Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 72, Ayat: 20-28)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { إِنَّمَآ أَدْعُواْ رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } ، فيه إخبار عن دينه : أن دينه التوحيد ، لا الإشراك بالله تعالى ، وإخبار عما يدعو الخلق إليه ، وذلك توحيد الله تعالى والقيام بطاعته . وجائز أن يكون هذا على أثر سؤال منهم ، ودعوتهم إلى عبادة الأصنام ؛ على ما ذكر في الأخبار أنهم قالوا : إنا نعبد إلهك يوما ، وتعبد آلهتنا يوما ، وهو كقوله - عز وجل - : { وَيٰقَوْمِ مَا لِيۤ أَدْعُوكُـمْ إِلَى ٱلنَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِيۤ إِلَى ٱلنَّارِ * تَدْعُونَنِي لأَكْـفُرَ بِٱللَّهِ … } الآية [ غافر : 41 - 42 ] . وجائز أن يكون كلاما مبتدأ يؤيسهم ، ويقنطهم ، ويقطع طمعهم عن عوده إلى ما هم عليه . وقوله - عز وجل - : { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } : أي : ضرّاً في الدين ، ورشدا في الدين ، والأصل في الأسماء المشتركة أن ينظر إلى مقابلها ، فيظهر مرادها بما يقابلها ؛ قال الله تعالى : { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ } [ الجن : 14 ] ، والقاسط : الجائر ، وقد يكون غير الكافر جائرا ، ثم صرف الجور إلى الكفر ؛ فظهر مراده بمقابله ، وهو قوله { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ } [ الجن : 14 ] . والضر قد يكون في الدين والمال والنفس ، ولكنه لما ذكر قوله : { رَشَداً } ، والرشد يتكلم به في الدين ، علم أن قوله : { ضَرّاً } راجع إليه أيضا ، فكأنه يقول : لا أملك إضلالكم ، ولا رشدكم ؛ إنما ذلك إلى الله تعالى ، يضل من يشاء ، ويهدي من يشاء . والمعتزلة [ تزعم أن ] الله تعالى لا يملك رشد أحد ولا غيه ، بل رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ملكا منه ؛ لأنه يملك أن يدعو الخلق إلى الهدى بنفسه ، والله تعالى لا يملك ذلك إلا برسوله . وقال - عز وجل - : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 272 ] ، وقال : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ القصص : 56 ] ، ولو كان المراد من الهداية المضافة إلى الله تعالى الدعوة والبيان ، لكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهديهم ؛ لأنه داع ومبين ؛ فثبت أن في الهداية من الله تعالى لطفا لا يبلغه تدبير البشر . وقوله - عز وجل - : { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } . فكأنهم طلبوا منه ترك تبليغ الرسالة إلى قومٍ ، أو كتمان شيء ما أمر بإظهاره ، أو محاباة أحد من الأجلة ، فأمر أن يخبرهم أنه لا يجيره أحد من الله تعالى ، ولا يجد لنفسه ملجأ إن فعل ذلك ، سوى أن [ يبلغ رسالات ربه ] ؛ فيجيره من عذابه ؛ ويكون له عنده ملجأ ؛ إن فعل . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ } : فمنهم من جعل قوله : { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ ٱللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ } استثناء من قوله : قل إني لا أملك لكم ضرّاً ولا رشدا إلا بلاغا من الله أي : إني لا أملك لكم هدايتكم ولا إضلالكم إلا ما كلفت لأجلكم من تبليغ الرسالة . ومنهم من جعل هذا استثناء من قوله : { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ } إن عدلت عن أمره ، ولم أبلغ الرسالة ؛ لا يجيرني من عذابه إلا أن أبلغ الرسالة ؛ قال الله تعالى : { يَـٰأَيُّهَا ٱلرَّسُولُ بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [ المائدة : 67 ] ، وقال : { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } [ النور : 54 ] . ولأنه [ لا ] يجوز أن تقع له الحاجة إلى الإجارة من عذاب الله تعالى ، ولم يوجد منه تقصير ولا تضييع يستوجب به العقاب ؛ فلا بد من أن يُمْكِن فيه ما ذكرنا من التقصير في التبليغ والعدول عما كلف ؛ حتى يستقيم ذكر الإجارة [ فيه ] . وذكر أبو معاذ - صاحب التفسير - : أن الاستثناء راجع إلى قوله : { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَدا } ، ليس إلى قوله : { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ } ، واستدل على ذلك بقراءة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يقرأ : { قل إني لا أملك لكم غيّاً ولا رشدا إلا بلاغا من الله } ، وليس فيما ذكرنا قطع الاستثناء على قوله : قل إني لا أملك لكم ضرّاً ولا رشدا إلا بلاغا من الله ؛ للوجه الذي ذكرنا . ولأن أكثر أهل التأويل أجمعوا على صرف الاستثناء إلى قوله : { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ ٱللَّهِ أَحَدٌ } ؛ فلا يجوز أن يحمل قولهم على الخطأ بما ذكره أبو معاذ ، وما ذهبوا إليه وجه الصحة والسداد . وجائز أن يكون البلاغ والرسالة واحداً ؛ فيكون قوله الذي يبلغ بلاغا من الله ورسالاته ، ويكون ذلك على التكرار ؛ وهو كقوله { وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ آل عمران : 48 ] قيل : إنهما واحد . وجائز أن تكون الرسالة نفس ما أنزل ، وهو الكتاب ، والبلاغ ما أودع فيه من الحكمة والمعاني ؛ وكذلك قيل في قوله تعالى : { وَيُعَلِّمُهُ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْحِكْمَةَ } [ آل عمران : 48 ] : إن الكتاب هو المنزل نفسه ، والحكمة : ما تضمن فيه من المعاني . وجائز أن يكون البلاغ من الله تعالى منصرفا إلى حكمه ، ورسالاته إلى غيره . أو تكون رسالاته حكمه ، والبلاغ خبره ؛ وهو كقوله تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] : [ صدقا ] [ أخباره ، وعدلا ] أحكامه ، أو إبلاغا من الله حق الله عليهم ورسالاته بما به مصالحهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } قالوا : لا ملجأ وممالاً ، أي : موضعا يمال إليه ، والالتحادالإمالة ، سمي اللحد : لحدا من هذا ؛ لأنه يمال عن سننه . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ، وقال في موضع آخر { إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنْيَا وَٱلآخِرَةِ } [ الأحزاب : 57 ] ، وقال : { وَمَن يَعْصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } [ الأحزاب : 36 ] ، وكل من ارتكب المآثم ، فقد دخل في [ حد العصيان ] وإيذاء الرسول ، ولكن المراد هاهنا من يعتقد عصيان الرسول وأذاه ؛ لأن الله تعالى أضاف الأذى والعصيان إلى نفسه ، ولا أحد يقصد قصد أذى الله تعالى ، والله - عز وجل - لا يؤذى ، ولكن أضاف أذى الرسول وعصيانه إلى نفسه ، وقد كانوا يعتقدون عصيانه وأذاه ؛ فجعل عصيانهم وأذاهم لرسوله أذى منهم لله تعالى وعصيانا له ؛ فثبت أن هذا في الاعتقاد ، وقال - عز وجل - : { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] ، وقال : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] ، فجعل طاعة الرسول طاعة له ، وعصيان رسوله عصيانا له . ولأنه ذكر العصيان على أثر تبليغ الرسالة ؛ فثبت أن العصيان هاهنا في ترك القبول لما أنزل على الرسول ، وفي اعتقاد العصيان له . وروي عن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه قال : من آمن بالله تعالى ، ولم يؤمن برسوله ، فهو ليس بمؤمن ؛ لأن جهله بالله تعالى هو الذي حمله على تكذيب الرسول ؛ لأن الرسول ليس يدعوه إلا إلى ما يقربه إلى الله تعالى ، وإلى ما ينجيه من عذابه ؛ فلو كان يحب الله تعالى ، ويؤمن به ، لكان يدعوه ذلك إلى حب الرسول ، وإلى طاعته ؛ فثبت أن المكذب للرسول جاهل بربه ، والمطيع له مطيع لله تعالى . وقوله - عز وجل - : { حَتَّىٰ إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } ، وقال في موضع آخر : { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً } [ مريم : 75 ] . ويحتمل أن يكون هذا في الدنيا والآخرة جميعا ، ويكون ذلك راجعا إلى يوم بدر ، كما ذكره أهل التأويل ؛ إذ قد ظهر في ذلك اليوم أنهم شر مكانا ، وأضعف جندا ، وأضعف ناصرا . ويشبه أن يكون هذا في الآخرة ؛ فإنهم يعلمون أنهم أقل عددا في الآخرة ؛ لأن كل واحد منهم يتبرأ عن صاحبه وناصره ومعينه في الدنيا ، ويصير عدوّاً له ؛ فيقل عددهم ، وأما في يوم بدر ، فقد كانوا أكثر عددا من المسلمين ؛ فلم يتبين لهم أنهم أقل في العدد . ويجوز أن يوم بدر يكون المسلمون أكثر عددا ؛ لأن الله تعالى أمد المسلمين بملائكته ؛ فصار عددهم أكثر في التحقيق ، وإن كانت الكفرة في رأي العين أكثر منهم عددا . ثم يشبه أن تكون هذه الآية نزلت على أثر تخويف الكفرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة عددهم وقوتهم في أنفسهم ، وقلة عدد المسلمين ، فوعد الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالنصر وكثرة العدد عند وقوع الحاجة إليها ، وبالله التوفيق . وقوله - عز وجل - : { قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً } : فهذا ذكره عند ذكر الوعيد ، وهو قوله : { فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } [ الجن : 24 ] ، فكأنهم سألوه : متى وقت هذا الوعيد ؟ فأمر أن يقول : { قُلْ إِنْ أَدْرِيۤ أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّيۤ أَمَداً } . قد ذكرنا فيما تقدم من الآيات : أن ليس في بيان وقت الوعيد فضل يقع في الوعيد ؛ بل إذا لم يبين وقت الوعيد ، كان فيه فضل تخويف وتحذير لا يوجد فيما يبين ؛ لأنه إذا بين ، فإن كان فيه أمد سَوَّفَ الناس وأخروا التوبة ؛ لما أمنوا حلول النقمة بهم إلى مجيء ذلك اليوم ، وإذا لم يمهلوا صاروا إلى الإياس ؛ فيرتفع الخوف والرجاء ، وفيه ارتفاع المحنة ؛ لأن المحنة في الأصل بالعمل على الرجاء والخوف . ولأنه إذا لم يبين ، كانوا على الحذر والخوف ؛ فيحملهم ذلك على التسارع في الخيرات والإقلاع عن المساوئ ؛ فأمر أن يقول هذا ، وإلا فالذي أمره بأن يقول هذا عالم بالوقت الذي يقع فيه الوعيد . وقوله عز وجل : { عَٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } الأصل فيما غيب الله تعالى عن الخلق أنه على منازل ثلاثة : أحدها : ما قد أعجز الخلق عن احتمال الوقوف عليه بالخلقة ، نحو الكيانات التي هي أصول الأشياء ، لو أراد أحد أن يعرف المعنى الذي به صلح أن يكون كيانا ، لم يقف عليه ، ونحو الماء جعل حياة لكل شيء ، ولو أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي به صلح أن يجعل حياة ، لم يقف عليه ، وكذلك هذا في كل ما جعل كيانا موجودا . والثاني : ما أمكن الخلق معرفته وبلوغه إليه بالتأمل والنظر ، بدون معرفة السمع والأثر ، نحو معرفة الصانع ومعرفة وحدانيته . والثالث : هو الذي لم يعجزهم عن إدراكه ، ولا مكنهم من الوقوف عليه دون خبر يرد ، بقوله : { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } في هذا ، وهو الذي مكنوا منه ، لكنهم لا يبلغونه إلا بمعونة الخبر ، وذلك نحو الأشياء التي ترجع إلى مصالح الخلق والتي توصل إلى مصالح الأغذية فيما ظهر بين الخلق ، ولكنها لا تعرف إلا بالسماع ، ممن له علم من الخلق وانتشاره فيهم ، وهو بحيث لا يحتمل إدراكه بالنظر ؛ فبين أن ذلك بالرسول ، ومتى وجد ذلك من شخص مشار إليه دل ذلك على الاختصاص له بالرسالة . ثم ذكر بعضهم : أن في هذه الآية دلالة تكذيب المنجمة ، وليس كذلك ؛ لأن فيهم من يصدق خبره ، ويعرف المطالع ، والمغارب ، والمشارق ، والكواكب التي بها يتوالد الخلق ، والتي يقع عندها التغير والتبدل ، وذلك مما لا يقف على علمه بالتأمل والتدبر . وكذلك المتطبعة : منهم من يعرف طبائع النبات أنها تصلح لكذا ، وهذا يصلح لكذا ، فيقع به المصالح للخلق ، ومعلوم أن هذا من نوع ما لا يدرك بالتأمل والنظر ؛ فعلم أنهم وقفوا على علمه من جهة رسول انقطع أثره ، وبقي علمه في الخلق ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ مِن رَّسُولٍ } ، أي : اختاره واصطفاه ، والأصل أن الرسالة تلزم الخلق الشهادة له بالصدق في كل خبر وبالعدل في كل حكم ؛ لقوله : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } [ النساء : 65 ] ، وبالإصابة في كل أمر فيما لم يبلغ مبلغا يوجب الأمر ؛ فهو لا يختصه للرسالة ، وفي الاختصاص نعمة عظيمة على الخلق ؛ إذ به وصل الخلق إلى تعرف ما يبلغهم إليه الحاجة في أمر معاشهم ومعادهم [ ودينهم ودنياهم ] . وقوله - عز وجل - : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } . قيل : رصدا من بين يدي الرسول ، ومن خلفه من الملائكة ؛ ليمنع الإنس عن الرسل في منعهم الرسل عن التبليغ ؛ حتى يبلغوا ، ذكر هذا عن الحسن البصري رحمه الله . وكذلك قال في قوله : { إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِٱلنَّاسِ } [ الإسراء : 60 ] : إن إحاطته هي أن يعصمه من الناس من أن يصل إليه منع الناس إياه عن تبليغ الرسالة . ويحتمل أن يكون الملائكة جعلوا رصدا عن الجن عن استراق ما يوحى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم وعن تلقيه ؛ حتى يكون الرسول هو الذي يبلغ إلى الخلق ، ويشتهر ذلك فيما بين الخلق أن الرسول هو الذي قام بتبليغه إلى الخلق ؛ لأنهم إذا لم يجعلوا رصداً ؛ أمكن الجن أن يسترقوه ويبلغوه ؛ فيأتوا بلدة لم ينتشر عندهم علم ذلك من جهة الرسول ؛ فيعرفوا ذلك من عند الجن قبل أن يبلغهم الرسول ، فإذا بلغ الرسول من بعد ، التبس الأمر على الذين ظهر فيهم العلم من جهة الجن ؛ فجعل عليهم رصدا ؛ [ حتى ] ينتشر علم ذلك من جهة الرسول ؛ فترتفع الشبه . أو يكون الرصد لمنع الجن الذين سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغوا قومهم من الجن ؛ حتى ينتهي الخبر إليهم من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم . وقال بعضهم : { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } : إن الملائكة كانوا يرصدون النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاءه الملك ، قالوا : هذا وحي من الله تعالى ، وإذا جاءه الشيطان أخبروه به . ولكن هذا بعيد ؛ لا يحتمل أن يخفى عليه وحي الشيطان من وحي جبريل عليه السلام . وقال بعضهم : { مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } ، أي : من بين يدي من يبلغ الرسالة إلى الرسول ، وهو الملك الذي ينزل بالوحي ، جعل بين يديه ومن خلفه ملائكة يرصدونه ؛ كي لا يستلب الشيطان عنه ، ويحدِثُ فيه حدثا من التغيير والتبديل ؛ ليعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه إنما يبلغ إليه رسالات ربه . وهذا بعيد أيضا ؛ لأن للمبلغ [ من القوة ] ما يدفع أذى الجن عن نفسه ، وهو أمين لا يخاف منه التغيير والتبديل حتى يجعل عليه الرصد ؛ فيؤمن من تبديله ؛ ألا ترى إلى قوله - عز وجل - : { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 20 - 21 ] ، فوصفه الله تعالى بالقوة والأمانة جميعا . لكنه جائز أن يكون المبلغ ممتحنا بالتبليغ ، والذين معه من الرصد امتحنوا بأمور أخر ، لا أن جعلوا رصدا من الجن . وجائز أن يكونوا أرسلوا معه ؛ لمكان تعظيم الوحي ، وتشريف الرسالة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ } : قال قائلون : ليعلم محمد بالرصد : أن قد بلغ سائر الرسل رسالات ربه على الوجه الذي أمروا كما بلغ هو . والثاني : أن يعلم كل في نفسه : أن قد أبلغ رسالات ربه . أو ليعلم الأعداء أن قد أبلغ محمد - عليه السلام - رسالات ربه على الوجه الذي أمر ، لم يقع فيه تغيير من شيطان ، ولا جني ، ولا عدو . وقوله - عز وجل - : { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ } . أي : بما عند [ الرسول ، أو ] بما عند الملائكة ، أو بما عند الخلق . وقوله - عز وجل - : { وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } أي : أحاط العلم بالذي هو معدود ، لا بالعد ، وهو كقوله : { وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } [ الحجر : 19 ] ، أي : ما يوزن عند الخلق . أو أحاط العلم بما لدى الكفرة لا بالرصد ، وأن في نصب الرصد محنة وتكليفا على الرصد ، لا أن يقع بهم الحفظ ، وهو كقوله - عز وجل - : { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءَالَٰفٍ مِّنَ ٱلْمَلاۤئِكَةِ مُسَوِّمِينَ * وَمَا جَعَلَهُ ٱللَّهُ إِلاَّ بُشْرَىٰ لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا ٱلنَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ } [ آل عمران : 125 - 126 ] ، فبين أن النصر من عنده ، وأن الملائكة إنما أرسلت ؛ لتطمئن بها قلوب المؤمنين ، وتركن إليها طباعهم . { وَأَحْصَىٰ كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } ، أي : كل شيء عنده [ معدود ومحصى ] ، لا يغفل - جل جلاله - عن معرفة عدده ، ولا يعتريه أحوال يعزب عنه فيها علم ذلك ، خلافا لما عليه أمر الخلق ، والله الموفق ، [ وصلى الله على سيدنا محمد وآله أجمعين ] .