Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 73, Ayat: 15-19)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَآ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ رَسُولاً } . قوله : { شَاهِداً عَلَيْكُمْ } قال أبو بكر الأصم : تأويله : مبينا لكم ما لله تعالى عليكم من الحق . وجائز أن يكون { شَاهِداً عَلَيْكُمْ } ، أي : لكم وعليكم جميعا ؛ فيكون على الكفرة شاهدا بقوله : { وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ } [ النحل : 89 ] ، ويكون للمؤمنين شاهدا ، وقد يذكر " عليكم " ويراد به " لكم " كقوله : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى ٱلنُّصُبِ } [ المائدة : 3 ] ، أي : للنصب ؛ لأنهم كانوا يذبحون لها ، لا عليها . وخص ذكر موسى - عليه السلام - وفرعون من بين الجملة ؛ ففائدة ذكر التخصيص هو - والله أعلم - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منشَؤه بين ظهراني الذين كذبوه ، ولم يكن وقفوا منه على كذبة قط ؛ بل كانوا عرفوه بالصيانة والعدالة ، وكان بمحل يرونه أهلا للشهادة ؛ فكيف ينسبونه إلى الكذب ، ولم يعهدوا ذلك منه ، وكذلك موسى - عليه السلام - كان نشأ بين ظهراني أولئك الذين أرسل إليهم ، وكانوا عرفوه بالصيانة والعدالة ، وعرفوا أنه يصلح للشهادة . ومنهم من يقول بأنهم ازدروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، واستصغروه ؛ اعتبارا بما شهدوا من حاله عند الصغر ؛ إذ كان نشوءه فيهم ؛ وكذلك ازدروا بموسى - عليه السلام - حين بعث إليهم ، واستخفوا به استخفافهم به في حال الصغر ، حتى قالوا : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ } [ الشعراء : 18 ] ، فنزل بهم ما نزل بأولئك من الاستئصال بتكذيبهم إياه ، وازدرائهم به ، فذكرهم حال مكذبي موسى - عليه السلام - وما نزل بهم من مقت الله تعالى بتكذيبهم وازدرائهم به ليعتبروا به ؛ فينقلعوا عن الازدراء ؛ لئلا يحل بهم ما حل بأولئك . ولئلا يغتروا بقواهم ، وكثرة عددهم وأموالهم ؛ فإن مكذبي موسى - عليه السلام - كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعدادا ، وأشد بطشا ؛ فلم يغنهم ذلك من الله - تعالى - شيئا . وجائز أن يكون خص ذكر موسى - عليه السلام - وفرعون ونبأهما ؛ لأن خبره كان منتشرا فيما بين أهل مكة ؛ لأنهم كانوا جيرة اليهود الذين عندهم نبأ موسى - عليه السلام - وفرعون ، فكانوا يخبرونهم بما حل بفرعون وقومه بتكذيبهم الرسول ؛ فذكرهم نبأ موسى - عليه السلام - لينتهوا عما هم عليه من التكذيب . ولأن لله تعالى أن يحتج عليهم بآحاد الحجج ، وله أن يحتج عليهم بجملتها ؛ إذ في ذلك قطع الشبه ، وإزاحة العذر . أو ذكرهم نبأ موسى - عليه السلام - وقومه ؛ لأن العهد بهم كان أقرب ؛ إذ قومه كانوا آخر قوم استؤصلوا في الدنيا . وقوله : { فَعَصَىٰ فِرْعَوْنُ ٱلرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } ، أي : شديدا : ومنه : المطر الشديد يسمى الوابل . وقال أبو بكر : اسم لكل معضلة . وقوله - عز وجل - : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } ، فهو يحتمل أوجها : أحدها : أي : كيف تتقون النار في الآخرة إذا سلكتم في الدنيا سبيلها - وهو الكفر - وأنتم تعلمون أن من سلك طريقا لشيء ولا منفذ لذلك الطريق إلا إلى ذلك الشيء ؛ فإنه يرد عليه لا محالة . أو كيف تتقون النار في الآخرة ، وقد تركتم القيام بما عليكم من شكر النعم . أو كيف تتقون العذاب في الآخرة وأنتم تدفعون إليها ، وتضطرون بقوله - عز وجل - : { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَىٰ عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] ، وبقوله : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي ٱلنَّارِ عَلَىٰ وُجُوهِهِمْ } [ القمر : 48 ] ، وبقوله : { خُذُوهُ فَٱعْتِلُوهُ إِلَىٰ سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } [ الدخان : 47 ] ، وقد مكنتم في الدنيا من الإيمان بالله تعالى ، ومكنتم من الانتهاء عن الكفر ، ثم لم تنقلعوا عنه ، فأنى يتهيأ لكم المخلص من عذابه ، وأنتم تدفعون إليه . أو كيف تنتفعون بإيمانكم في الآخرة ، ولم تؤمنوا في الدنيا ، وقد مكنتم به . والأصل أن دار الآخرة ليست بدار لاستحداث الأسباب ، وإنما هي دار وقوع المسببات ؛ فهم إذا لم يستحدثوا الأسباب التي جعلت لدفع العذاب في الدنيا ، لم يمكنوا من استحداثها في الآخرة فينتفعوا بها ، ولم يكونوا أهلا لوقوع المسببات ؛ لما لم يستحدثوا الأسباب في الدنيا ، وإنما قلنا : إنها ليست بدار محنة وابتلاء ؛ لأن المحنة ؛ لاستظهار الخفيات ، والثواب والعقاب قد شوهد وعوين ؛ فإذا قيل : إذا فعلت كذا ، دخلت النار وهو يعاين النار ، ويراها ، فهو يمتنع عن الإقدام على ذلك الفعل ، وإذا قيل له : إذا آمنت بالله تعالى أكرمت بالجنة ، وهو يشاهد الجنة ، ويراها ، فهو يؤمن لا محالة ؛ فلا وجه للابتلاء في الآخرة ؛ بل هي دار وقوع المسببات يعني : الثواب والعقاب ؛ والذي يدل على هذا قوله : { يَوْماً يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } ، فأخبر أنهم يشيبون لا بسبب المشيب ، والمشيب في الدنيا لا يوجد إلا بعد وجود سببه ، وهو الكبر ليعلم أن الدار الآخرة ليست بدار استحداث الأسباب ؛ فما يستحدثون من الإيمان بالله تعالى لا ينفعهم في ذلك اليوم ، ولا يقيهم من عذاب الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { يَجْعَلُ ٱلْوِلْدَانَ شِيباً } جائز أن يكون هذا على التحقيق ، فيشيب الولدان لهول ذلك اليوم ، ويصير الشيب سكارى ؛ لشدة هوله ؛ كما قال تعالى : { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ وَمَا هُم بِسُكَارَىٰ } [ الحج : 2 ] . وجائز أن يكون على التمثيل ، لا على [ تحقيق الشيب ] ، فمثله به ؛ لعظم ذلك اليوم ، وشدة هوله ، وقد يجوز أن يمثل الشيء بما يبعد عن الأوهام تحقيقه ؛ على تعظيم ذلك الشيء ، كقوله : { تَكَادُ ٱلسَّمَٰوَٰتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ ٱلأَرْضُ وَتَخِرُّ ٱلْجِبَالُ هَدّاً * أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَداً } [ مريم : 90 - 91 ] ، فذكر هذا على التمثيل ؛ لعظم ما قيل فيه ، لا على تحقيق الانفطار والانشقاق . وجائز أن يكون معناه : أنه لولا أن الله - تعالى - بعثهم للإبقاء وألا يتغيروا ، ولا يتفانوا ، وإلا كان هول ذلك اليوم يبلغ مبلغا يشيب به الولدان . وقوله - عز وجل - : { ٱلسَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } : أي : بما يجعل الولدان شيبا ، وهو هول ذلك اليوم ، وشدة فزعه . أو منفطر بالغمام . وقيل : منفطر بالله ، أي : بقضائه وحكمه ، والله أعلم . ثم قال : { مُنفَطِرٌ بِهِ } ، ولم يقل : " منفطرة " ، والسماء مؤنث ؛ فذكر الزجاج : أن معنى قوله : { مُنفَطِرٌ بِهِ } ، أي : ذات انفطار ، فعبر بها كما يعبر عن الذكور ؛ كما يقال : امرأة مرضع ، أي : ذات إرضاع . وقوله - عز وجل - : { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } : أي : الذي وقع به الوعد مفعول ، لا أن يكون الوعد هو المفعول ، وكذا قوله : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [ مريم : 61 ] ، والوعد لا يؤتى ، بل الموعود هو الذي يؤتى ، ولكن نسب الموعود إلى الوعد ؛ لأنه من آثاره ، وهذا كما يقال : المطر رحمة الله ، أي : برحمة الله ما أمطروا ، لا أن يكون المطر رحمته ، ويقال : الصلاة أمر الله ، أي : بأمر الله ما تقام ، لا أن تكون أمره الذي يوصف به ؛ فكذلك الموعود نسب إلى الوعد ؛ إذ بالوعد ما استوجبوا ، لا أن يكون الوعد هو المفعول وهو المأتي . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ } : جائز أن يكون قوله : { هَـٰذِهِ } منصرفا إلى الأهوال التي ذكرها فيكون ذكرها تذكرة . ويحتمل أن ينصرف إلى الرسالة ، أي : رسالة محمد صلى الله عليه وسلم تذكرة . ويحتمل : أي : هذه السورة ، أو الآيات كلها تذكرة . وقوله - عز وجل - : { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } : قال بعضهم : من شاء اتخذ عند ربه جاهاً ومنزلة لنفسه . أو { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } . [ أي ] إلى ما دعاه إليه ربه ، وذلك يكون بالإجابة فيما دعاه إليه . أو من شاء اتخذ إلى ما وعد له ربه في الآخرة سبيلا في أن يقبل على طاعته ، ويشغل نفسه بعبادته .