Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 73, Ayat: 1-14)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } . المزمل والمدثر يقتضيان معنى واحدا ، على ما نذكر في سورة المدثر . وقوله - عز وجل - : { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } . جائز أن يكون هذا الأمر كله منصرفا إلى وقت واحد ، فإذا صرفته إلى وقت واحد ، فإما أن يكون قوله - عز وجل - : { إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } منصرفا إلى قوله : { قُمِ ٱلَّيلَ } ، أو إلى قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } ، فإن صرفت النقصان إلى قوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } ، زدت في الأمر بالقيام ، وإن صرفت النقصان إلى قوله : { قُمِ ٱلَّيلَ } ، فقد زدت في قوله : { نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } ؛ فإلى أيهما صرف ، اقتضى الزيادة في أحدهما ، والنقصان في الآخر ؛ فيتفق معناهما ، وهذا نظير قوله تعالى : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ } [ النساء : 176 ] ؛ فمنهم من جعل الكلالة اسما للميت الموروث عنه ، ومنهم من أوقع هذا الاسم على الحي الذي يرث الميت ، وأيهما كان فهو يقتضي معنى واحدا ؛ لأن منزلة الحي من مورثه ومنزلة المورث من الحي واحدة ، لا تختلف . وجائز أن يكون هذا على اختلاف الأوقات ، على ما ذكره أهل التفسير ؛ فيكون قوله : { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً } أمر بإحياء أكثر الليل ، ثم يكون في قوله : { أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } تخفيف الأمر عليه ؛ فيكون فيه أن له أن ينقص عن الأكثر . وقوله : { أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } ، أي : على المقدار الذي أبيح له الانتقاص ، وإذا ارتفع الانتقاص عاد الأمر إلى ما كان مأمورا به في الابتداء . ثم القليل ليس باسم لأعين الأشياء ؛ ولكنه من الأسماء المضافة ، فإذا قيل اقتضى ذكره تثبيت ما هو أكثر منه حتى يصير هذا قليلا إذا قوبل بما هو أكثر منه ؛ فلذلك قالوا بأن قوله { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً } ، يقتضي أمر القيام أكثر الليل ؛ ولهذا قال أصحابنا فيمن أقر أن لفلان عليه ألف درهم إلا قليلا : [ إنه ] يلزمه أكثر من نصف الألف ؛ لأنه استثنى القليل ؛ فلا بد [ من ] أن يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى حتى [ يكون المستثنى قليلا ، كما استثنى ] والله أعلم . [ وقوله ] - عز وجل - : { وَرَتِّلِ ٱلْقُرْآنَ تَرْتِيلاً } : [ الترتيل ] هو التبيين في اللغة ، أي : بينه تبيينا . وقيل : اقرأه حرفا حرفا على التقطيع ؛ لما ذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقطع القراءة ، ولكن جائز أن يكون على قراءة التقطيع ؛ لأن التبيين كان في تقطيعه ؛ وإنما أمر بالتبيين لأن القرآن لم ينزل لمجرد قراءته فقط ، لكنه لمعان ثلاثة : أحدهما : أن يقرأ للحفظ والبقاء إلى يوم القيامة ؛ لئلا يذهب ، ولا ينسى . والثاني : أن يقرأ ؛ لتذكر ما فيه ، وفهم ما أودع من الأحكام ، وما لله عليهم من الحقوق ، وما لبعضهم على بعض . والثالث : يقرأ ؛ ليعمل بما فيه ، ويتعظ بمواعظه ، ويجعلونه إماما يتبعون أمره ، وينتهون عما نهى عنه ؛ فنفذ قراءته في الصلاة يلزمنا هذا كله ، ولا ندرك ذلك إلا بالتأمل ، وذلك عند قراءته على الترتيل ، وهذا الذي ذكرناه يوجب اختيار من يرى الوقوف في القرآن ؛ لأن ذلك يدل على المعنى وأقرب إلى الإفهام . وفيه دلالة أن المستحب فيه ترك الإدغام ، وترك الهمز الفاحش ؛ لأن ذلك أبلغ في التبيين ، والأصل أن السامع للقرآن مأمور بالاستماع إليه ، وإذا لزمه الاستماع ، وفي الاستماع الوقوف على حسن نظمه وعجيب حكمته ، والوقوف على معانيه ؛ فلزم القارئ تبيينه ؛ ليصل السامع إلى معرفة معانيه ، ويقف على حسن نظمه ، وعجيب تأليفه ، وذلك يكون أقرب في إفهام السامع والقارئ ؛ لما فيه من لطائف المعاني . ثم الترتيل منصرف إلى القراءة ، وسمى القراءة : قرآنا على جهة المصدر ؛ إذ ما هو كلام الله تعالى لا يوصف بالترتيل ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } ، ولم يقل : ثقيلا على من ؟ فجائز أن يكون الثقل راجعا إلى الكفرة والمنافقين ، ويكون الثقيل الأمر بالجهاد ؛ لأنه اشتد على الفريقين جميعا ، وأيس الكفار من المسلمين أن يعودوا إلى ملتهم ؛ قال الله تعالى : { ٱلْيَوْمَ يَئِسَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } [ المائدة : 3 ] ، وتخلف المنافقون عن القتال مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وثقل ذلك عليهم ، فجائز أن يكون قوله { ثَقِيلاً } ؛ أي : على الكفرة والمنافقين ، وكذا على أهل الكبائر ثقيل أيضا ؛ لأنهم لم يتمنوا أن ينزل عليهم الكتاب ، وأما على المسلمين فليس بثقيل بل هو كما قال تعالى : { وَلَقَد يَسَّرْنَا ٱلْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ } [ القمر : 32 ] . وجائز أن يصرف ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أمر بتبليغ الرسالة إلى الفراعنة وإلى الخلق كافة ، وفي القيام بالتبليغ إلى الفراعنة مخاطرة بالروح والجسد ، والقيام بما فيه مخاطرة بالروح والجسد أمر ثقيل صعب جدّاً . أو يكون ذلك منصرفا إلى قيام الليل ؛ فيكون معنى : { قَوْلاً ثَقِيلاً } ، : أي الوفاء بما يوجبه ذلك القول . وجائز أن يكون هذا منصرفا إلى اتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنصاره ؛ فيكون ثقله من الوجه الذي كلفوا القيام بفرائضه ، وحفظ حدوده ، وتحليل حلاله ، واجتناب حرامه . وزعمت الباطنية أن القول الثقيل هو أن كلف الناطق - وهو الرسول عليه السلام - بتفويض الأمر إلى الأساس ، وهو الباب ، وذلك الأساس والباب هو علي [ بن أبي طالب ] - رضي الله عنه - عندهم ، وهم يسمون [ الرسول - عليه السلام - : ناطقا ] ، ويقولون بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مأمورا بتبليغ التنزيل إلى الخلق ؛ فلما بلغ التنزيل إليهم ، واستغنوا عنه ، احتاجوا إلى من يعلمهم التأويل ؛ فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يسند أمر التأويل إلى علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ليكون هو الذي يتولى تعليم الخلق تأويله ؛ فذلك هو القول الثقيل ؛ إذ أمر أن يستند إلى غيره ؛ فاشتد عليه إذ صار غيره ولي الأمر ، وبقي هو ساكنا لا ينطق . فيقال لهم : إن في الأمر بإسناد الأمر إلى من ذكر تخفيفَ الأمر على رسول الله صلى الله عليه وسلم بزعمكم ؛ لأن من مذهبكم : أنه إذا فوض الأمر إلى علي - رضي الله عنه - قبض هو - عليه السلام - وصورة القبض عندكم : أن يميز الصورة الروحانية النورانية من الصورة الجسدانية التي كانت محتبسة في الصورة الجسدانية ، ثم تتلف الصورة الجسدانية ، وتبعث الصورة الروحانية النورانية إلى دار الكرامة والحبور والخلاص من الحبس - لم يشتد ذلك عليه ، ولم يثقل ؛ بل كان فيه ما يرغبه إلى التفويض ، ويدعوه إليه . ومن مذهب الباطنية : أنهم لا يعلمون أحدا مذهبهم إلا بعد أن يحلفوه بالأيمان المغلظة بألا يخبر به أحداً ؛ إشفاقا على أنفسهم ، ولو كان الأمر على ما قدروا أن التلف يرد على الصورة الجسدانية التي هي سبب لحبس الصورة الروحانية ، وإذا تلفت ردت الروحانية إلى دار فيها كل أنواع السرور - فما الذي يحوجهم إلى الاستحلاف ، وما بالهم يشفقون على أنفسهم ، وليس في إتلاف أنفسهم إلا الخلاص من الحبس ، والوصول إلى الكرامات ، ومن هذا وصفه حق عليه الموت ؛ ليعلموا أنهم يعاملون الخلق على خلاف ما يوجبه اعتقادهم ، ولو كان ما اعتقدوا حقا ، لما استجازوا مخالفته ، ولكن الذي دعاهم إلى ما ذكرنا تسويل الشيطان وتزيينه في قلوبهم ، وما مثلهم إلا مثل اليهود ، الذين ادعوا أن الدار الآخرة خالصة لهم من دون الناس ؛ فقيل لهم : { فَتَمَنَّوُاْ ٱلْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ البقرة : 94 ] ؛ لأنكم لا تصلون إلى الآخرة إلا بالموت ، فإن كنتم محقين في دعواكم فتمنوا [ الموت ] لتصلوا إليها ؛ فكان في امتناعهم عن التمني ما يظهر كذبهم ، ويبطل مقالتهم ، ويبين تمويههم ؛ فكذلك في إشفاق هؤلاء على أنفسهم من الهلاك إظهار وإنباء أنهم قصدوا به قصد التمويه على الضعفة ؛ ليصلوا إلى المأكلة ويتوسعوا به في أمر دنياهم من غير حجة لهم في ذلك . وبهذا الفصل الذي ذكرنا يحتج على الثنوية ؛ فإن من مذهبهم تحريم القتل والذبح ، وأحق من يرى القتل والذبح مباحين هم ؛ لأن من مذهبهم : أن العالم إنما هو بامتزاج النور والظلمة ، فما من جزء من أجزاء النور إلا هو مشوب بجزء من أجزاء الظلمة ، وكانا متباينين ، فغلبت الظلمة على النور ، فامتزجت به ؛ فصارت الظلمة حابسة للنور ، ومعلوم أن في القتل تخليص أجزاء النوراني من [ حبس الظلمات ] ؛ لأن في القتل إزالة السمع والبصر والعقل ، ومعلوم أن السمع والبصر في هذه الأشياء ، إذ بها رؤية الأنوار ، فإذا امتازت هذه الأشياء من الجسد ، وبقي الجسد الظلماني لا يبصر شيئا ، فقد وصل جوهر النور إلى غرضه ومقصوده بالقتل ، وصار إلى مقره ، فإذا كان القتل يوصله إلى غرضه ويخلصه عن وثاق الظلمة وحبسه ، فقد أحسن القاتل إليه بالقتل والذبح ؛ فلا يجيء أن يجرَّم القتل على مذهبهم : بل يجب أن يمدح المرء على ذلك الفعل ، ويستصوب ذلك منه . وقال القتبي : القول الثقيل كلام الله تعالى ، وثقله : هو تبجيله وتعظيم حرمته ، ليس كلام السفهاء الذي لا يكترث به ، ولا يؤبه له . وقال الزجاج : الثقيل : الوزين ، [ أي ] : الذي له وزن وقدر في القلوب ، الذي يجب أن يعظم ويوقر ، ليس بالقول الذي يستصغر . وجائز أن يكون القول الثقيل [ هو ] الحق ؛ على ما روي في بعض الأخبار : " إن الحق ثقيل مر ، والباطل خفيف وفر " . وروي عن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - أنه قال : " حق لميزان لا يوضع فيه إلا الخير أن يثقل ، وحق لميزان لا يوضع فيه إلا الباطل أن يخف " ؛ فيكون ثقله العمل بما فيه . وجائز أن يكون القول الثقيل هو تكليف القيام عامة الليل . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } : قرئ : { وطاء } و { وَطْأً } ، فمن قرأ : { وطاء } بالمد ، فتأويله من المواطأة ، وهي الموافقة ، أي : موافق للسمع ، والبصر ، والفؤاد ؛ لأن القلب يكون أفرغ بالليالي عن الأشغال التي تحول المرء عن الوصول إلى حقيقة درك [ معاني الأشياء ] ، وكذلك السمع والبصر يكون أحفظ للقرآن ، وأشد استدراكا لمعانيه . ومن قرأه : { وَطْأً } ، فهو من الوطء بالأقدام ؛ فتأويله : أنه أشد على البدن وأصعب ؛ لأن المرء قد اعتاد التقلب والانتشار في الأرض بالنهار ، ولم يعتد ذلك بالليل ، بل اعتاد الراحة فيه ، فإذا كلف القيام والانتصاب برجليه في الوقت الذي لم يعتد فيه القيام ، كان ذلك أشد عليه وأصعب على بدنه . ولأن المرء بالنهار ليس ينتصب قائما في مكان واحد ، فيمكث فيه [ كذلك ] ؛ بل ينتقل من موضع إلى موضع ، ولو كلف الانتصاب في مكان اشتد عليه ذلك ، ولحقه الكلال والعناء من ذلك . ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينتصب قائما يصلي إلى نصف الليل أو أكثر ؛ فكان في ذلك محنة شديدة ، وكلفة شاقة ، والله أعلم . ثم الأصل أن المرء ينتشر بالنهار ؛ لطلب ما يعيش به وليصل إلى ما يتمتع به في أمر دنياه ، وينام الليل ؛ طلبا للراحة ، وإيثاراً للتخفيف ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ممنوعا عن اكتساب الأشياء التي يتوصل بها إلى سعة الدنيا إلا القدر الذي يقيم به مهجته ، وكذلك منع عن الراحة بالليالي ، وأمر بإحياء الليل إلا القدر الذي لا بد منه ، والله أعلم . وجائز أن يكون في الأمر بقيام الليل نوع [ من الراحة والتخفيف ] ؛ وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ألزم بتبليغ الرسالة إلى الناس كافة ، فحُمِّل تبليغها إليهم بالنهار ، ورفعت عنه الكلفة بالليل ، وأمر بأن يتفرغ لعبادة ربه ، وكان الأمر بالتفرغ للعبادة أيسر من الأمر بتبليغ الرسالة ؛ لأن في الأمر بالتبليغ أمراً بما فيه المخاطرة بالروح والجسد ، وليس في الأمر بالانتصاب قائما أكثر الليل ذلك ؛ وإنما فيه إيصال الوجع إلى بعض أعضائه ؛ فيكون فيه بعض التخفيف . فإن قيل على التأويل [ الأول ] : كيف خص رسول الله صلى الله عليه وسلم في باب النكاح ؛ حيث أبيح له فضل العدد ، ولم يبح لأمته ، وفي ذلك زيادة تمتع بشهوات الدنيا ؟ فجوابه أن يقال : بأن المعنى الذي به حظر على غيره الزيادة على الأربع ، وقصر الأمر على الأربع هو خوف الجور ؛ ألا ترى إلى قوله - عز وجل - : { فَٱنكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ ٱلنِّسَآءِ مَثْنَىٰ وَثُلَٰثَ وَرُبَٰعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَٰحِدَةً } [ النساء : 3 ] ، وإذا كان التحريم للوجه الذي ذكرنا ، ارتفع الحظر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله - عز وجل - عصمه عن الجور ، ومكنه من العدل بين نسائه ، ثم ليس في إباحة زيادة العدد سوى فضل محنة وكلفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم [ لأنه إذا أمر أن يقوم فيما بينهن بالعدل ، وأن يبتغي مرضاتهن بحسن العشرة معهن ، وإنما يصل المرء إلى الإرضاء بالأموال ، ولم يتمتع هو من الدنيا مقدار ما يصل إلى إرضائهن بالأموال ، ولم يتهيأ له أن يصيبهن إلا بسعة الأخلاق ، وأن يبين لهن لتقر أعينهن ولا يحزن - فثبت أنه ليس في إباحة العدد فضل تمتع ، بل فيه زيادة محنة وابتلاء . وفيه أيضا ما يحقق رسالته ، ويثبت نبوته ؛ لأن المرء إنما يصل إلى توفير الحقوق الواجبة عليه بالنكاح إذا تناول من فضول الدنيا وطعم لذاتها ، وأعطى النفس شهواتها ، ثم رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ممنوعا من إعطائه النفس شهواتها ، ومع ذلك قام بإيفاء حقوق الأزواج ؛ فثبت أنه باللطف من الله تعالى وصل إلى إيفاء حقهن ، ليس بأسباب البشرية . وفي هذه الآية دلالة أن الصلاة تشتمل على الذكر والفعل جميعا ؛ لأنه قال : أشد على البدن ، وشدته تكون بالفعل ، وقال : { وَأَقْوَمُ قِيلاً } ، وذلك يرجع إلى الذكر . ثم يجوز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكلف تبليغ الرسالة بالليالي ؛ لأن أعداءه من الفراعنة وغيرهم كانت همتهم أن يقتلوه ويمكروا [ به ] ، ولم يكن يتهيأ لهم إيصال الأذى به ؛ لمكان أتباعه ، والليالي هي أوقات غفلة الأتباع ، [ فلو ] كلف التبليغ فيها لتمكنوا من إيصال المكر به ؛ فوضع عنه التبليغ ، وامتحنه بالقيام لعبادة ربه . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ نَاشِئَةَ ٱللَّيْلِ } قيل : هو من نشأ ينشأ ، أي : نما ، فسميت : ناشئة ؛ لأن الأوقات تحدث ، وتترادف . وجائز أن يكون المراد من ناشئة الليل ، أي : ما يوجد من الأحوال في الليل من القيام للصلاة ، والاشتغال بعبادة الرب ، جل جلاله . وقوله : { وَأَقْوَمُ قِيلاً } ، أي : أصوب كلاما ، والأقوم : هو المبالغة في الوصف بما أريد بالقيام ؛ فإن أريد به الكلام ، فحقه أن نصرفه إلى الصدق ؛ إذ الأقوم من الأخبار أصدقها ، وإن أريد به القيام بقاء ما يقتضيه لك الكلام فمعنى قوله { أَقْوَمُ } ، أي : أبلغ في وفاء ما يوجبه القول ، وإن أريد [ به ] القراءة نفسها فهو بالليالي أقوم قراءة . [ و ] قوله - عز وجل - : { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } : أي : فراغا وسعة ومنقلبا ؛ فالسبح يذكر ويراد به الفراغ ، ويذكر ويراد به المشي والتقلب ، وهذا الذي قالوه محتمل ، ولكن لا يجيء أن يصرف تأويل الآية إلى الفراغ ، والتقلب إلى حوائج نفسه ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يتناول من الدنيا إلا قدر ما يقيم به مهجته ؛ فلا يحتاج إلى فضل تقلب ، ولا إلى كثير فراغ ؛ ليتوسع في أمر دنياه . ولكن حقه أن يصرف قلبه إلى تبليغ الرسالة ، ودعاء الخلق إلى توحيد الله تعالى ، وإلى ما يحق عليهم ؛ فيكون في قوله : { إِنَّ لَكَ فِي ٱلنَّهَارِ سَبْحَاً طَوِيلاً } ترخيص لرسول الله صلى الله عليه وسلم في أن ينصب بالليالي للقيام بين يديه ، واجتزأ منه بتبليغ الرسالة بالنهار . وقوله - عز وجل - : { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ } : أي : اذكر ربك ؛ دليله قوله على أثره : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } ، والتبتل يقع إليه لا إلى اسمه ، ثم ذكر المولى - جل جلاله - هو أن ينظر إلى أحوال نفسه ، ما الذي يلزمه من العبادة في تلك الحال ؟ فيكون ذكر ربه بإقامة تلك العبادة ، لا بأن يذكر الله تعالى بلسانه فقط ، وهو كقوله : { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] ، واستغفارهم أن يأتمروا بما أمروا ، وينتهوا عما نهوا ، لا أن يقولوا بألسنتهم : " نستغفر الله " ؛ لأنهم وإن قالوا " نستغفر الله " ، لم يقبل ذلك منهم إذا كانوا كفرة ؛ فثبت أن استغفارهم أن يجيبوا إلى ما دعاهم إليه نوح ؛ فكذلك ذكر الله تعالى يقع بوفاء ما يلزمهم حالة القيام به ، وذلك يكون بالأفعال مرة ، وبالأقوال ثانيا . ومنهم من صرف الأمر إلى الاسم على ما يؤديه ظاهر اللفظ ، فأمر بذكر اسم الرب لما يحصل له من الفوائد بذكره ؛ لأن من أسمائه أسماء ترغبه في اكتساب الخيرات ] والإقبال على [ عبادة الرب ] ، ومنها ما يدعو الذاكر إلى الخوف والرهبة ، ومنها ما يوقفه على عجائب حكمته ، ولطيف تدبيره ، وتقرير سلطانه وعظمته في قلبه ، ومنها ما يحدث له زيادة علم وبصيره ، وهي الأسماء المشتقة من الأفعال ، فإذا تأمل فيها عرف الوجه الذي منه اشْتَقَّ تلك الأسماء ، فذكر أسمائه يحدث له ما ذكرنا من الفوائد والعلوم . وقوله - عز وجل - : { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } . التبتل هو الانقطاع إلى الله تعالى ، وأن يقطع نفسه من شهواتها ، ويصرفها عن لذاتها ؛ فكأنه قال : وتبتل إليه ، وبتل نفسك تبتيلا من الشهوات واللذات ؛ ولذلك سميت مريم - رضي الله عنها - : البتول ؛ لأنها قطعت نفسها عن منافع الدنيا ، وأقبلت إلى الآخرة ، وانقطعت إليه . وقوله - عز وجل - : { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } . قال أبو بكر الأصم : تأويله : [ ملك المشرق والمغرب ] ، وحقه أن يقال : مالك المشرق والمغرب ؛ لأنه هو المالك على التحقيق . وقال بعضهم : الرب هو المصلح ، ثم خص المشرق والمغرب بالذكر وإن كان هو مالكهما ومالك الخلائق أجمع ؛ لأن ذكر المشرق يقتضي ذكر السماوات والأرضين ، وفي ذكر السماوات والأرضين ذكر أعلى العليين وأسفل السافلين ؛ لأنه إذا نظر إلى المشرق ورأى ما يطلع في المشرق من عين الشمس ، ثم تجري في أقطار السماء ، وتقطع كل يوم مسيرة ألف عام ، ثم تغرب في عين حمئة ؛ فتصير إلى أسفل السافلين ، وتجري كذلك حتى تصل إلى مطلعها ، ثم تطلع هنالك ؛ فدل ذلك على أن مدبر السماوات والأرضين ومنشئهما واحد ، وأن سلطانه في الأرض كسلطانه في السماء ، ويعلم أن من بلغت قدرته هذا المبلغ في أن يسير عين الشمس في يوم واحد مسيرة ألف عام ما يشتد على الخلق قطع هذه المسافة في مدد كثيرة - لا يجوز أن يعجزه شيء ، ودل على أن ملكه دائم لا ينقطع ؛ لأن عين الشمس تجري في كل يوم ، على ما سخرت ، لا تتبدل ، ولا تتغير باختلاف الأزمنة والأوقات ، وجعل منافع أهل الأرض متصلة بمنافع السماء ، ولو لم يكن مدبرهما واحدا لارتفع الاتصال ، وانقطعت منافع السماء عن أهل الأرض ؛ فكان في ذكر المشرق والمغرب دلالة وحدانيته ، وإظهار قوته وسلطانه ، والوقوف على عجائب حكمته ولطائف تدبيره . ثم تخصيص ذكر المشرق والمغرب دون السماء والأرض ؛ هو - والله أعلم - لأن هذا أوصل إلى معرفة التوحيد ، وأسرع إلى الإدراك من ذكر السماوات والأض ، وإن كان في [ التدبر في ] أمر السماء والأرض تحقيق ذلك . وفي قوله - عز وجل - : { رَّبُّ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ } ، أي : الذي أمرت بذكره هو رب المشرق والمغرب ، وفيه تعريف الوجه الذي يوصل إلى معرفة ربوبيته . وقوله : { لاَ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } ، أي : لا معبود يستحق العبادة إلا هو ؛ لأن الذي يحمل الإنسان على عبادة المعبود الخوف والرجاء ، وإذا عرفهم بذكر المشرق والمغرب أن تدبير الخلائق كلها راجع إليه ، وأنه هو القاهر عليهم والقادر [ عليهم ] ، وبيده الخزائن والمنافع أجمع ، علموا أنه هو الإله الحق ، والرب القاهر ، وأن من سواه مربوب مقهور ، لا يملك نفعا ولا ضرّاً ، فكيف يستوجب العبادة والإلهية ؟ ! . وقوله - عز وجل - : { فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } : جائز أن يكون أراد به أن كِلْ أمورك كلها إلى الله تعالى حتى يكون هو الذي يدبر ويحكم ، ولا تر لنفسك فيها تدبيرا . والوكيل في الشاهد هو الذي يدخل في أمر آخر على جهة التبرع ؛ لينصره فيه ، ويعينه ؛ فيكون قوله : { فَٱتَّخِذْهُ وَكِيلاً } ، أي : اطلب من عنده النصر والمعونة ، والمرء في الشاهد إنما يفزع إلى الوكيل ؛ ليزيح [ عن نفسه ] علله ، ويقضي عنه حوائجه ، ويقوم عنه في النوائب ؛ فكأنه يقول : افزع إلى الله تعالى في نوائبك ، فيكون هو الذي يزيح عنك العلل ، ويقضي عنك الحوائج ، ويكون معتمدك في النوائب ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } . قال أهل التفسير : تأويله : اصبر على تكذيبهم إياك ؛ ألا ترى إلى قوله في سياق الآية : { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ } ، فثبت أنه دعي إلى الصبر على التكذيب . وجائز أن يكون منصرفا إلى هذا وإلى غيره ؛ لأنهم كانوا لا يقتصرون على تكذيبه ، بل كانوا ينسبونه إلى الكذب مرة ، وإلى السحر ثانيا ، وإلى الجنون ثالثا ، وإلى أنه يتيم رابعا ؛ فكانوا يؤذونه بأنواع الأذى ؛ فجائز أن يكون قوله : { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } منصرفا إلى كل ذلك . ثم الأمر بالصبر يقع بخصال ثلاث : أحدها : ألا تجازهم على تكذيبهم إياك تكذيبك إياهم ، أو لا تجزع عليهم ، وفي الجزع بعض التسلي والتشفي . ولا تدع عليهم بالهلاك والتبار بل اصبر لذلك . ولقائل أن يقول : كيف كان يشتد عليه تكذيبهم إياه حتى كاد يتحزن لذلك ، والذين نسبوه إلى الكذب كانوا من أعدائه ، وليس يستثقل التكذيب من العدو ، ولا يستكثر منه ؛ لأنه بما يعاديه يعتقد أن يسيء إليه بجميع ما يمكنه وسعه ، وإنما يستثقل التكذيب من أهل الصفوة والمودة ؛ فكيف استثقله ؟ وكيف بلغ به التكذيب مبلغا يحزن به ؛ حتى يدعى إلى الصبر بقوله : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ ٱلَّذِي يَقُولُونَ … } الآية [ الأنعام : 33 ] ، وبقوله : { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } ؟ والجواب عن هذا أن الكذب والجهل مما يستثقلهما العقل والطبع جميعا ، وكذلك التكذيب والتجهيل ، أمر ثقيل على الطبع والعقل جميعا ، حتى إن الكذاب إذا نسب إلى الكذب ، اشتد عليه ذلك ، ولم يتحامل ، وكذلك الجهول إذا عرف بالجهل ، ثقل ذلك عليه ؛ فإذا كان التكذيب مستقبحا في عقول الخلق وطبائعهم ، وإن كانت طبائعهم مشوبة بالآفات وفي عقولهم نقص ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم مع صفاء عقله ، وسلامة طبعه عن الآفات أحق أن يثقل عليه ؛ فيحزن لذلك . ثم ما من إنسان ينسب إلى الكذب فيما يحدث عن نفسه أو عمن سواه من الخلائق ممن علت رتبتهم أو انحطت إلا وهو يجد لذلك ثقلاً ، فكيف إذا أخبر [ عن ] الله تعالى وكذب فيه ، أليس هذا أحق أن يثقل على القلب ويتحزن له ؟ ! ويجوز أن يكون حمله على الحزن شدة إشفاقه على المكذبين ؛ لأن تكذيبهم يفضي بهم إلى العطب والهلاك ؛ فأشفق عليهم باشتغالهم بما به هلاكهم ، وحزن لذلك . أو يكون حزنه غضبا لله تعالى ؛ إذ الرسل كانوا يغضبون لله تعالى ، ويشتدون على أعدائه . والجواب عن قوله : إن المكذبين كانوا من أعدائه ، فكيف اشتد عليه تكذيبهم ، وذلك أمر غير مستشنع من الأعداء ؟ فنقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعاملهم معاملة الولي مع وليه الصفي ، ولم يكن يعاملهم بما يعامل به الأعداء ؛ لأنه كان يدعوهم إلى ما فيه نجاتهم وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم ، ومن عامل آخر معاملة أقرب الأصفياء معه ، كان الحق عليهم أن يجازوه بالإحسان ؛ فإذا تركوا ذلك ، وقابلوه بالتكذيب ، اشتد عليه ، وحزن لذلك . ثم في قوله : { وَٱصْبِرْ عَلَىٰ مَا يَقُولُونَ } ، وفي قوله : { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } [ الأحقاف : 35 ] إبطال قول من قال : إن الله تعالى لا يفعل بعبده إلا ما هو أصلح له ؛ لأنا نعلم أنه إذا أذن لنبي من الأنبياء بالدعاء على استعجال الهلاك ، واستجيب [ له ] فيما دعا ، كان فيه ما يحمل القوم على الإيمان ، ويردعهم عن التكذيب ؛ لأنهم يخافون حلول النقمة عليهم ؛ فيتركون التكذيب ، ويقبلون على الإجابة ؛ فيكون فيه نجاتهم عن الهلاك ، وشرفهم في أمر دنياهم وآخرتهم ، فإذا لم يؤذن دل أنه ليس من شرط الله تعالى أن يفعل بعباده ما هو أصلح لهم . فإن قيل : كيف لم يؤذن بالدعاء عليهم ؛ ليحملهم ذلك على الإسلام ، ويمنعهم عن التكذيب ؟ قيل له : لأن فيما ذكرته رفع المحنة والابتلاء ؛ لأن الحجة إذ ذاك تقع من جهة الضرورة ؛ لأنهم إذا علموا أنهم يستأصلون بالتكذيب ، امتنعوا عنه ، وأجابوا إلى الإسلام كرها ؛ فتصير الحجج اضطرارية ، لا تمييزية واختيارية ، وحجج الرسل - عليهم السلام - اختيارية ، لا ضرورية ؛ لما ذكرنا أنها لو جعلت اضطرارية ، لارتفعت المحنة ؛ فجعلت حججهم من وجه يقع بها الشبه ؛ ليوصل إلى معرفتها بالفكر ؛ لئلا ترتفع المحنة . فإن قال قائل : إن أبا حنيفة - رحمه الله - ذكر في كتاب العالم والمتعلم : أن إيمان الملائكة وإيمان الرسل وإيماننا واحد ، ثم قال : فإذا استوينا نحن والرسل في الإيمان ، فكيف صار الثواب لهم أكمل ، وخوفهم من الله أشد ؟ فأجاب عن هذا السؤال بأجوبة ، وقال في جملة ما أجاب : إنهم لو ارتكبوا الزلات يحل بهم العقاب عقيب الزلل ؛ فصار خوفهم بالله تعالى ألزم من هذه الجهة . ولسائل أن يسأل على هذا ، فيقول : فإذن إيمانهم بالله تعالى ، وتركهم المعاصي ضروري لا اختياري ؟ ! فيجاب عنه بأن يقال بأن الأنبياء - عليهم السلام - لم يُبَيَّنْ لهم العصمة ، بل كانوا على خوف من وقوعهم في المهالك ؛ ألا ترى إلى قول إبراهيم - عليه السلام - : { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [ إبراهيم : 35 ] ، ولو كانت العصمة له ظاهرة ، لكان يستغني عن السؤال . وقال في قصة شعيب - عليه السلام - : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } [ الأعراف : 89 ] ، فثبت أنه لم يبين لهم العصمة ، ونحن إنما شهدنا لهم بالعصمة بالوجود ؛ لأن الحكمة توجب العصمة ، والرسل - عليهم السلام - أمروا بتبليغ الرسالة ، ولم يؤذن لهم بالنظر في أمر من تقدمهم من الرسل ؛ ليظهر لهم العصمة بالتدبر والتفكر ؛ فثبت أنهم كانوا على الخوف والرجاء في فكاك أنفسهم ، وفي وقوعها [ في المهالك ] ، وأن إيمانهم بالله تعالى لم يكن ضروريّاً ، بل وصلوا إلى معرفته بالتمييز ؛ لذلك عظمت درجاتهم . والثاني : أن الأنبياء - عليهم السلام - قد كان تقرر في قلوبهم هيبة الله تعالى وعظمته ؛ فكانت المعرفة هي التي دعتهم إلى الإيمان به ، لا خوف حلول العقوبة بهم لو ارتكبوا الزلات ، وأما الكفرة ، فلم يعرفوا عظمة الله تعالى ، ولا قدرته ، ولا سلطانه حتى يحملهم ذلك على الإيمان به ، فلو حلت العقوبة بهم بالتكذيب ، لكان الخوف هو الذي يحملهم على الإيمان لا غير ؛ فيصير إيمانهم ضروريا ؛ فلهذا لم يعاقبوا بالتكذيب ؛ لئلا ترتفع المحنة ، وخولف بينهم وبين غيرهم ، وهذا كما نقول بأن أنباء من تقدم من الرسل حجة لرسولنا صلى الله عليه وسلم في إثبات نبوته ، وإن كانت تلك الأنباء قد عرفها أهل الكتاب ، وأخبروا بها ؛ لأن أهل الكتاب عرفوا تلك الأنباء بالتعلم والتلقين ، ولم يختلف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من عنده علم تلك الأنباء ؛ فعلم أنه بالله تعالى علم ، لا بتعليم أحد ؛ فصارت الأنباء حججا لذلك ، ولو لم تصر لغيره حجة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } : جائز أن يكون تأويله : اهجرهم وقت سبهم ، ونسبتهم إياك إلى ما لا يليق بك ، ولا تعبأ بهم ، ولا تكترث إليهم ، وإلى ما يتقولون عليك ؛ لأن ذلك بعض ما يزجر المتقول والساب عما هو فيه ، وهو كقوله - عز وجل - : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] . ويحتمل أن يكون تأويله : أن انقطع عنهم انقطاعا جميلا ، والانقطاع الجميل : ألا يترك شفقته عليهم ، ولا يدعو عليهم بالهلاك ، ولا يمتنع عن دعائهم إلى ما فيه رشدهم وصلاحهم ؛ ولذلك قال في وقت أذاهم إياه : " اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون " . ويحتمل أن يكون هجره إياهم هجرا جميلا هو ألا يكافئهم بالسيئة السيئة ، بل يدفع السيئة بالحسنة ؛ كقوله تعالى : { ٱدْفَعْ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٱلسَّيِّئَةَ } [ المؤمنون : 96 ] ؛ إذ ذاك أدعى للخلق إلى إجابة من يفعل ذلك بهم عند المعاملة ، والله أعلم . ثم من الناس من يقول بأن هذه الآية نسختها آية السيف . ومنهم من قال بأنها لم تنسخ ، وصرفوا تأويل الآية إلى جهة لا يعمل عليها النسخ ، وذلك أن في قوله : { وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } منع المكافأة لأجل ما آذوه ، ولم يفرض عليه القتال ؛ ليكافئهم بأذاهم ، وينتقم منهم بذلك ؛ بل رجع قتاله إلى نصرة الدين ؛ ولتكون كلمة الله تعالى هي العليا ؛ لذلك لم يكن في آية السيف ما يوجب نسخ هذا ، ولا نسخ العمل بقوله : { فَٱعْفُواْ وَٱصْفَحُواْ حَتَّىٰ يَأْتِيَ ٱللَّهُ بِأَمْرِهِ } [ البقرة : 109 ] . الثاني : أنه ليس في قتالهم انتقام منهم ، بل فيه ما يدعوهم إلى الإيمان بالله تعالى ورسوله ، وإذا آمنوا بذلك نجوا من العقاب ، وفازوا بعظيم الثواب ؛ فيصير القتال رحمة لهم لا عقوبة . ووجه جعله رحمة : هو أنهم إذا رأوا غلبة المسلمين عليهم مع قلة عددهم والضعف الذي حل بأبدانهم ؛ لاشتغالهم بعبادتهم ربهم ، وكثرة عدد المشركين مع قوة أبدانهم - أيقنوا أنهم لم ينالوا الغلبة بالحيل والأسباب ؛ بل الله تعالى هو الذي قواهم عليهم ، وقام بنصرهم ؛ فيتقرر عندهم كون أهل الإسلام على الحق ، وإذا أيقنوا بالحق التزموه فيحرزون به جزيل الثواب ، وكريم المآب ؛ فصار القتال رحمة لهم ، لا أن يكون عقوبة عليهم ؛ لسوء صنيعهم ، وإذا كان كذلك ، بقي العمل بقوله - عز وجل - : { وَٱهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً } ثابتا باقيا ، وبهذا يجاب من سأل فقال : إن الله تعالى يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } [ الأنبياء : 107 ] ، وفي القتال ترك الرحمة ؛ فيكف فرض عليه ؟ فيقال أن ليس في القتال ترك الرحمة ؛ بل هو من أبلغ الرحمة وتمامها ؛ إذ يحملهم على الإيمان ، وترك التكذيب ؛ فتعلو منزلتهم ، ويشرف قدرهم في الدنيا والآخرة ، والله أعلم . وجواب آخر : أن يقال بأن الحجة في القتال ليس في القتل ؛ لأنهم إذا خافوا القتال ، تركوا التكذيب ، وأقبلوا على الداعي ؛ ألا ترى أنه ذكر أن القوم قبل أن يفرض عليهم القتال ، كان يدخل الواحد منهم بعد الواحد في هذا الدين ؛ فلما شرع القتال ، جعلوا يدخلون فيه فوجا فوجا ، وقبيلة قبيلة . ثم إباحة القتل يكون بالضرورة ؛ لأنهم إذا علموا [ أنهم ] لا يقتلون ، لم يقع لهم الخوف بالقتال ، وإذا لم يخافوا تركوا الإجابة ؛ فشرع القتل فيه ؛ لتحقيق الخوف ؛ فلم يكن فيه ترك الرحمة ، وهو كقوله : { وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ } [ البقرة : 179 ] ، وفي إقامة القصاص تلف النفس ، وليس فيه إحياء ، ولكن وجه الإحياء فيه : هو أن القاتل إذا فكر [ في ] قتل نفسه بقتل صاحبه ، ردعه ذلك عن القتل ؛ فيكون فيه إحياء النفسين جميعا ؛ فيصير إيجاب القصاص سببا للإحياء في الحقيقة ، وإن كان في الظاهر سببا للإتلاف ؛ فكذلك هؤلاء إذا أيقنوا بالقتل بامتناعهم عن الإجابة ، تركوا الامتناع ، وأقبلوا على الإجابة ؛ فيكون موضوع القتل للرحمة في التحقيق ، وإن كان في الظاهر خارجا مخرج ترك الرحمة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ } ففيه أن أهل الخصب والرغد هم الذين اشتغلوا بالتكذيب ، وهم الذين كانوا يصدون الناس عن سبيل الله ؛ كما قال : { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } [ الأنعام : 123 ] ، وقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } [ سبأ : 34 ] ؛ فخص أولي النعمة بالذكر لهذا . ثم في قوله : { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ } إيهام بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق منه المنع ، ولم يوجد من رسول الله حيلولة ومنع ، ولكن مثل هذا الخطاب موجود في كتاب الله تعالى في غير آي من كتابه ، وهو أن يخرج مخرجا يوهم أن هناك مقدمة ، وإن لم يكن فيها مقدمة في التحقيق ؛ قال الله تعالى : { وَٱلسَّمَآءَ رَفَعَهَا } [ الرحمن : 7 ] ، ولم يكن فيه تحقيق الوضع ، وإن كان الرفع يستعمل في الشيء الموضوع ؛ فكان تأويل الرفع هاهنا بأنها خلقت مرفوعة . وقال : { وَٱلأَرْضَ وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } [ الرحمن : 10 ] ، ولم تكن مرفوعة فوضعها ، وكان معناه : أنها خلقت موضوعة . وقال يوسف - عليه السلام - : { إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ } [ يوسف : 37 ] ، ولم يسبق منه دخول في دين أولئك ؛ فيكون تاركا له بعدما دخل فيه . وقال الله تعالى : { ٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَوْلِيَآؤُهُمُ ٱلطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } [ البقرة : 257 ] ، ولم يقتضِ قوله : { يُخْرِجُهُمْ مِّنَ ٱلظُّلُمَاتِ إِلَى ٱلنُّورِ } كونهم في الظلمات ، ولا اقتضى قوله : { يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ ٱلنُّورِ إِلَى ٱلظُّلُمَاتِ } كونهم في النور ، فيخرجهم منه ، وإن كان في الظاهر يؤدي ذلك ؛ فعلى ذلك قوله : { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ } وإن كان في الظاهر يقتضي حيلولة ومنعا ، فليس في الحقيقة إثبات منع . ويذكر غير هذا في سورة المدثر . ثم قوله : { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ } معناه : لا تجازهم بصنيعهم ، ولا تستعجل عليهم بالدعاء ؛ بل أمهلهم قليلا { فَسَيَكْفِيكَهُمُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 137 ] . وقيل في الفرق بين النِّعَمِ والنَّعْمَةِ : إن النَّعْمَة ما يعطى للعبد إرادة استدراجه فيها وهلاكه ، كقوله - عز وجل - : { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } [ الدخان : 27 ] ، والنعم هي منة الله تعالى على عباده ؛ تفضلا عليهم ، كقوله ، { وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً } [ لقمان : 20 ] ، والله أعلم . قوله - عز وجل - : { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً * وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } . قال ابن عباس - رضي الله عنه - : الأنكال هي السلاسل والقيود . وقال أبو بكر الأصم : الأنكال : ما ينكل به ويعتبر به غيره ؛ قال الله تعالى : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً } [ البقرة : 66 ] تأويله ما بين يديها من القرى وما خلفها من القرى أيضا . فإن كان على ما ذكره أبو بكر الأصم فقد يكون في الدنيا ، ويكون منصرفا إلى يوم بدر [ وكأن الأول أشبه . والجحيم : هو معظم النار . ثم في هذه الآية دلالة نبوة نبينا صلى الله عليه وسلم ، وآية رسالته ] لأن قوله : { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً وَجَحِيماً } راجع إلى قوله : { وَذَرْنِي وَٱلْمُكَذِّبِينَ أُوْلِي ٱلنَّعْمَةِ } ، فإن لهم لدينا أنكالا وجحيما ، وإنما ينكلون ويعذبون بالجحيم إذا ماتوا على الكفر ؛ ففيه إبانة أنهم يموتون وهم كفار ، وعلى ذلك ماتوا ، وختم أمرهم ، ولم يسلم منهم أحد ؛ فيخرج ما أخبر عن غيب كما أخبر ، وذلك لا يعلم لا بالله - تعالى - فثبت أنه لم يخترعه من تلقاء نفسه ، بل علم بالله تعالى ، وعلم الغيب من أعظم آيات رسالته . وقوله - عز وجل - : { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً } فالذي يغص ، ولا يقدر على ابتلاعه ليس بطعام في الحقيقة ، وقال : { لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ } [ يونس : 4 ] والحميم ليس بشراب في التحقيق ؛ ولكن سمي الأول : طعاما ؛ لأنه يمضغ مضغ الطعام ، والصديد والحميم يسيلان سيل الشراب ، فذكر في الأول طعاما ، وفي الثاني شرابا لهذا . ولأن الطعام اسم لما يطعم ؛ فهو مطعوم ، وإن كان كريها ، والحميم مشروب وإن كان في نفسه كريها . ثم الأصل أن الكفرة بكفرهم تركوا شكر نعم الله - تعالى ذكره - وقابلوها بالكفران ؛ فأبدل الله تعالى لهم في الآخرة مكان كل نعمة نقمة ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً } [ الإسراء : 97 ] ، فأبدلهم مكان البصر عمى ، ومكان السمع صمما ؛ لتركهم شكر ما أنعموا من البصر والسمع واللسان ، وأبدلهم مكان اللباس قطرانا ، ومكان المراكب : السحْب إلى النار على أقدامهم ووجوههم ؛ فكذلك أبدلهم مكان الطعام والشراب زقوما وحميما ؛ لتركهم شكر نعم الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ وَكَانَتِ ٱلْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً } . قد ذكرنا الرجفة في غير موضع . وقوله : { كَثِيباً مَّهِيلاً } ، أي : رملا سائلا ؛ ففيه إخبار عن شدة هول ذلك اليوم ؛ لأن الجبال من أصلب الأشياء وأشدها في أنفسها ، ثم يبلغ هول ذلك اليوم مبلغا لا يحتمله الجبال مع شدتها وصلابتها ، فالإنسان الضعيف المهين أنى يقوم لشدته وهوله ؟ فذكرهم حال ذلك اليوم ؛ ليرتدعوا ، وينتهوا عما هم عليه في التكذيب والضلال .