Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 1-7)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } : قيل : إن الذي حمل رسول الله صلى الله عليه وسلم على التدثر : أنه كان في بعض طرق مكة إذ سمع صوتا من السماء والأرض ؛ فنظر عن يمينه وعن يساره وأمامه وخلفه ، فلم ير شيئا ، فرفع رأسه فرأى شيئاً ؛ ففرق منه ، فأتى بيته ، وقال : " زملوني " ، فدثروه . فإن صح ما قالوا ، وإلا لم يسعهم أن يشهدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي حمله على التدثر ما ذكروا من الفرق . ولأن التدثر ليس مما يسكن به الروع الذي يحل بصاحبه من الصياح . وذكروا أن أول ما نزل من الوحي قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } ، فإن صح ما ذكروا ، فأول ما أوحي إليه هو الصياح الذي سمعه ؛ إذ كان ذلك متقدما على قوله : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ } . وقيل : إن كفار مكة قذفوه بالسحر ، وأجمعوا رأيهم على أن ينسبوه إليه ، وفشا هذا القول فيهم له ؛ فأحزنه ذلك ؛ فدخل بيته وتدثر بثيابه ، فأمره الله - تعالى - أن يقوم فينذرهم بقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنذِرْ } ، وعلى هذا التأويل يكون الوحي نازلا قبل نزول هذه السورة ، حتى سموه : ساحرا ؛ لما يرون منه من الآيات ، والله أعلم . وذكر أن موسى [ صلوات الله على نبينا وعليه ] قال : " أتاني ربي من طور سيناء ، وسيأتي من طور ساعورا ، وسيطلع من جبل فاران " . فإن صح هذا الخبر ، فمعنى قوله : " أتاني ربي " ، أي : أوحى إلي ، وقوله : " وسيأتي من طور ساعورا " هو الوحي إلى عيسى عليه السلام ، وقوله : " وسيطلع من جبل فاران " هو القرآن الذي أنزل على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم . وفي هذا الخبر دلالة أن الأخبار التي ورد بها ذكر نزول الرب في كل ليلة إلى سماء الدنيا ، هي على نزول أمره إلى ملائكته ، أن قولوا : " هل من داع فيجاب ؟ ، هل من مستغفر فيغفر له ؟ " ، فجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول ما أوحي إليه كان بجبل فاران ، وهو جبل من جبال مكة ، أو كان ذلك الجبل منسوبا إلى ذلك المكان . ثم في قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ } تثبيت نبوة [ نبينا ] محمد صلى الله عليه وسلم وآية رسالته ، وذلك أن تعريف المرء بما عليه من الثياب ونسبته إليه ، لا يخرجه مخرج التعظيم والتبجيل ، وإنما التبجيل فيما يدعى باسمه أو بكنيته ، فلو كان الأمر على ما زعمت الكفرة : أن هذا القرآن ليس من عند الله ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي اخترعه من ذات نفسه ، لكان لا يعرف نفسه بثيابه ، بل يعرفها بما فيه تبجيلها وتعظيمها ، فإذ لم يفعل ثبت أنه كان رسولا حقا ، بلغ الرسالة على ما أوحي إليه ، وأدى كما أمر ، على ما ذكرنا في الآيات التي خرجت مخرج المعاتبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن فيها تثبيت رسالته ؛ نحو قوله : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } [ عبس : 1 ] ، وغير ذلك من الآيات . وجائز أن تكون نسبته إلى ثيابه ؛ ليعلم الخلق أن لا بأس للمرء أن يعرف أخاه بثيابه . وجائز أن تكون نسبته إلى الثوب الذي يدثر به يخرج مخرج التعظيم لذلك الثوب ؛ لموافقته حال نزول الوحي ، وهذا كما ذكرنا : أن إضافة الأشياء إلى الله تعالى نحو الجزئيات تخرج مخرج تعظيم تلك الأشياء ، كقوله : ناقة الله ، ومسجد الله ، ورب العرش ، [ على ] تعظيم العرش ، وتعظيم أمر الناقة ، وتشريف المسجد . وإضافة الأشياء إليه نحو الكليات ، يخرج مخرج تعظيم الله تعالى ؛ كقوله : رب العالمين ، رب السماوات والأرض وما بينهما . ثم أذن للمرء أن يسبح في ركوعه ، فيقول : " سبحان ربي العظيم " ، فيخص نفسه بقوله : " ربي " ، والحق في مثله أن يقول " سبحان ربنا " ؛ لئلا يخرج ذلك مخرج تعظيم النفس ؛ كقوله : " رب العالمين " ، و " رب السماوات والأرض وما بينهما " ؛ إذ الإضافة من الجانبين على السواء فيما ذكرنا ، لكن ذلك الذكر إذا وافق الحالة التي فيها تعظيم الرب ووصفه بالعلو ؛ وهي الركوع والسجود ، أذن له بأن يأتي بهذا الذكر ، وإن خرج ذلك مخرج تعظيم النفس . فكذلك ذلك الثوب الذي تدثر به النبي صلى الله عليه وسلم إذا وافق [ حال ] نزول الوحي عظم شأنه من ذلك الوجه ؛ فنسب إلى ذلك الثوب . ثم المرء إنما يتدثر عندما يريد أن ينام ، أو عند طلب الراحة ، وليست تلك الحالة حالة يستحب المرء مصاحبة الكبراء العظماء في مثل تلك الحال ، فضلا من أن يصحب الملك في مثل تلك الحال ؛ فيكون في هذا دلالة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يطلع على الأوقات التي كان يأتي فيها الوحي ، وإذا لم يعلم كان الأمر عليه أصعب وأشد منه إذا بين له ؛ لأنه إذا لم يبين له ، لزمه أن يصون نفسه في الحالات كلها عن أشياء يستحي مع مثلها الخلوة بالملائكة ؛ ولهذا لم يبين لأحد منتهى عمره ؛ ليكون أبدا مستعدا للموت ؛ فرقا أن يحل به ساعة بعد ساعة ، ويكون أبدا على خوف ووجل من ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { قُمْ فَأَنذِرْ } خص النذارة دون البشارة ، وقد كان هو نذيرا وبشيرا ، ففي ذكر النذارة ذكر البشارة وإن أمسك عنها ؛ لأن النذارة ليست ترجع إلى نفس الخلائق ؛ وإنما النذارة هي تبيين عواقب ما ينتهي إليه حال من التزم الفعل المذموم ؛ فإذا استوجب النذارة بالتزامه ذلك الفعل ، فقد استوجب البشارة في تركه ؛ فثبت أن في النذارة بشارة ، وفي البشارة نذارة أيضا ؛ فاقتصر بذكر إحداهما عن ذكر الأخرى ، وليس في قوله : { قُمْ } إلزام [ قيام ] ؛ ولكن معناه : قم في إنذار الخلق وبشارتهم ، على ما ينتهي إليه وسعك . وقوله - عز وجل - : { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } : أي : عظم ، وتعظيمه : أن يجيبه فيما دعاه إليه ، ويطيعه فيما أمره ، وأن يتحمل ما ألزمه عمله ، فذلك هو تعظيمه لا أن يقول بلسانه : " يا عظيم " فقط . وجائز أن يكون تأويله : أن عظمه عن المعاني التي قالت فيه الملاحدة من أن لله تعالى ولدا ، وأن له شريكا ، ونزهه عنها . أو عظم حقه أو شكر نعمه ، وهذا كما نقول : إن محبة الله تعالى طاعته وائتمار أوامره ، لا أن تكون هي شيئاً يعتري في القلب ؛ فيصعق منه المرء ، ويغشى عليه ؛ فكذلك تعظيم الله تعالى يكون بالمعاني التي ذكرنا ، لا أن يكون بالقول خاصة . وقوله - عز وجل - : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } : جائز أن يكون أريد بالثياب نفسه ، وتجعل الثياب كناية عنها ؛ كما ذكر أن العرب كانت تقول إذا كان الرجل ينكث بالعهد ، وليس بذي وفاء : إنه لدنس الثياب ؛ وإذا كان له وفاء قالوا : إنه لطاهر الثياب . فإن كان الخطاب متوجها إلى النفس ، فتأويله - والله أعلم - : أن طهر خلقك ، وأفعالك ، وأقوالك عما تذم عليه . وجائز أن يكون أريد بها الثياب ؛ فيكون قوله : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } متوجها إلى التطهير من النجاسات ، وإلى التطهير من الأدناس . فأما التطهير من الأنجاس ، فقد امتحنا جميعا نحن ورسول الله صلى الله عليه وسلم [ به ] . وأما التطهير من الأدناس ، فجائز أن يؤمر به النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ؛ لأنه كان مأمورا بتبليغ الرسالة إلى الخلق ؛ فندب إلى تطهير ثيابه من الدنس ؛ لئلا يستقذر ، بل ينظر إليه بعين التبجيل والعظمة ، وليس هذا على تطهير الثياب خاصة ؛ بل أمر أن يطهر جميع ما يقع له به التمتع من المأكل والمشرب والملبس وغيرها ، والله أعلم . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : أي : لا يلبس الثوب على فخر ولا غدر . قيل : وكان الرجل إذا كان غادرا في الجاهلية يقال : إنه دنس الثياب . وقال الحسن : خلقك فحسِّنه . وقال بعضهم : أي : قصر ثيابك ولا تطولها ؛ فتقع أطرافها على الأرض ؛ فتصيبها النجاسات ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } : فالرجز : اسم للمأثم ، واسم لما يعذب عليه ؛ فيكون منصرفا إلى ما تتأذى به النفس وتتألم به كالسبة في أنها اسم لما يتأذى به ولما تتألم عليه النفس ؛ فقال الله تعالى : { لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } [ سبأ : 5 ] ، فالمأثم اسم لما تتأذى به النفس ، فهو اسم للأمرين : [ العذاب وما تتألم به ] جميعا . وصرف أهل التأويل الرجز إلى المأثم هاهنا . وذكر قتادة أنه كان بمكة صنمان : إساف ، ونائلة ، فكان من أتى عليهما من المشركين مسح وجوههما ، فأمر الله - عز وجل - نبيه صلى الله عليه وسلم أن يعتزلهما بقوله : { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } . وقيل - أيضاً - : بأن المشركين قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : لو مسحت وجوههما ، لكنا نؤمن لك ونتبعك ؛ فأنزل الله تعالى : { وَٱلرُّجْزَ فَٱهْجُرْ } ، أي : فاهجر عبادة الأوثان . وقيل : الرجز : العذاب . فجملته ترجع إلى ما ذكرنا : أنه اسم للعذاب ، ولما يعذب عليه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } : قال مجاهد والحسن : تأويله : ألا تستكثر عملك ، فتمن به على ربك ؛ على التقديم والتأخير . فإن كان التأويل هذا ، فالمراد من الخطاب غير رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان هو المذكور في الخطاب ؛ إذ لا يتوهم أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم يمن على ربه ، ولا أن يستكثر عمله لله تعالى ؛ لأن هذا النوع من الصنيع لا يفعله واحد من العوام الذي خُصَّ بأدنى خير ؛ فكيف يتوهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! ولأن الامتنان على الله تعالى من فعل المنافقين ؛ قال الله تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } [ الحجرات : 17 ] . ويجوز أن يكون الخطاب له ، وإن كان هو معصوما من ذلك ؛ لقوله : { وَلاَ تَدْعُ مَعَ ٱللَّهِ إِلَـٰهاً آخَرَ } [ القصص : 88 ] ، ونحوه ، وهذا كما ذكرنا أن العصمة لا تمنع وقوع النهي ؛ إذ العصمة [ لا ] ينتفع بها [ إلا ] مع ثبات النهي ، فإذا لم يكن فلا فائدة في العصمة . وقال بعضهم : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } ، أي : لا تعطيه عطية تلتمس بها أفضل منها في الدنيا من الثواب ، نهى عن اكتساب الأسباب التي يتوصل بها إلى استكثار المال في الدنيا من التجارة وغيرها ، إلا القدر الذي لا بد له منه ، وتقع إليه الحاجة ؛ ألا ترى إلى قوله : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } [ الحجر : 88 ] ، فإذا نهى عن مد عينيه إلى ما متعوا ؛ ففي اكتساب أسباب المال أحق ؛ ثبت أن الله تعالى نهاه عن اكتساب ذلك وجمعه ، وجعل رزقه - عليه السلام - من الوجه الذي لا يبلغه حيل البشر ، وهو الفيء والغنيمة ، ثم نهى عن إمساكه وادخاره لنفسه ؛ بل أمر أن يصرفه في أمته بقوله - عليه السلام - : " ما لي من هذا المال إلا الخمس ، والخمس مردود فيكم " وقال الله - عز وجل - : { مَّآ أَفَآءَ ٱللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ ٱلْقُرَىٰ فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ … } الآية [ الحشر : 7 ] ، وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يدخر لغد ، وقال تعالى : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ } [ آل عمران : 196 - 197 ] فثبت أنه كان منهيا عن اكتساب الأسباب التي يتوصل بها إلى اكتساب الأموال ، وإلى الجمع ؛ فنهي عن العطايا التي يلتمس بها أفضل منها في الدنيا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلِرَبِّكَ فَٱصْبِرْ } : في هذا دعاء إلى إخلاص الصبر لله تعالى ، وإلى الصدق فيه . وفي قوله - عز وجل - : { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } [ القلم : 48 ] دعاء إلى نفس الصبر . وجائز أن يكون هذا - أيضا - على الأمر بالصبر ؛ فيكون على التقديم والتأخير ؛ كأنه يقول : فاصبر لربك ، أي : اصبر على ما تؤذى ، ولا تجازهم بصنيعهم ؛ فإن الله تعالى يكفيهم ؛ فيكون في هذا إبانة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد امتحن بالأمور التي تكرهها نفسه ، وتشتد عليها ؛ فدعاه الله تعالى إلى الصبر على تحمل المكاره ، والله أعلم .