Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 72, Ayat: 11-19)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } . قال بعضهم : { ٱلصَّالِحُونَ } هم المؤمنون و { دُونَ ذَلِكَ } هم الكافرون . ويشبه أن يكون { ٱلصَّالِحُونَ } ، و { دُونَ ذَلِكَ } ليس على الإيمان والكفر ؛ لأن هذا قد ذكر فيما تقدم من الآيات بقوله : { وَأَنَّا مِنَّا ٱلْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا ٱلْقَاسِطُونَ } ، ولو كان التأويل على ما ذكروا ، لكان يقع موقع التكرار ؛ ولكن تأويله عندنا : { وَأَنَّا مِنَّا ٱلصَّالِحُونَ } ، أي : منا من عرف بالصلاح والستر ، { وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } وهم الفسقة ؛ فيكون فيه إبانة أن كل أهل دين فيهم الصالح المرضي ، وفيهم الفاسق المفسد في دينه ؛ قال الله تعالى : { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ } [ النور : 32 ] ، ولو لم يكن منا غير صالح ، لم يكن لاشتراط الصالحين معنى ، وكقوله تعالى : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } [ الطلاق : 2 ] ، فلو لم يكن منا أهل فسق ، لما قال هذا . وقوله - عز وجل - : { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } . أي : أهواء متفرقة ، ولم يذكروا في الأهواء المتفرقة الأصلح والأدون ، وذكروا ذلك عند ذكر الفاسق والصالح ؛ لأن أهل الأهواء كلٌّ [ يظن ] في نفسه : أنه هو المحق ، وغيره على الباطل ، وأما الفاسق فهو يعرف أنه يتعاطى بفسقه ما لا يحل له ، ويرتكب ما نهي عنه ، وكذلك كل من شاهد فسقه يعرف أنه على الباطل ؛ وإن كان كذلك ، ظهر الدون فيه ، وظهر الصالح ، ولم يظهر ذلك في اعتقاد المذاهب ؛ فلم يتكلم فيه بالدون والصالح . ثم الطرائق هي المذاهب والأهواء ، والقدد : القطع ، يقال : قَدَّه ، أي : قطعه ، فمعناه : أنا كنا على مذاهب متفرقة ، وأهواء متشتتة ، ففي الآية أن في الجن أهواء متفرقة ، كما [ أن ] ذلك في الإنس ، والأصل فيه أن طريق معرفة المذهب والدين الفكر والاجتهاد [ ليتوصل به ] إلى الحق ، والمجتهد قد يصيب الطريق مرة ، ويزيغ عنه أخرى ؛ فلهذا ما أصاب البعض من الخلائق الطريق المستقيم ، ومنهم من زاغ عنه . ويعلم بهذا أن سبيل الجن في التوحيد وسبيل الإنس واحد ، وهو الفكر ، وله الاجتهاد ، وأن فيهم آيات متشابهة كما في الإنس ؛ إذ عن المتشابه يتولد الزيغ ؛ لذلك تفرقوا على أهواء [ متفرقة ] مختلفة ، وأما أسباب الفسق مجتمعة ، فتعرف بالمعاينة ، فيظهر الأدون والأرفع في الدين . وقوله - عز وجل - : { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } : ذكر أبو بكر الأصم أنه على كفرهم ظنوا ألا يعجزوا الله تعالى . ولكن أكثر أهل التأويل ذكروا أن الظن هاهنا في موضع العلم ، ويؤيد تأويلهم قراءة حفصة - رضي الله عنها - فإنها كانت تقرأ : { وأنا علمنا أن لن نعجز الله في الأرض فَرَرَةً ولن نسبقه هربا } . فقوله : { لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ } أي : لن نفوته ، ولا يتهيأ لنا أن نعجز الله بأهل الأرض عن إيصال نقمته وعذابه إلينا . ويخرج قوله : { فَرَرَةً } على ذلك ، أي : لو فررنا من عذابه ، لن نعجزه ألا يعذبنا . والفرار قد يكون بدون الطلب ؛ قال الله - عز وجل - : { فَفِرُّوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } [ الذاريات : 50 ] ، ولم يرد به الفرار من الطلب ، وأما الهرب فإنه لا يكون إلا عن طلب ؛ فكأنهم قالوا : لا يتهيأ لنا الفرار عن عذاب الله تعالى ؛ لكثرة الأعوان والأنصار ، ولا يعجزه هربنا عن طلب . أو أن يكون قوله عز وجل : { لَّن نُّعْجِزَ ٱللَّهَ فِي ٱلأَرْضِ } وإن دخلنا تحت تخوم الأرضين ، ولن نعجزه بالهرب على وجه الأرض ، فيكون فيه إقرار بأنا لا نقدر بالحيل والأسباب أن نحترز من عذاب الله تعالى ، كما يتهيأ الاحتراز عن ملوك الأرض بالحيل والأسباب . ثم مثل هذا الكلام يصدر عن أهل الإسلام ؛ لأن مثل هذا الكلام إنما يتكلم به من يخاف حلول نقم الله تعالى عليه ، والذي أيقن بالبعث ، ويذكر مقامه بين يدي ربه ، وأما أهل الكفر : فلم يؤمنوا بالبعث حتى يحملهم خوف العاقبة على النظر في مثل هذا ؛ فثبت أن هذه المقالة صدرت عن أهل الإسلام ، ليس عن أهل الكفر ؛ كما ذكره أبو بكر الأصم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا ٱلْهُدَىٰ آمَنَّا بِهِ } . فالهدى هو الدعاء إلى الحق ، فيحتمل أن يكون لما دعينا إلى الحق - وهو القرآن - آمنا به ؛ ألا ترى إلى قوله - عز وجل - : { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلْحَقِّ } [ يونس : 35 ] ، أي : يدعو إليه ، وقال [ الله تعالى ] في أول السورة : { يَهْدِيۤ إِلَى ٱلرُّشْدِ } [ الجن : 2 ] . ويجوز أن يكون الهدى هو الاهتداء ، أي : لما سمعنا ما به اهتدينا . وظن أبو بكر الأصم أنهم كانوا كفرة إلى أن سمعوا الهدى فآمنوا به ؛ لأنه لو كانوا على الهدى من قبل لكان الإيمان منهم سابقا ؛ فلا يكون قوله : { آمَنَّا بِهِ } وقد آمنوا من قبل - معنى ، وليس يثبت كفرهم بما ذكر ؛ لأنه قد يجوز أن يكونوا على الإيمان فلما سمعوا الهدى ، أحدثوا إيمانا بهذا الهدى على ما سبق منهم من الإيمان بالجملة ؛ ألا ترى إلى قوله - عز وجل - : { فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } [ التوبة : 124 ] ، وقال : { لِيَزْدَادُوۤاْ إِيمَٰناً مَّعَ إِيمَٰنِهِمْ } [ الفتح : 4 ] ، أي : زادوا إيمانا ؛ [ بالتفسير على ] ما سبق منهم من الإيمان بالجملة لأنهم لم يكونوا من قبل مؤمنين ، فأحدثوه للحال ، وكذلك قال : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] ، وقد هدوا الصراط المستقيم ، ولكنهم يريدون بهذا الدعاء أن اهدنا بالإشارة والتعيين إليه الصراط [ المستقيم ] على ما هديتنا في الجملة ؛ فكذلك إحداثهم الإيمان بما سمعوا من الهدى لا ينفي عنهم الإيمان فيما سبق من الأوقات ، بل يجوز أن يكونوا مؤمنين من قبل ، ثم يحدثوا الإيمان بكل أمر يجيئهم من عند الله - عز وجل - ، ولا يدل إيمانهم [ به ] على أنهم لم يكونوا من قبل مسلمين ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } . قال - رحمه الله - : إنه لا أحد من أهل الإيمان من جني ولا إنسي يخاف البخس والرهق من الله تعالى إلا المعتزلة ؛ فإنهم يخافون ذلك ؛ لأنهم ليسوا يخرجون مرتكبي الكبائر من الإيمان ، ثم يطلقون القول فيهم : إنهم يخلدون في النار ، وفي التخليد خوف البخس والرهق ، بل فيه ما يزيد على البخس ؛ لأن البخس هو النقصان ، وفي التخليد ذهاب منفعة الإيمان ومنفعة الخيرات التي سبقت منهم . وقال تعالى : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] ، والمعتزلة تزعم أنه [ لو ] آخذهم بالخطأ والنسيان ، كان جائراً . وقال : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } [ آل عمران : 8 ] وهم يزعمون أنه لو أزاغ قلوبهم بعد الهدى ، كان ذلك منه جورا وظلما ، فهم أبدا على خوف من جور ربهم . ونحن نقول بأنه لو آخذهم به ، كان يكون ذلك منه عدلا ، وإذا عفا عنهم ، كان ذلك منه إنعاما وإفضالا ، فنحن ندعو الله تعالى ، ونتضرع إليه ألا يعاملنا بعدله فنهلك ، بل يعاملنا بالإفضال والإنعام . وعلى قول المعتزلة من ارتكب كبيرة ، ردت عليه حسناته ، وصار عدوّاً لله تعالى ، وخلد في النار أبد الآبدين ، والله يقول : { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَٰعِفْهَا } [ النساء : 40 ] ، وأولى الحسنات التي يستوجب عليها المضاعفة هو الإيمان بالله تعالى ، فلا يجوز أن يخلد في النار ، ويذهب عنه منفعة الإيمان ، تعالى الله عما يقولون علوّاً كبيرا . ثم قوله : { بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } يحتمل وجهين : أحدهما : البخس : النقصان ، أي : لا ينقص من حسناته ، والرهق : الظلم ؛ كقوله تعالى : { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [ طه : 112 ] ، وأن يحمل عليه من سيئات ارتكبها غيره . والثاني : { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً } ، أي : ألا تقبل حسناته إذا تاب ، { وَلاَ رَهَقاً } أي : ظلم ؛ فلا يحسب له من حسناته شيئاً . وقوله - عز وجل - : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ } . القاسط : الجائر والمقسط : العادل . ثم في العدل ثلاث لغات ؛ يقال عدل عنه : إذا مال وجار . وعدل به : إذا جعل له شريكا وعديلا . وعدل فيه : إذا حكم بالعدل . وقوله - عز وجل - : { فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُوْلَـٰئِكَ تَحَرَّوْاْ رَشَداً } : التحري والتوخي هو القصد ؛ فكأنه يقول : قصد الرشد بالإسلام . وقوله - عز وجل - : { وَأَمَّا ٱلْقَاسِطُونَ فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } . قال أبو بكر الأصم : دلت الآية على أن للجن لحما ودما كما للإنس ؛ [ لأنه ] قال في الإنس : { وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ } [ البقرة : 24 ] ، فلو لم يكونوا لحما ودما ، لم يصيروا لجهنم حطبا . ولكن هذا لا يدل ؛ لأن اللحم من شأنه أن يحترق وينضج ، ولا يصلح أن يكون وقودا ، ولكن الله تعالى باللطف ، صير لحمان الإنس وقودا ، ليس أن صار حطبا بما كان لحما ، فليس في الآية دلالة ما ذكر . بل فيها أن الجن قد امتحنوا بالعبادة كما امتحن بها الإنس ، وأنهم إذا عصوا ربهم استوجبوا العقاب مثل ما يستوجبه الإنس . ثم ذكر عن أبي حنيفة - رحمه الله - أنه قال : ليس للجن ثواب ، وعليهم العقاب إذا عصوا . ومعنى قوله : ليس لهم ثواب عندنا ، ليس يريد به أن الله تعالى لا يرضى عنهم إذا عبدوه ، ولا تعظم منزلتهم عنده ، ولكنه يريد به أن الذي وعد للإنس من المآكل والمشارب والأزواج الحسان والحور في الجنة على الخلود - ليس لهم فيها ؛ لأن الوعد من الله تعالى بها جرى للإنس ، ولم يجر الوعد للجن ، ولا ذكر ذلك في شيء من القرآن ، والذي وعد به الإنس طريقه الإفضال والإنعام ، لا أن يكون ذلك حقّاً للإنس قِبَلَه ، فإذا لم يجر لهم الوعد بذلك ، لم يجب القول لهم بالموعود . وأما العقاب فإن الحكمة توجب التعذيب لمن كفر به ؛ فلا يجوز أن تكون الحكمة توجب تعذيب الكفرة ، ثم لا يعذب الجن إذا كفروا ؛ فلذلك وجب القول بعقابهم ، ولم يجب القول بالثواب ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } ، اختلف فيه : فمنهم من قال : طريقة الهدى . ومنهم من قال : طريقة الكفر . فمن قال : المراد : هو طريقة الهدى ، قالوا : إن الطريقة المعروفة المعهودة هي طريق الله تعالى ، فعند الإطلاق ، تنصرف إليه ؛ كالدين متى ذكر مطلقا ينصرف إلى دين الحق ، وكذلك : السبيل المطلق ؛ قال الله تعالى : { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الفاتحة : 6 ] ، وهو الإسلام . ثم يخرج هذا على وجوه : أحدها : ينصرف إلى الكفرة أنهم : { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } ، أي : لو أجابوا إلى ما يدعون إليه من الهدى ، { لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } ، أي : وسعنا عليهم العيش ، وكثرنا أموالهم ، ويكون ذكر الماء هاهنا كناية عن السعة ؛ لأن سعة الدنيا كلها تتصل بالماء ، والماء أصلها ؛ قال الله تعالى : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ } [ الذاريات : 22 ] ، فأخبر أن رزق الخلق في السماء ، والذي ينزل من السماء الماء ، وهو المطر ، وجعل ذلك رزقا ، إذ هو أصل رزق الخلق ؛ فكذلك ذكر [ الماء ] هاهنا كناية عن السعة من الوجه الذي ذكرنا . فإن كان على هذا ؛ فيكون الخطاب راجعا إلى الوقت الذي كانوا ابتلوا فيه بالقحط والسنين ؛ فوعد لهم أنهم لو أجابوا إلى ما دعوا إليه يرفع عنهم القحط والسنين ، ويوسع عليهم في الرزق ، وهو كقول نوح وهود وغيرهما ، ووعدهم قومهم بإرسال الأمطار ، وتكثير الأنزال والأموال والأولاد ونحوه . ويجوز أن يكون هذا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فإنهم كانوا في أول الإسلام في ضيق الحال ، وشدة من العيش ، وكانوا يتفرقون في الشعاب والأودية ؛ لشدة ما حل بهم من الجوع ؛ ليصيبوا من عشبها ، وعند اشتداد الحال تخاف النفس من إهلاكها والتبديل ، فوعدوا السعة في العيش { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } التي كانوا عليها ، أي : داموا عليها ولم يبدلوا الدين بالهوى والحق بالباطل ، كما وعد لهم النصر والظفر على الأعداء ، مع قلة أنصارهم إن داموا على الإسلام . ويحتمل ما قال بعضهم : أن تأويل قوله : { وَأَلَّوِ ٱسْتَقَامُواْ عَلَى ٱلطَّرِيقَةِ } أي : لو أسلم أهل الأرض كلهم جميعا ، لوسعنا عليهم الدنيا ، وكثرنا أموالهم وأولادهم ؛ حتى يفتنوا فيها ويمتحنوا بمحن شديدة ، فيتحمل البعض منهم فيبقوا مؤمنين ، ولا يتحمل البعض فيبغون ويعودون إلى ما كانوا عليه من الكفر ؛ حتى لا يقع الخلف في وعدنا ؛ فإن الله تعالى وعد أن يملأ جهنم من الجنة والناس أجمعين ، ولا يجوز أن يقع في وعيده خلف ، وهم لو استقاموا على الطريقة ، ولم يبغوا ، أدى ذلك إلى خلف الوعيد ؛ لأنه لا يملؤه إذا داموا على الطريقة ولم يبغوا ، وتكون الحكمة في بغيهم أن يعرف الخلق أن الله - تعالى - لم يخلقهم لمنافع تحصل له ، ولكن خلقهم لأنفسهم : إن أحسنوا [ أحسنوا ] لأنفسهم ، وإن أساءوا فعليهم ، ولو أبقاهم على الطريقة المستقيمة ، وظهرت الموالاة في الجملة ، لكان يسبق إلى الأوهام : أنه إنما خلقهم لمنافع نفسه . وهذا من الله تعالى بيان علمه بما لا يكون أن لو كان كيف يكون ؛ إذ الله تعالى علم الإيمان من البعض ، والكفر من البعض ؛ للحكمة التي ذكرنا ، وغيرها مما يقف على بعضها الخلق دون البعض ، وحكم بذلك ، ثم أخبر أنه لو حكم بأن يستقيم الكل على طريقة الحق ، ويؤمنوا ، لم يحكم على طريق الأبد في حق الكل ، بل حكمه أن يستقيم عليها البعض إلى مدة ، ثم يترك ، ويبدل الحق بالباطل ويدوم البعض عليها ؛ تحقيقا لما ذكرنا من الحكمة ؛ وهو كقوله تعالى : { لَبَرَزَ ٱلَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ ٱلْقَتْلُ إِلَىٰ مَضَاجِعِهِمْ } [ آل عمران : 154 ] ، أي : لو لم نفرض عليهم الجهاد والخروج إلى القتال ، لبرز الذين [ منتهى آجالهم القتل ] إلى حوائج أنفسهم ، فيقتلون ، بيانا منه لحكمه الذي يحكم أنه لو حكم كيف كان ؛ فكذا هذا . وأما من قال : معناه : طريقة الكفر ، فهو أن يكون المراد من الاستقامة هاهنا : الإقامة ، ولفظة " الإقامة " يعبر بها عن الإقامة على الكفر والإسلام جميعا ، وتكون { ٱلطَّرِيقَةِ } هاهنا إشارة إلى الطريقة التي كانوا عرفوها قبل الإسلام وهي الكفر ، وإن كانت الطريقة إذا أطلق ذكرها ، أريد بها طريقة الهدى ؛ لأن طريقة الكفر هي التي كانت معروفة فيما بينهم ، وكذلك ذكر أهل التأويل : أن الطريقة [ هاهنا طريقة الكفر ] فقوله : { لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } ، أي : وسعنا عليهم ، وكثرنا أموالهم ؛ ليعلموا جود ربهم ؛ حيث بسط عليهم الرزق مع اختيارهم عداوته ؛ كما بسط الرزق على أوليائه ، وليعلموا أن حلمه يجاوز الحد حيث لم يؤاخذهم بذنوبهم ولم يعجل بإنزال النقمة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } فالفتنة : المحنة التي فيها الشدة ، فإن كان هذا في أهل الكفر ، ففي بسط الرزق عليهم محنة شديدة ؛ لأن ذلك يمنعهم عن الخضوع والانقياد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لما يروا من الفضل على من دونهم في المال والسعة ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [ سبأ : 34 ] وكذلك قال : { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } [ الأنعام : 123 ] . وإن كان التأويل منصرفا إلى أهل الإسلام ، ففي التوسيع عليهم محنة شديدة ؛ وكذلك جميع ما امتحنا به فيه شدة ، قال الله تعالى : { وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] فما من حال تعترض الإنسان إلا وله فيها شدة . وقوله - عز وجل - : { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ } : جائز أن يكون : ومن يعرض عن طاعة ربه وعبادته ، أو يعرض عن توحيده ، أو يعرض عن القرآن ؛ إذ هو ذكر . والإعراض هاهنا عبارة عن الإيثار والاختيار ، أي : من يختار ذكر غير الله تعالى على ذكره ، أو طاعة غيره على طاعته . وقوله - عز وجل - : { يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } ، وقال في موضع آخر : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [ المدثر : 17 ] فجائز أن يكون الصعد ، والصعود على التحقيق ؛ كما ذكره أهل التفسير : أنهم يكلفون الصعود على جبل من نار ، فلا يقدرون إلا بعد شدة عظيمة ، ثم إذا بلغوا أعلاها يهوون فيها ، فيكون ذلك دأبهم . وجائز أن يكون على التمثيل ؛ وذلك لأن الصعود أشد من الهبوط ؛ فيكون الصعود عبارة عن المشقة هاهنا : أنه يستقبله ما يشق عليه . وقيل : المشقة التي عليهم هي ما يحل بهم من العذاب متتابعا عذابا بعد عذاب . وقال القتبي : الصعود : المشقة ، يقال : صعد عليَّ هذا الأمر : يشق عليَّ . وروي عن عمر - رضي الله عنه - أنه قال : " ما يصعدني أمر ما يصعدني خطبة النكاح " ، أي : ما يشق عليَّ ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَنَّ ٱلْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } : أي : ما يسجد فيه ، وما يسجد به ، فما يسجد فيه هو البقاع ، وما يسجد به هو الجوارح ؛ فكأنه يقول بأن البقاع التي يسجد فيها والأعضاء التي يسجد بها لله تعالى ؛ لأنه هو الذي خلقها وأنشأها ، والمساجد التي بنيت فإنما تبنى لعبادة الله تعالى ، وليدعى فيها فلا يشركوا غيره في العبادة والدعاء . وقال بعضهم : أراد بالمساجد المسجد الحرام ؛ روي ذلك عن الضحاك وغيره ؛ فكأنه إنما صرف التأويل إلى المسجد الحرام ؛ لأن هذه السورة مكية ولم يكن في غيرها من البقاع مساجد . وقال بعضهم : المساجد هاهنا البيع والكنائس ؛ لأن البيع والكنائس بنيت ؛ ليعبد الله تعالى فيها ، فنهاهم أن يعبدوا فيها غير الله تعالى ، فيخرج هذا مخرج الاحتجاج أنكم قد علمتم أن المساجد بنيت لتعبدوا الله فيها فلا تعبدوا فيها غيره ، وإذا كان الله منشئها وخالقها دون غيره ، فكيف تشركون معه غيره في العبادة والدعاء وليس هو بمنشئ لها ؟ وقوله - عز وجل - : { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } . جائز أن يكون على الدعاء نفسه ، فيكون معناه : ألا تدعوا مع الله أحدا ؛ لأن الإله اسم المعبود ، [ و ] كان القوم إذا عبدوا شيئا سموه : إلها ؛ فيقول : لا تدعوا مع الله أحداً [ إلها ؛ فإنه هو الإله ، وهو المستحق للعبادة ] من كل أحد . وجائز أن يكون أريد بالدعاء العبادة ؛ قال - عليه الصلاة والسلام - : " الدعاء مخ العبادة " ، وقال تعالى : { ٱدْعُونِيۤ أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ ٱلَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] ؛ فجعل دعاءهم إياه عبادة منهم له ؛ فيكون قوله : { فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ ٱللَّهِ أَحَداً } ، أي : لا تشركوا غيره معه في العبادة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } : [ منهم من يقول : إنهم { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } ] على جهة الرغبة فيه [ والموالاة ] له ؛ فقوله { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } ، أي : كاد يلتصق بعضهم إلى بعض مثل اللبد ليتصلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم [ أو { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ } ، أي : على رسول الله صلى الله عليه وسلم ] ، كادوا يلتصقون برسول الله ؛ حبا لما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم أو حرصا على حفظ ما سمعوا أو تعجباً مما سمعوا ؛ فكانوا يحرصون على حفظ ما سمعوا ؛ لأنهم كانوا من منذري الجن ؛ فحرصوا على حفظه ووعيه ؛ لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم ؛ وتعجبوا مما سمعوا ؛ لأنهم سمعوه من مكان لم يكن مكان قراءة الكتب ، وسمعوا من الأمي الذي لم يقرأ كتابا قط ، ولا عرف المكتوب ؛ فتعجبوا منه أشد التعجب . والتلبد : التصاق الشيء بالشيء التصاقا لا يفصل بعضه عن بعض ، وسمي اللبد : لبدا من هذا ؛ لأن الصوف يلتصق بعضه ببعض حتى لا يميز . ومنهم من زعم أنهم فعلوا [ هذا ؛ لشدة ] معاداتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فيكون على هذا منصرفا إلى الكفرة ؛ الإنس منهم والجن ، فيخبر أنهم اجتمعوا وتظاهروا ؛ ليطفئوا نور الله ، فأبى الله تعالى إلا أن يتم نوره ، فإن كان منصرفاً إلى الكفرة ، فقوله : { لَمَّا قَامَ عَبْدُ ٱللَّهِ يَدْعُوهُ } معناه : [ أي ] : لما قام محمد صلى الله عليه وسلم [ يدعو إلى الله ويوحده ] ، ويدعو الخلق إلى عبادته وطاعته - هَمَّ المشركون من [ الإنس والجن ] ، وتلبدوا على هذا الأمر أن يطفئوه ؛ فأبى الله تعالى إلا أن ينصره ويمضيه . وإن كان هذا من أهل الإسلام من الجن ، والدعاء راجع إلى العبادة ؛ فكأنه يقول : لما قام بعبادة الله تعالى وهي الصلاة ، كادوا يكونون عليه لبدا ؛ لشدة حرصهم في تحفظ ما سمعوا ، وشدة حبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما سمعوا .