Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 73, Ayat: 20-20)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } : قال أبو عبيد : الصواب أن يقرأ : { وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ } بالخفض ؛ على معنى إضافة { أَدْنَىٰ } إليها ، فكأنه يقول : إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ، وأدنى من نصفه ، وأدنى من ثلثه ، و { أَدْنَىٰ } يكون على الزيادة والنقصان جميعا ؛ لأن فضل ما بين الثلث ، إلى النصف هو السدس ؛ فإذا زاد على الثلث أقل من نصف السدس ، فهو إلى الثلث أدنى ، وكذلك إذا نقص من الثلث شيئا قليلا ، فهو إلى الثلث قريب ؛ فيكون إليه أدنى ، وكذلك الفضل فيما بين النصف إلى الثلثين هو السدس ، فإذا زاد على النصف أكثر من نصف السدس ، فهو إلى الثلثين أدنى ، وإذا نقص من نصف السدس فهو إلى النصف أدنى وأقرب . ومنهم من اختار النصب فيهما ، والوجهان جميعا محتملان ؛ لأن قوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ } ليس فيه إيجاب حكم مبتدأ ؛ وإنما فيه إخبار عن القيام الذي وجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فجائز أن يكون وجد منه [ ذلك كله ، وهو أن يكون قريباً من الثلثين ، وقريباً من النصف ، وأدنى من الثلث ؛ على ما ذكره أهل المقالة الأولى ، ويكون قد قام ] أدنى من ثلثي الليل ، وقام نصفه وثلثه ، وأدنى من نصفه وأدنى من ثلثه ، فذكر في الثلثين الأدنى ؛ لما وجد منه الأدنى من جهة الزيادة والنقصان ، ولم يوجد موافقة الثلثين ، وأخبر بالنصف والثلث بالأمرين جميعا ؛ لوجود الموافقة ، وهو أن يكون قام نصف الليل ، وقام ثلثه ، وقام أدنى من النصف ، وأدنى من الثلث ، وإذا كان هذا كله محتملا ، لم يجز أن يدفع أحد الوجهين ، ويتمسك بالوجه الآخر ؛ وهذا كقوله تعالى : { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ } [ الإسراء : 102 ] ، فقرئ برفع التاء ونصبه جميعا ؛ لما وجد الأمران جميعا ، وهو أن يكون موسى - عليه السلام - وفرعون عَلِما بها أي : بالآيات جميعا . وكذلك قال في سورة سبأ : { رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا } [ سبأ : 19 ] ، وقرئ : { رَبُّنَا بَاعَدَ بين أسفارنا } ؛ لوجود الأمرين جميعا وهو الدعاء والإجابة ؛ فقوله - عز وجل - : { رَبَّنَا بَاعِدْ } دعاء ، وقوله : { رَبُّنَا بَاعَدَ } على الإجابة ، ففرق بينهما بالإعراب ؛ فكذلك هاهنا لما استقام وجود الوجهين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، استقام أن يقرأ بالنصب والخفض جميعا ، ويفرق بينهما بالإعراب ، والله أعلم . ثم يجوز أن يكون المفروض من القيام قدر ثلث الليل ، ويكون الزيادة بحكم النافلة . ويجوز أن يكون مفروضا ، وإن طال ، وزاد على الثلث والنصف والثلثين ، وإن كان يجوز له الاقتصار على ثلث الليل ؛ ألا ترى أن فرض الركوع والسجود يقضى بإدراك جزء منه ، وكذلك فرض القيام [ يقضى ] بالجزء منه ، ثم إن الركوع وإن طال فهو من أوله إلى آخره فرض حتى لو أن داخلا شاركه في أول الركوع ، ثم رفع رأسه ، وشاركه ثالث في آخر ركوعه ، ثم رفع رأسه مع الإمام ، صار كل واحد منهم مدركا لفرض الركوع ، وإن كان الإمام لو اقتصر على جزء منه ، كفاه ذلك عن فرضه ؛ فكذلك الفرض لما انصرف إلى قيام الليل فصار جميع ما يؤتى من القيام في الليل وإن طال فرضا ، وإن كان قد يجوز الاجتزاء ببعضه . وقوله - عز وجل - : { وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ } : في هذه الآية ، وفي قوله - عز وجل - : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } - دليل على أن فرض القيام كان على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلى من تبعه من المؤمنين ، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المخصوص بالخطاب بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُزَّمِّلُ } [ المزمل : 1 ] ؛ لأنه لو لم يكن الفرض شاملا لهم ، لم يكن لقوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } معنى ؛ ألا ترى أنه إذا لم يفرض علينا قيام الليل في يومنا هذا ، لم نحتج في ترك القيام إلى أن يتوب الله علينا . ثم إن الله تعالى ذكر في التوبة وفيما فيه التبع خطابا يجمع الجميع بقوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } ، وبقوله : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوة } وذكر فيما فيه الأمر خطابا يقتضى الآحاد ، وهو قوله : { قُمِ ٱلَّيلَ إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ ٱنقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً } [ المزمل : 2 - 3 ] ؛ ففي هذا أنه قد يجوز أن يخاطب النبي صلى الله عليه وسلم على إدخال غيره فيه تبعاً له ، ولا يجوز أن يخاطب غير النبي صلى الله عليه وسلم ويراد به إشراك النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر الخطاب ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو المتبوع ؛ فجاز إلحاق غيره به ، وغيره لا يكون متبوعا حتى يلحق به رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ يُقَدِّرُ ٱلَّيْلَ } : فيه أن الليل والنهار ليسا يمضيان على الجزاف ؛ ولكن بتقدير سبق من الله - عز وجل - وآية ذلك ظاهرة ؛ لأنهما يجريان مذ خلقهما على تقدير واحد ، لم يتقدما ، ولم يتأخرا ، ولم ينتقصا ولم يزادا ؛ فيكون فيه إبانة أن مدبرهما واحد ، وأن الذي قدرهما هكذا ممن لا يبيد ملكه ، ولا ينفذ سلطانه . وقوله - عز وجل - : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } : قال بعضهم : علم أن لن تطيقوه . قال أبو بكر الأصم : هذا لا يستقيم ؛ لأنه لا جائز أن يكلفهم الله تعالى ما لا يطيقونه ؛ ألا ترى إلى قوله : { لاَ يُكَلِّفُ ٱللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] . وليس فيما ذكره أبو بكر ما يدفع هذا التأويل ؛ لأنه يقال للأمر إذا اشتد وتعسر : لا يطاق هذا الأمر ، وإن لم يكن ذلك خارجا من الوسع ؛ ألا ترى إلى [ قوله تعالى ] : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] ، وتأويله : لا تحملنا أمرا يشتد علينا عمله ، ليس أنهم خافوا أن يحملهم أمرا لا يحتمله وسعهم ؛ فيكون قوله : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } - إن كان تأويله : أن لن تطيقوه - على ذلك ، والله أعلم . وجائز أن يكون قوله : { مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي : لا تحملنا أمرا تهلك فيه طاقتنا ، لا أن تحملوا أمرا لا يطيقونه ؛ ألا ترى الإنسان يحتمل القتل ، ولكن قتله يهلك طاقته . وجائز أن يكون قوله : { وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] ، أي : اعصمنا من الشهوات واللذات ؛ لئلا نؤثرها ؛ فنكون مضيعين بارتكابها قوة الفعل الذي تعبدنا به ؛ فلا نصل إلى فعله ، وهذه هي القوة التي لا تزايل الفعل ، بل تطابقه ، وأما الفعل الذي هو خارج عن احتمال الوسع والطاقة ، فذلك هو الذي لا يقع بمثله التكليف . وجائز أن يكون تأويل قوله تعالى : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } ، أي : لن تحصوا حد ما أمركم به ، لو أخذ عليكم في أمر بتقدير الثلث والنصف ، لم يمكنكم ذلك إلا بعد جهد ؛ ففرض عليكم قيام الثلث من الليل ، وجعل لكم الإمكان في أن تزيدوا عليه فيحيط عملكم بقيام الثلث ، ولو كان على حد واحد ، لم يمكنكم حفظه إلا بعد شدة وجهد ، وفي ذلك كلفة عسيرة . ويؤيد هذا تأويل من قال : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } ، أي : لن تطيقوه ، وتكون الطاقة عبارة عن التعسير ، واشتداد الأمر . ثم في هذه الآية دلالة على إباحة تعليق الحكم بالاستحسان ؛ لأنه قد فرض عليهم قيام ثلث الليل ، ولا يمكنهم تدارك الثلث بتقدير الإحاطة ، وإنما يمكنهم بالتقدير الذي يغلب على القلب ؛ فثبت أنه قد يجوز أن يكون الحكم معتبرا بما يقع في القلوب ، ويغلب على الظنون ، والاستحسان ليس إلا تعليق الحكم بما يغلب على القلوب . والذي يدل على أن الحكم لازم بما ذكرنا : أن الله تعالى ألزم الحد على القاذف وعلى الزاني ، ولم يبين مبلغ قوع الضرب فيه ، ولا ما يضرب به ، فقدر ذلك بما يقع في القلوب أن مثل هذا الضرب يصلح لمثل هذه الجناية ، وكذلك قيم الأشياء ، والأروش ، والنفقات ، وتسوية المكاييل ، والموازين يعتبر ذلك كله بغلبة الظنون من غير أن كان في شيء من ذلك أصل تقدر النوازل به وتنتزع منه ؛ فثبت أنه يجوز أن يحكم بالذي يغلب على القلوب ، وأن المجتهد يرجع إلى وجهين : مرة ينظر غيره فيتمثل بها ؛ فيسمى ذلك : قياسا ، ومرة يحكم فيها بما يغلب على الظنون ؛ فيسمى ذلك : استحسانا . وفي هذه الآية دلالة أن سؤال من يسأل أبا حنيفة - رحمه الله - أن الوتر لو كان له مشابه في الفرض ، لكان لا يختلف لعدده - سؤال غير مستقيم ؛ لأنه قد فرض على القوم أن يقوموا ثلث الليل ، وقد أخبر - عز وجل - أنهم لا يحصون حد ما أمرهم به ، وإذا لم يحصوا فلا بد أن يقع هناك زيادة ونقصان ؛ فكذلك الوتر وإن كان حد عدده غير معروف فهو لا يخرجه عن حكم الفرائض ، والله أعلم . ثم في قوله - عز وجل - : { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } أن الله وقتما فرض عليهم علم أنهم لا يحصونه ؛ ولكن بيّن هذا ؛ ليعلموا أن لله تعالى أن يكلفهم إقامة العبادة إلى وقت لا يتهيأ لهم إحاطة مبلغ ذلك الوقت إلا بعد جهد ؛ ليعرفوا منة الله تعالى عليهم إذا أسقط عنهم ذلك التكليف ، وهو كقوله - عز وجل - : { ٱلآنَ خَفَّفَ ٱللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } [ الأنفال : 66 ] ، ولكن ذكر هذا ؛ ليعلموا أنهم يكلفون القيام للعشرة وإن كان بهم ضعف ، لكن إذا خفف عنهم ، عرفوا ما لله عليهم من عظيم المنة . وقوله - عز وجل - : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ } يحتمل أن تكون طائفة منهم امتنعوا عن القيام ؛ فتكون التوبة راجعة إليهم ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَىٰ مِن ثُلُثَيِ ٱلَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ ٱلَّذِينَ مَعَكَ } ، فهذا يبين أنهم جميعاً لم يقوموا معه ؛ وإنما قامت معه طائفة ؛ فتكون التوبة راجعة إلى الطائفة التي امتنعت عن القيام . وجائز أن تكون راجعة إليهم ، وإلى الذين قاموا معه ؛ فيكون الذين قاموا معه قصروا [ في ] القيام عن الحد الذي شرط عليهم ؛ فافتقروا إلى التوبة - أيضا - كما افتقر إليها من تخلف عن القيام ؛ فتاب الله عليهم جميعا ، والله أعلم . وقوله : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } : فمنهم من ذكر أن قيام الليل صار منسوخا بهذه الآية . ومنهم من يقول بأن النسخ وقع بقوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } ، وهي الصلاة المفروضة ، وليس بينهما فرق عندنا ؛ وإنما نسخ بهما جميعا . ووجه النسخ : هو أن فرض القيام لو كان باقيا ، لكان لا يجوز لهم أن يكتفوا من القراءة بما تيسر عليهم ؛ لأنهم إذا قاموا إلى ثلث الليل لزمهم تبليغ القراءة إلى حدٍّ يتعسَّر عليهم ويشتد ، فإذا أذن بالاقتصار على القدر الذي تيسَّر ، عُلِمَ أنه قد سقط عنهم أن يقوموا ثلث الليل . ثم هو إذا قام صلاة المغرب والعشاء قد قرأ من القرآن ما تيسر عليه ؛ فصار قاضيا لما اقتضاه قوله : { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } ، فمن هذا الوجه استدلوا بهذه الآية على نسخ حكم القيام بالليل ، ثم هذه القراءة يقيمها في الصلاة ؛ فيكون النسخ واقعا بهما . ثم من الناس من يزعم أن فرض القيام سقط عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أمته ؛ واستدل بقوله : { وَمِنَ ٱلْلَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] ؛ فإن كان الفرض عليه قائما ، لم يكن التهجد به نافلة . ومنهم من زعم أنه لم يسقط عنه فرض القيام ؛ بل دام عليه إلى أن قبض - عليه السلام - . واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كتب عليّ قيام الليل ، ولم يكتب عليكم " ، ومعناه : بقي عليّ مكتوبا ، ورفع عنكم ؛ إذ قد دللنا [ أن ] القيام في الابتداء كان [ واجباً ] عليه وعليهم جميعا . وقد قال بعض الناس : إن صلاة الليل ، لم تكن فرضا على أمته بهذا الحديث ، وما ذكرناه عليهم . ثم الجواب عن التعلق [ أن قوله : ] { فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } معناه : غنيمة لك ، لا أن يكون القيام منه تطوعا . ووجه صرفه إلى الغنيمة : هو أن العبادة من رسول الله صلى الله عليه وسلم تخرج مخرج الشكر لله تعالى ؛ فيصير بها مكتسبا للفضيلة ، وليس يقع ذلك موقع التكفير للسيئات ؛ لأنه تعالى قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؛ فلم يكن يحتاج إلى إتيان الحسنات ؛ ليكفر عنه السيئات ، فثبت أن الفعل منه يقع موقع اكتساب الفضيلة ؛ فتدوم له بذلك الفضيلة ويستوجب بها جزيل الثواب ، وذلك من أعظم الغنائم . والذي يدل على أن فعله يخرج مخرج الشكر : ما روي " عن رسول الله صلى الله عليه وسلم [ أنه قام ] حتى تورمت قدماه ؛ فقيل له : يا رسول الله ، ألم يغفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فقال - عليه السلام - : " أفلا أكون عبدا شكورا ؟ " ، وأما غيره فإن الحسنات منهم مكفرة لسيئاتهم ، ومطهرة لزلاتهم ؛ قال الله تعالى : { إِنَّ ٱلْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ ٱلسَّـيِّئَاتِ } [ هود : 114 ] ؛ فهم بحسناتهم لم يصيروا مكتسبين الفضيلة في مستأنف الأوقات ، فيصيروا بها مغتنمين ، بل رفعوا زلاتهم ، وطهروا أنفسهم من المآثم ؛ فلم تصر القربة منهم ، والله أعلم . فلهذا ما سمى تهجده : نافلة ، لا أن يكون قيامه نفلا . وقوله - عز وجل - : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } . فمنهم من زعم أن هذه السورة كلها مكية ، ومنهم من زعم أن أولها مكية ، وآخرها مدنية ، ويحتج هؤلاء بقوله تعالى : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ } ، وبقوله : { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } [ المائدة : 54 ] ؛ وذلك لأن الجهاد فرض على المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة ، ولم يوجد منهم الضرب في الأرض في حال كونهم بمكة ، وفي هذا إخبار عن جهاد طائفة ، وعن ضرب بعض في الأرض ؛ فثبت أن نزول هذه الآيات كانت بالمدينة . واحتجوا - أيضا - بقوله : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ } ، قالوا : إن الزكاة إنما فرضت عليهم بعدما هاجروا إلى المدينة ، وفي هذا أمر بإيتاء الزكاة ؛ فثبت أن نزولها كان بالمدينة ، وأما أول السورة فهي في موضع المحاجة على أهل الشرك ، ولم يكن بالمدينة مشرك ؛ بل كانوا أهل كتاب . ومن ذكر أنها كلها مكية ، فهو يحمل قوله : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي ٱلأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَٰتِلُونَ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } على الوعد والبشارة ، ليس على الإيجاب والوجوب ؛ ألا ترى إلى قوله - عز وجل - : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } ، فأخبر أنه سيكون منكم مرضى ، لا أن كانوا مرضى في ذلك الوقت ؛ فلم يكن فيما ذكر دلالة كونها مدنية . ثم الآية إن كانت على الوعد ؛ ففيه أنهم كانوا في ضيق من العيش ، وكانوا من القوم في خوف ؛ فيكون فيه بشارة أنه يرفع عنهم الضيق بما يضربون في الأرض ، ويوسع عليهم العيش ، وأنه يفتح لهم الفتوح ، ويكثر أنصارهم حتى يقهروا العدو ، ويقع لهم من ناحيتهم الأمن ، وقد آل الأمر إلى ما بشروا به ، فيه ] آية رسالته - عليه السلام - إذ أخبرهم عن علم الغيب ، وكان الأمر على ما أخبر . ثم قوله - عز وجل - : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مَّرْضَىٰ } في موضع الاعتلال ، أنه إنما خفف عليهم الأمر بما ذكر من الأعذار من المرض ، والضرب في الأرض ، والمجاهدة في سبيل الله تعالى ، والتخفيف إذا وجب لعذر مما لم يلاق العذر حالة الفعل ، لم يخفف ؛ فكيف خفف عنهم قبل وقوع الأعذار ، ولكن هذه الأعذار وإن تحققت [ هي لا تلاقي الفعل ] ؛ بل تتقدمه ؛ لأن المجاهدة تكون بالنهار ، لا بالليل ، وكذلك الضرب في الأرض وقت النهار لا الليل ، والقيام كان بالليل ليس بالنهار ، ثم قد وضع عنهم قيام الليل وإن لم يكن العذر ملاقيا للقيام ؛ فعلى ذلك جائز أن يرفع عنهم القيام بالليل وإن لم يأت بعد وقت المجاهدة ، ولا كان الضرب موجودا ؛ إذ ليس في ذلك كله إلا عدم ملاقاة العذر حالة القيام . ثم وجه رفع قيام الليل عنهم بالمجاهدة والضرب في الأرض وإن كانا يحصلان في النهار لا في الليل : هو أن المجاهدة بالنهار تضعفهم ، وتوهن قواهم ؛ فيتعذر عليهم قيام الليل ، وكذلك الضرب في الأرض ؛ فمن الله تعالى عليهم بأن رفع عنهم قيام الليل ، وإن لم يوجد منهم الاشتغال بالجهاد بالليالي ، والله أعلم . ثم الضرب في الأرض يكون للتجارة ، ولغيرها من الوجوه : لطلب العلم ، وغيره من الأسباب ؛ فلا يحصل أمر الضرب على التجارة خاصة . وقوله - عز وجل - : { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ } . قال أبو بكر في قوله : { وَآتُواْ ٱلزَّكَٰوةَ } دلالة أن هذه الآية مدنية ؛ لأن الزكاة إنما فرضت عليهم بالمدينة ، فإن كان الأمر على ما ذكر : أن فرضها نزل بالمدينة فذلك عندنا مصروف إلى زكاة المواشي خاصة ؛ لأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن لهم بمكة سوائم ؛ لأنه كانوا يخافون العدو ؛ فلم يتهيأ لهم إسامة المواشي ، وأما ما رجع من الزكوات إلى غيرها من الأموال ، فيشبه أن تكون واجبة عليهم في حال كونهم بمكة ، وبعد مفارقتهم منها ، ولا يكون في الأمر بإيتاء الزكاة دلالة نزولها بالمدينة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَأَقْرِضُواْ ٱللَّهَ قَرْضاً حَسَناً } : فالقرض - في لغة العرب - : القطع ، يقال : قرض الفأر الجراب ، أي : قطعه ؛ فسمي القرض : قرضا لهذا ؛ لأنه يقطع ذلك القدر من ماله فيدفعه إلى غيره ، وكذلك هو بالتصدق يقطع ذلك القدر ؛ فيجعله لله تعالى خالصا ؛ فسمي : إقراضا لهذا . ويجوز أن يكون أضاف إلى نفسه لئلا يمن على الفقير فيما يتصدق عليه ؛ إذ الإقراض حصل فيما بينه وبين ربه ؛ فيصير الفقير معاونا له في تلك القربة . ولأن المرء في الشاهد إنما يقرض ما يفضل عن حاجته ، فيدفعه إلى من يثق به ، ليسترده منه عند حاجته إليه ؛ فكذلك الصدقة أُوجبت في المال الذي يفضل عن حاجاته ، فيقرضها لله تعالى فيجدها مهيأة عندما تمسه الحاجة . ثم المال الذي يدفعه إلى الفقير على جهة التصدق هو مال الله تعالى ، ثم جعل الله تعالى ذلك منه إقراضا له جل جلاله وأضافه إلى نفسه ؛ فتكون الفائدة في الإضافة إلى نفسه هي تفضيل عمله ؛ ليرغبه في مثل ذلك الفعل على جهة التكرم منه ، وهو كما سمى الثواب الذي يتفضل [ به ] على عباده أجرا بقوله : { مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ } [ الجاثية : 15 ] ، ومن عمل لنفسه لم يستوجب الأجر على غيره ، وسمى الذي يقتل : شهيدا بائعا نفسه لله تعالى ؛ على تفضيل وترغيب للعباد في مثله ؛ لقوله : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ مِنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } [ التوبة : 111 ] . وقوله - عز وجل - : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِ } معناه : تجدوه حاصلاً لكم ، وإلا فكل شيء تقدمونه من خير أو شر تجدونه حاضراً في ذلك اليوم ، ولكن الشر يكون عليهم ، قال الله تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوۤءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [ آل عمران : 30 ] ، وقال - عز وجل - : { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] . وقوله - عز وجل - : { هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } ، وفي حق الكلام أن يقول : " هو خير " ؛ لأن " هو " يرفع ما بعده ، ولكن " هو " كالفصل هاهنا ، وحقه الحذف ، وإذا حذف انتصب الكلام ؛ لأن معناه : تجدونه عند الله خيرا لكم مما خلفتم ، فيكون " خيرا " مفعولا . ثم قوله - عز وجل - : { هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } يحتمل أوجها : أحدها : أنه خير لكم ، وأعظم أجرا مما خلفتم لورثتكم ، فيكون فيه أن الذي يخلفه لورثته له فيه خير ، ولكن ما يقدم لآخرته خير له ، والذي يدل على أن له فيما يخلفه لورثته خيرا قوله - عليه السلام - : " إنك أن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم فقراء يتكففون الناس " . والثاني : أن المرء في الشاهد قد تسخو نفسه ببذلٍ [ الأموال ] للآجلة الآجلة لما يأمل منهم من المال الثواب العاجل ، فيكون في قوله : { هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } ترغيب للعباد في تقديم الأموال لوجه الله تعالى ؛ لأنهم إذا رغبت أنفسهم في بذل الأموال للآجلة ؛ طمعا للمنافع التي تحصل لهم ؛ فكان بذلك المال لوجه الله تعالى أعظم في الأجر ، وأولى أن يقع فيه الرغبة . ولأن النفس قد تتحمل المكروه في الشاهد لمنافع تأملها في ثاني الحال ، فإذا طمعت لما تبذل لوجه الله تعالى الثواب الجزيل والأجر العظيم خف عليها تحمل المكروه ، والذي يناله بالبذل . ويجوز أن يكون قوله - عز وجل - : { وَأَعْظَمَ } بمعنى : عظيم ؛ إذ قد يستعمل حرف " أفعل " في موضع " فعيل " ؛ كما يقال " أكبر " بمعنى : " كبير " ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱسْتَغْفِرُواْ ٱللَّهَ } فالاستغفار : هو طلب المغفرة ، وذلك يكون باللسان مرة ، وبالأفعال ثانيا . فطلب المغفرة من جهة الفعل : أن ينتهي عن الفعل الذي يستحق عليه العقاب ويجيب إلى ما [ دعا الله إليه ] ؛ قال الله - تعالى - : { قُل لِلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] فجعل انتهاءهم عن الكفر ودخولهم في الإسلام سبب مغفرتهم ، وقال الله تعالى : { ٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } [ نوح : 10 ] ، وليس استغفارهم [ أن يقولوا باللسان : " اللهم اغفر لنا " ، ولكن معناه : أن انتهوا عما أنتم فيه من الكفر ، وأجيبوا ربكم فيما دعاكم إليه ، فهذا هو الاستغفار ] من جهة الأفعال . وأما الاستغفار باللسان وهو طلب المغفرة ، يكون على وجهين : أحدهما : أن تسأل ربك التجاوز عن سيئاتك . والثاني : أن يسأل حتى يوفقه للسبب الذي إذا جاء به استوجب المغفرة ، وعلى هذا التأويل يخرج استغفار إبراهيم عليه السلام لأبيه ، وهو أنه طلب من ربه أن يوفقه لما فيه نجاته ، وهو الإسلام ، لا أن يسأل ربه أن يغفر له مع دوامه على الكفر ؛ ألا ترى أنه امتنع عن الاستغفار له حيث تقررت عنده عداوته لله تعالى ، وعلم أنه لم يوفق للسبب الذي يستوجب به المغفرة ؛ قال الله تعالى : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة : 114 ] ، فثبت أنه لم يطلب منه المغفرة مع دوامه على الكفر ، ولكن للوجه الذي ذكرنا ، والله أعلم .