلهم إلى أنواع الأمور في يوم لو قدر ذلك العروج بعروج البشر وسيرهم ، لكان مقدار خمسين ألف سنة . وقوله - عز وجل - : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ، وقال في موضع آخر : { أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ السجدة : 5 ] ، فيحتمل أن يكون هذا الوقت وقت تقدير عروج الملائكة وصعودهم ، وهو أن البعض ينزل منهم ، ثم يعرج في يوم واحد ، مقدار ذلك المسير ألف عام ، والبعض منهم ينزل ويعرج في يوم واحد مسيرة خمسين ألف سنة ؛ فيكون في هذا إبانة أن ليس أهل سماء أحق أن يدور عليهم تدبير أهل الأرض من أهل سماء ؛ بل ينزل أهل سماء إلى [ أهل ] الأرض مرة ؛ لما يراد من تدبير ، وينزل أهل سماء أخرى بتدبير آخر ، ثم [ من ] أي سماء يرسل ، فهو يصعد إلى تلك السماء [ في ] يوم واحد ، إن أرسل من السماء السابعة أو السادسة أو الأولى ، فهو يصعد إليها في ذلك اليوم ، فيكون في هذا تبيين قوة بعض الملائكة على بعض : أن فيهم من يسير مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد ، وفيهم من يسير مسيرة ألف سنة ، ومن قدر على أن يخلق في خلق من خلائقه من القوة ما يقطع هذه المسافة في يوم واحد ، لا يحتمل أن يعجزه شيء ؛ فيكون في ذكر هذا تحقيق كون ما به هول أمر القيامة والبعث . وجائز أن يكون قوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } راجعا إلى يوم القيامة ، فذكر في موضع أن مقداره ألف سنة ، وذكر هاهنا أن مقداره خمسين ألف سنة ، والأصل أن ذلك اليوم ليس بذي حد ولا له غاية ينتهي إليها ، فما يخبر من الحد فيه ، فهو يخرج مخرج تعظيم ذلك اليوم ؛ ليقع به التهويل والتقريع ، فبأي شيء يعظم ذكره في القلوب [ يذكره ] ؛ فمرة ذكره بالخلود ، وهو قوله - عز وجل - : { ذَلِكَ يَوْمُ ٱلُخُلُودِ } [ ق : 34 ] ، ومرة قال : { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } [ النبأ : 23 ] ، ومرة قال : { خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ، ومرة قال : { أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ السجدة : 5 ] ، إذ هذه الأشياء مما يعظم [ ذكرها ] في القلوب ، وكذلك الألف هي عظيمة في القلوب ، فإذا كانت هذه الأشياء يعظم ذكرها في القلوب فذكر الشيء الواحد من الجملة أو ذكر الأشياء يقتضي معنى واحدا . ومنهم من يصرف الألف إلى تقدير عروج الخلائق إلى السماء في ذلك اليوم ، ويصرف قوله : { خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } إلى تقدير المقام للحساب قبل أن يدخلوا النار . وجائز أن يكون تأويله على ما ذكره بعض أهل التفسير ، وهو أن الله تعالى لو جعل حساب الخلق يومئذ إلى الخلق ، فتكلفوا أن يفرغوا من حسابهم ، لن يفرغوا [ منه ] إلا في مقدار خمسين ألف سنة ، لكن الله تعالى بلطفه يحاسبهم حسابا يفرغون منه في أدنى وقت حتى يصير أهل الجنة إلى الجنة وأهل النار في النار ؛ على ما جاء في الأخبار ، وذلك قوله : { وَٱللَّهُ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ } [ النور : 39 ] . فإن قيل في قوله - عز وجل - : { أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ السجدة : 5 ] ، أن كيف قدر ذلك بصعودنا ، ونحن لم يمكن [ لنا ] من الصعود ، ولم ننشأ على ما في طبعنا إنشاء الصعود حتى ننظر : أنه ألف سنة أو أقل أو أكثر . وجوابه أن يقال : إن تأويله - والله أعلم - : أنه لو بسط ما بين السماء والأرض ، وصار بحيث يمكن السير عليه ، لم يقطع ذلك المسير إذا احتجنا إلى قطعه إلا بألف سنة مما تعدون . وجائز أن يكون تأويله : أن لو جُعل لنا إلى السماء بابٌ ، وفتح ، وظللنا نعرج إليها لم نتوصل إليها إلا في ألف عام . وقوله - عز وجل - : { فَٱصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً } ، قيل : الصبر الجميل هو صبر لا جزع فيه ، والصبر الذي لا جزع فيه هو أن يصبر صبرا لا يرى عليه أثر الصبر ، بألا يظهر في وجهه كراهة ، ولا عبوسة ، وهو أن ينظر إلى من آذاه بعين الرضا والشفقة ، ليس بعين السخط والكراهة . أو الصبر الجميل ألا يكافئهم ، ولا يدع شفقته ورحمته [ عليهم ] بما يؤذونه ، [ وقد كان - عليه السلام - كذلك مشفقا ] بهم رحيما ، حتى بلغت شفقته ورحمته وحزنه على كفار قومه مبلغا كادت نفسه تهلك فيها ، كما قال [ الله ] تعالى : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ، وقال : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَىٰ آثَارِهِمْ } [ الكهف : 6 ] ، فالرسل - عليهم السلام - كانوا إذا أوذوا لم يكونوا يحزنون لمكان أنفسهم بما أوذوا ، بل كانوا يحزنون لمكان من يؤذيهم خوفا من أن يحل بهم الهلاك والبوار بإيذائهم رسل الله تعالى ، وإشفاقهم على قومهم هو الذي كان يحزنهم ؛ [ ليس سوء ] صنيعهم ومعاملتهم معهم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً } ، أي : بعيدا أن يكون ، فيكون على النفي والإنكار ، وقد يستعمل هذا الحرف في موضع النفي ؛ يقول الرجل في المناظرة لصاحبه : أبعدت في القول ؛ إذا أجاب شيء لا ثبات له ولا صحة ، فيريد بقوله : " أبعدت " : النفي ؛ أي : ليس كما تقول ، وقال الله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] ، ومعناه على [ نفي النداء ] ؛ أي : لا ينادون . أو أن يكون قوله : { بَعِيداً } أي : مستبعدا كونه ، فبعد عن أوهامهم حتى أنكروه . { وَنَرَاهُ قَرِيباً } ، أي : قريبا كونه ، إن كان معنى قوله : { بَعِيداً } أي : بعيدا كونه . أو { وَنَرَاهُ قَرِيباً } ، أي : كائنا ، وقد قرب وقت وقوع ذلك بهم ، وكل ما هو كائن فهو قريب . وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ } ، فكأنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقت الذي وعدوا أن يقع بهم العذاب متى وقته ؟ فنزلت [ هذه ] الآية : { يَوْمَ تَكُونُ ٱلسَّمَآءُ كَٱلْمُهْلِ } . وقيل : المهل : عكر الزيت ، وهو درديّه ؛ فجائز أن يكون هذا على التحقيق ، وهو أنها تتغير في ذلك اليوم من لون إلى لون ، فتحمر مرة ، وتصفر أخرى ؛ لشدة هول ذلك اليوم ، فتكون كدردي الزيت لينا ولونا متغيرا من حال إلى حال . وجائز ألا يحل بها التغير ، ولكن شدة ما ينزل بالمرء من الهول والفزع يضعف بصره حتى يرى السماء على خلاف اللون الذي هي عليه ، وهو كما يرى المرء إذا حل به الضعف والمرض في الشاهد ، ووجد طعم الأشياء على خلاف ما هي عليها ؛ فيكون في ذكر هذا تهويل وتفزيع أن هول ذلك اليوم شديد لا تقوم لهوله السماوات والأرضون مع صلابتها وغلظها في نفسها ، فكيف يقوم لهولها الآدمي الموصوف بالضعف واللين . وجائز [ أن تكون ] على ما ذكرنا أنها تصير شبيهة بالمهل ؛ للينها [ ورخاوتها ، وهو ] أنها تلين وترخو من هول ذلك اليوم حتى تصير السماء كالمهل ، والجبال كالعهن ؛ فيكون في هذا - أيضا - تهويل ؛ ليرجعوا عما هم عليه ويقبلوا على عبادة الله تعالى ، ويتسارعوا إلى طاعته . وتأويل العهن ، ووجه تشبيه الجبال بها يذكر بعد هذا في قوله - عز وجل - : { وَتَكُونُ ٱلْجِبَالُ كَٱلْعِهْنِ ٱلْمَنفُوشِ } [ القارعة : 5 ] . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } قرئ برفع الياء ونصبها ، فمن رفع الياء فتأويله : أي : لا يطلب حميم من حميم ، ولا يؤخذ بمكانه كما يفعل مثله في الدنيا ؛ لأن ذلك اليوم هو يوم العدل ، وليس من العدل أن يؤخذ الغير بذنب الغير . ومن قرأه بالنصب فتأويله : ألا يسأل حميم حميما من شدة ذلك اليوم وهوله النصرة والشفاعة . أو لا يسأل عن حاله بما حل [ به ] من الشغل في نفسه . وقوله - عز وجل - : { يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ } يحتمل أن يُعَرَّف بعضهم عن بعض أن هذا أبوك وابنك وحميمك ؛ إذ لا يعرفه إلا بالتعريف ؛ لما حل به من شدة الهول والفزع ، ثم إذا عرفوا لا يسألونهم ؛ بل يفر بعضهم من بعض ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ ٱلْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ } الآية [ عبس : 34 ] . أو يكون معناه : أن يبصروا ما سبق منهم من الذنوب والأجرام ، فيعرفونها ، وتصير لهم حاضرة . وقوله - عز وجل - : { يَوَدُّ ٱلْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ ٱلَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً } ففي هذا أنه يستقبلهم في ذلك هول وفزع لم يكن لهم بمثله عهد في الدنيا ، ولا كان خطر ببالهم ذلك ؛ لأن المرء لا يبلغ به الهول في الدنيا مبلغا يود أن يفتدي به ببنيه وصاحبته ، وأخيه ، وأقربائه ، وجميع من في الأرض ؛ فيكون فيه إخبار عن شدة هول ذلك اليوم ؛ ليحمل الناس على الإنابة [ إلى الله ] تعالى والانتهاء عما نهاهم عنه . ثم بدأ بذكر البنين والأقربين وأنهاه بالأبعدين ، وحق هذا أن يبدأ بالأبعدين ، ثم يختم بذكر الأقربين ؛ لأن المرء قد تسخو نفسه بفداء الأبعدين ، ويضن ببذل الأقربين فداء ، فإذا سخت أنفسهم في ذلك اليوم بفداء البنين والأقربين فلأن تسخو بفداء الأبعدين أحق ، وإذا كان كذلك فغاية التهويل والتفزيع أن يبدأ بذكر الأباعد ، ويختم بذكر الأقارب ، فكيف ابتدأ بذكر الأقربين ؟ فجوابه من وجهين : أحدهما : أنه إنما يتوصل إلى فداء أهل الأرض إذا كان له عليهم ملك وكانوا بأجمعهم له ، وإذا كانوا جميعا له ملكا ، كانت شفقته على ملكه وأولاده واحدة أو أكثر ، فكما يضن ببذل أولاده ، وأن يكونوا عنه [ فداء ] ، فكذلك يضن بالأباعد إذا كانوا جميعا ملكا له ؛ فلذلك استقام أن يبدأ بذكر الأقربين قبل الأبعدين ، إذ كل ذلك يستوي في التهويل والتفزيع ، والله أعلم . وجائز أن يكون ذكر الأقربين وذكر أهل الأرض ليس على جهة الأولى ، ولكنه ذكر الآحاد أولا ، ثم ذكر الجماعة ثم ذكر جماعة الجماعة ؛ ليعلموا ألا ينفعهم الفداء في ذلك اليوم ، وأن الذين ودوا الفداء ؛ ليتخلصوا من عذاب الله تعالى لا يشتد عليهم ما فدوا ، وإن كان ذلك ملء الأرض ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ يُنجِيهِ } رد وتنبيه ألا ينجيه ذلك اليوم . وقوله - عز وجل - : { كَلاَّ إِنَّهَا لَظَىٰ * نَزَّاعَةً لِّلشَّوَىٰ } الآية ، فاللظى : اسم من أسماء النار ، والشوى : قيل : [ هي ] مكارم خلقه . وقيل : هي القوائم والأطراف . وقيل : هي الجلود . والأصل أن نار جهنم تعمل على أصحابها كل قبيح وكل مستشنع مستفظع ، فإن شئت صرفت ذلك إلى الأرجل ، وإن شئت إلى الجلود ، وإن شئت إلى مكارم خلقه الأخلاق ؛ لأن التقبيح في كل ذلك موجود ، وهو كقوله - عز وجل - : { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } [ النساء : 57 ] فقيل في تأويل المطهرة وجوه . إحداها : أنهن مطهرات من العيوب والآفات ، [ وجملته ] : أنه ما من شيء يستحسن ويستقبح من خلق أو نفس أو معاملة إلا وهن مطهرات من ذلك ، وما من شيء يستشنع ويستفظع إلا وذلك في أهل النار موجود . وقوله - عز وجل - : { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ } فجائز أن يكون الدعاء منها على التحقيق ، وهو أن يجعل الله تعالى [ لها ] باللطف لسانا تدعو به ، أو يخلق فيها الكلام من غير لسان ، فتقول : إليّ ، إليّ . وجائز أن يكون [ هذا ] على التمثيل ، وهو أنها لا تدع أحدا يفر عنها ، ويتخلص من عذابها ، فكأنها دعته إلى نفسها . ثم قوله - عز وجل - : { مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّىٰ } جائز أن يكون قوله : { مَنْ أَدْبَرَ } ، أي : من كان أدبر في الدنيا [ عن ] طاعة الله تعالى ، وتولى عن الإجابة لرسله ؛ كقوله تعالى : { تَوَلَّىٰ عَن ذِكْرِنَا } [ النجم : 29 ] أي : أعرض . أو أدبر عن توحيده ، وتولى عن النظر في حجته ، وفيما جاء من عنده . ويحتمل قوله : { أَدْبَرَ } ، أي : أدبر عن طاعة الله - عز وجل - ، { وَتَوَلَّىٰ } أي : تولى الشيطان ، من الولاية . وجائز أن يكون أدبر في جهنم ، فيدبر رجاء أن يفر عنها ، ويتولى ؛ فلا تدعه النار ليفر ؛ بل تغشاه عن الإعراض ، كقوله - عز وجل - : { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَىٰ ٱلَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ } [ النحل : 100 ] ، ولكن هذا قريب من الأول ؛ لأن من تولى عن ذكر الله فقد تولى الشيطان . وقوله - عز وجل - : { وَجَمَعَ فَأَوْعَىٰ } يخبر بقوله : { وَجَمَعَ } عمَّا جبل عليه من شدة الحرص على الدنيا ؛ فيكون الجمع كناية عن الحرص ، فبلغ به هذا الحرص مبلغا أنساه ذكر الآخرة . وقوله - عز وجل - : { فَأَوْعَىٰ } فيه بيان صفته فيما عليه من النهاية في البخل ، فيكون الإيعاء كناية عن البخل حتى لم يؤد حق الله تعالى في ماله ، أو لم يقم بشكر ما لله تعالى من النعم ، أو بلغ به البخل مبلغا منعه ذلك عن قبول حق الله تعالى في ماله .