Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 8-37)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ } : { نُقِرَ } : أي : نفخ ، و { ٱلنَّاقُورِ } : الصور ، وهي كلمة كتب الأولين ذكرها هنا ، { فَإِذَا نُقِرَ فِي ٱلنَّاقُورِ } ، وقال في موضع آخر : { فَإِذَا نُفِخَ فِي ٱلصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ } [ الحاقة : 13 ] ، وقال في موضع آخر : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً } [ يس : 29 ] . فجائز أن يحمل هذا كله على التحقيق ؛ فتتحقق الصيحة والزجرة والنقرة ، ثم تعقبها الساعة . وجائز أن يكون هذا على التمثيل ؛ فيكون فيه إخبار عن سهولة ذلك الأمر وهونه على الله تعالى ؛ لأن اللمحة والزجرة والنفخة والنقرة أمر سهل ، لا يشتد على أحد . أو يكون على تقصير الوقت على الذين ينفخ فيهم الروح ، أي : الأرواح ترد عليهم في قدر النفخة ، والزجرة ، والصيحة ؛ خلافا لأمر النشأة الأولى ؛ لأنه في النشأة الأولى إنما نفخ فيه الروح بعد كونه نطفة في بطن أمه أربعين يوما ، ثم علقة ، ثم مضغة كذلك القدر من المدة ، ثم نفخ فيه الروح بعد مدد وأوقات ، وفي النشأة الأخرى ينفخ [ الروح ] بالقصر من المدة ، وذلك قدر النفخة والزجرة والصيحة واللمحة ، والله أعلم . وإنما قلنا بأن التأويل قد يتوجه إلى التمثيل دون التحقيق ، وإن ذكر في بعض الأحاديث تثبيت الصور والناقور ؛ لأنها من أخبار الآحاد ، وخبر الواحد يوجب علم العمل ، ولا يوجب علم الشهادة ، وفي تحقيق الصور والناقور ليس إلا الشهادة ؛ لذلك لم يحصل الأمر على التحقيق والقطع لئلا نقطع الحكم على الشهادة . ثم قد ذكرنا أن قوله : " إذا " جواب سؤال واقع عن تبيين وقت ؛ كأنه قيل له : فاصبر إلى أن ينقر في الناقور . أو يكون جوابا لقوله : { قُمْ فَأَنذِرْ } [ المدثر : 2 ] ، أي : أنذرهم عما يحل بأهل الشر من العذاب بنقر الناقور . أو يكون جوابا لقوله : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } إذا نقر في الناقور . أو كان السؤال واقعا عن أمر ، لم يشر إلى ذلك الأمر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى ٱلْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ } ذلك اليوم يوم رحمة للمؤمنين ؛ إذ في ذلك اليوم يكرمون ، وينالون عظيم الدرجات من ربهم ، ولكن الله - عز وجل - ذكر ذلك اليوم في غير آي من كتابه ، والأحوال التي تكون فيه ، وإن كانت تلك الأحوال تنزل على غير المؤمنين ، فمرة سماه : واقعة ، ومرة : قارعة ، ومرة : حاقة ، وإنما يقع العذاب على الكفرة ، ويحق عليهم ؛ فلذلك سماه : عسيرا ، وإن كان هو عسيرا على فريق ، يسيرا على غيرهم . وجائز أن يكون عسيرا على الخلائق أجمع ، بعض هول ذلك اليوم يشمل الفرق كلها ، كما قال : { وَتَرَى ٱلنَّاسَ سُكَارَىٰ } [ الحج : 2 ] ، ثم إن المؤمنين تفرج عنهم الأهوال بما يأتيهم من البشارات والكرامات عن الله تعالى ، ويبقى عسره على أصحاب النار . وقوله - عز وجل - : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } . ذكر أن هذه الآية نزلت في شأن الوليد بن المغيرة ، والأصل أن الأنباء التي ذكرت عن الأنبياء المتقدمة في المخاطبات التي جرت بينهم وبين الفراعنة فيها إبانة أنها جرت بينهم وبين الآحاد منهم ، وذلك أن فرعون كل نبي كان واحدا ، وكان من سواه يصدر عن رأيه ، وينتهي إلى تدبيره ؛ فكان يستغني عن مخاطبة من سواه ، وقد كثرت فراعنة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان كل واحد منهم يدعي الرياسة لنفسه ، ويمتنع عن متابعة غيره ، والصدور عن رأيه والانقياد له ، منهم أبو جهل ، ومنهم الوليد بن المغيرة ، ومنهم أبو لهب ، وغيرهم ؛ فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحتاج إلى أن يخاطب كلا في نفسه ، ومن احتاج إلى مخاطبة أقوام ، وإجابة كل واحد بحياله ، كان الأمر عليه أصعب من الذي احتاج إلى مخاطبة واحد ؛ ففي هذا أن المحنة على رسولنا - عليه الصلاة والسلام - كانت أكبر مما امتحن بها من تقدمه من الرسل ، عليهم السلام . ثم قوله : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } فيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمنعه عن شيء حتى يقول له : { ذَرْنِي } ، ولكن هذا الكلام مما يتكلم به على الابتداء من جهة إظهار القوة ؛ يقول الرجل لآخر : " خل بيني وبين فلان " ، و " دعني وإياه " من غير أن يكون سبق منه المنع ؛ فيريد به إظهار القوة من نفسه : أنه كافيه ، وقادر على دفع شره عن نفسه ؛ فيكون في قوله : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } دعاء من الله تعالى إياه إلى ألا يتعرض له ، ولا يجازيه بصنيعه ؛ فإن الله تعالى يكفيكه ، ويدفع عنك شره . أو يكون فيه نهي عن أن يدعو عليه بالهلاك والثبور ، ويصبره [ إلى ] أن يأتيه أمر الله تعالى ؛ فيكون [ في ] هذا مسلاة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك أن المتنازعين إذا تنازعا في شيء ، وحدث بينهما شر ، فانتصب ثالث في نصر أحدهما خف الأمر على المنصور ، ويفرح لذلك ، ويسلو به ، فإذا كان الله تعالى هو الذي يقوم بنصر المصطفى - عليه الصلاة والسلام - ويكفيه عن عدوه ، كان ذلك أكثر في التسلي والتفرج ؛ فيكون في هذا تمكين من الصبر الذي دعي إليه بقوله : { فَٱصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ ٱلْعَزْمِ مِنَ ٱلرُّسُلِ } [ الأحقاف : 35 ] ، وبقوله : { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ … } الآية [ القلم : 48 ] . ثم قوله - عز وجل - : { خَلَقْتُ وَحِيداً } يحتمل وجهين : أحدهما : أي : خلقته وحدي ، ولم يكن لي في الخلق ناصر ومعين ولا مشير . وجائز أن يكون معناه : أي : خلقته وحيدا ، لا مال له ، ولا ولد ؛ فيكون في هذا [ وعيد و ] تخويف لذلك اللعين ، أي : كيف لا يخاف أن يعاد إلى الحالة التي كان عليها يوم خلق بلا مال ولا ناصر ؛ كقوله : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَٰدَىٰ كَمَا خَلَقْنَٰكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 94 ] . وقوله - تعالى - : { وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً } : قيل : { مَالاً مَّمْدُوداً } ، أي : مالا لا ينقطع ، بل يكون له مدد . وذكر عن مجاهد أنه قال : كان ذلك ألف دينار . وقال السدي : { مَالاً مَّمْدُوداً } ثلاثة عشر ألفاً . وقيل : أراد به ما جعل له من الضياع بالطائف ، تثمر في السنة مرتين . ولكن عندنا المال الممدود هو المتتابع الذي لا ينقطع مدده ، والذي لا ينقطع مدده لا يقع تحت الإحصاء . وقوله - عز وجل - : { وَبَنِينَ شُهُوداً } : أي : حضورا ، لا يغيبون ، ويكون فيه وجهان من الحكمة : أحدهما : أن ماله قد كثر ؛ حتى لم يحتج إلى تفريق أولاده في الجمع والاكتساب ؛ بل كان يأتيه سمحا ، لا يحتاج إلى تكلف أسباب الجمع . والثاني : أن غاية ما يراد ويتمنى ويلتمس من البنين هو أن يستأنس بالنظر إليهم ، ويستعين بهم ، ويستنصر إذا احتاج إلى ذلك ؛ ففيه أنه قد نال مناه ، ووصل إلى ما ترغب إليه النفوس من كثرة الأموال والأولاد . وقوله - عز وجل - : { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } ، أي : بسطت له في الدنيا بسطا . وقيل : التمهيد : هو التمكين . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ } . فجائز أن يكون طمعه منصرفا إلى الزيادة في الآخرة ؛ كقوله : { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ الجاثية : 21 ] ، فحسبوا أنهم إذا ساووا أهل الإيمان في الدنيا يساوونهم في الآخرة لو كانت الآخرة حقا ؛ فكذلك هذا اللعين حسب أن يبسط عليه نعيم الآخرة كما بسط عليه نعيم الدنيا ؛ فكان قوله : { كَلاَّ } ردا عليه . فإن كان على هذا ، ففيه أعظم الدلالة على إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه أخبر أن ليس له نصيب في الآخرة ؛ وإنما يحرم النصيب إذا ختم على الكفر كما قال ، فكان . وهذا إخبار منه عن أمر الغيب ، فصدق خبره ، وخرج الأمر حقا كما قال ؛ فثبت أنه بالله تعالى علمه . وجائز أن يكون طمعه الزيادة في الدنيا ؛ فقطع عليه طمعه بقوله : { كَلاَّ } . وذكر أن ماله بعد نزول هذه الآية أخذ في الانتقاص إلى أن أهلكه الله تعالى ، ولم يزد شيئاً ؛ فيكون في هذا - أيضا - ما في الأول من إثبات الرسالة . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } : في هذا تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ لأن الله تعالى أكثر نعمه عليه ، ثم ذلك الملعون مع كثرة نعم الله عليه وإحسانه إليه ، عاند ، ولم يطعه في أوامره ؛ فكيف ترجو أنت منه في معاملته إياك مع معاملتك إياه بما يخالف مراده وهواه ؟ فيكون فيه ما يدعوه إلى الصبر . والعناد : هو مخالفة الحق عن علم بظهور الحق ؛ فيكون قوله : { إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } : أنه بعد علم وإحاطة ويقين عاند آيات الله ، وخالف أمر رسوله ، واستكبر . والمكابر هو الذي يكابر عقله ، فيخالف ما يثبته عقله بالأقوال أو بالأفعال . ثم في قوله - عز وجل - : { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ } إبطال قول من قال : إن الله تعالى لا يفعل بعباده إلا ما هو الأصلح لهم ؛ لأن قوله : { أَنْ أَزِيدَ } لا يخلو إما أن تكون الزيادة التي كان يطمعها خيرا له ، وفي شرط الله - تعالى - عندهم أن يزيده ، وفي قوله : { كَلاَّ } قطع طمعه للزيادة ؛ فيصير بحرمان الزيادة عنه جائراً ؛ فكيف حصل آية رسالته من الوجه الذي هو جور عندكم . وإن كان حرمان الزيادة خيرا له وأصلح ؛ فكيف جعل الحرمان - أيضا - علما لنبوته ، وكان عليه أن يحرمه طعلى زعمكم . وفي قراءة عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - : { ثم يطمع أن يزيد } . وقوله - عز وجل - : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } : جائز أن يكون على تحقيق الصعود ، وهو العقبة التي يشتد الصعود عليها ؛ كما ذكره بعض أهل التأويل ، فيكلف الصعود عليها . وجائز أن يكون على التمثيل ؛ وذلك لأن الصعود في الشاهد مما يشق على المرء ، والهبوط مما يسهل على المرء الانحدار عنه . فإن كان على هذا ، ففيه أن يصيبه في الآخرة مما يشتد ويشق على نفسه تحمل ذلك . ثم يقال للمعتزلة في هذه الآية وفي قوله : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } : إن في هذا وعيدا من الله تعالى بأن يصليه سقر ، وسيرهقه صعودا ، فأراد الله تعالى أن يصدق خبره ، وينجز وعده ، أو أراد أن يكذب خبره ، ويخالف وعده ؟ فإن قلتم بالثاني ، فقد نسبتموه إلى الكذب ، وإلى خلف الوعد ؛ ومَن هذا وصْفُه فهو سفيه جاهل ، لا يصلح أن يكون إلها . وإن قلتم : بلى ، أراد أن يصدق خبره ، وينجز وعده ، قلنا لكم : أراد أن ينجز وعده مع دوامهم على الكفر ، أو عند انقلاعهم عنه ؟ فإن زعمتم أنه إنما أراد أن يصليهم سقر على الخروج من الكفر ، فهذا منه جور ؛ لأنه يصليهم سقر بشيء لا إرادة لهم فيه . وإن سلمتم أنه أراد إصلاءهم سقر إذا داموا على الكفر واستقروا عليه ، فقد لزمكم أن تقولوا : إن الله تعالى أراد من كل أحد ما علم أنه يختاره ، ويكون منه . ويقال لهم : إن الله تعالى يقول : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ ٱلذُّلِّ } [ الإسراء : 111 ] ، ولو كان الأمر على ما زعمتم : أنه يريد من كل كافر أن يسلم ، ويؤمن به ، ويريد الكافر أن يكفر به ، ويعاديه ، فإذن قد أراد أن يكون له ولي من الذل ؛ لأنه يريد أن يواليه مع اختيار الكافر في معاداته ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيرا . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } . قال الفقيه [ - رحمه الله - ] : إن فراعنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتقدوا معاندة الحق ، واعتقدوا صد الناس عن سبيل الله وأن يطفئوا نوره ، فأرادوا أن يجمعوا على أمر ينسبونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه ينفون عن أنفسهم سمة الجهل وتهمة الكذب في ذلك ، على ما ذكروا أن الوليد جمع أصحابه ، فقال : إن هذه أيام الموسم ، وإن الناس سائلوكم عن هذا الرجل ؛ فماذا تقولون ؟ فقال بعضهم : نقول : هو شاعر ؛ قال : إنهم قد سمعوا الشعر ، وما قوله بقول شعر . وقال بعضهم : نقول : هو كاهن ؛ فقال : إن الكهانة معروفة عند العرب ، وإذا سمعوا قوله عرفوا أنه ليس بكاهن ؛ فيكذبونكم . وقال بعضهم : نقول : هو كذاب ؛ فقال : إنا قد اختبرناه فما أخذنا عليه كذبة قط . فقال بعضهم : نقول : هو مجنون . فقال : إذا نظروا إليه علموا أنه ليس بمجنون ، فأعيا عليهم ، ففكر في نفسه وقدر ، فقال : { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } : ما هذا الذي أتى به إلا سحر يؤثره عن غيره - أي : يرويه - فاتفقت كلمتهم على تسميته : ساحرا ، وقالوا : الساحر يفرق بين اثنين ، وقد وجد منه التفريق بين الآباء والأولاد وبين ذوي الأرحام ؛ رجاء أن يصلوا إلى مرادهم من صد الناس عن سبيل الله تعالى وإطفاء نوره ؛ مكرا منهم ، وهو كقوله : { وَكَذٰلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَٰبِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ } [ الأنعام : 123 ] . ووجه رجوع المكر إلى أنفسهم ذكروا فيه أوجها : أحدها : رجوع المكر إلى أنفسهم : أن الله تعالى أظهر سوء صنيعهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجعله آية تتلى إلى يوم القيامة ؛ فيكون فيه ظهور كذبهم ، وإلحاق العار بهم إلى يوم التناد ، وتوارد اللعن . والثاني : أن الكبراء إذا اجتمعوا في مكان للتدبير ، اتصل بهم أوساطهم واختلط بهم صغارهم فيقع لجملتهم العلم بالذي وقع عليه التدبير واتفقت عليه الكلمة ، وإذا وقفوا على تدبيرهم جملة ، انتشر علم ذلك في الآفاق ، فيقف الناس على كذبهم وافتعالهم ، فيتحقق عند ذلك جهلهم بحال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ويصير كذبهم شائعا في الخلق ظاهرا من الوجه الذي أرادوا نفي سمة الجهل عن أنفسهم ؛ ويتحقق عند الناس كذبهم ؛ فلا يركنوا إلى قولهم ولا يلتفتوا إلى إخبارهم عن حاله ؛ إذ قد تبين جهلهم بحاله ؛ فيكون ذلك سببا لترغيب الناس إلى الإسلام ودعائهم إليه ، لا أن يكون سببا للصد عن سبيل الله ؛ فصار المكر راجعا إليهم . ثم قوله : { إِنَّهُ فَكَّرَ } ، أي : فكر في الأمر الذي أراد إحكامه ، أو فكر في الكلمات التي ألقوها فيما بينهم ، أيها أليق برسول الله صلى الله عليه وسلم فينسب إليه . وقوله - عز وجل - : { وَقَدَّرَ } يخرج على هذا أيضا . وقوله : { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } ، قيل : لعن ، واللعن هو الإبعاد عن رحمة الله تعالى ، وقد ظهر الإبعاد ؛ لأن مادة ماله قد انقطعت في الدنيا ، وأخذ ما كان اجتمع عنده في الانتقاص إلى أن أهلكه الله تعالى ، ثم ساقه إلى النار خالدا فيها . وقوله - عز وجل - : { كَيْفَ قَدَّرَ } ، أي : كيف لم يستح عن تقديره الذي قدر من تسمية رسول الله صلى الله عليه وسلم : ساحرا ، وقد علم أنه في إنشاء ذلك الاسم كاذب ؟ أو كيف اجترأ على الله تعالى ، وتجاسر وهو يعلم أنه رسول حق ، فعاند آياته ، واجترأ على ذلك ، ولم يخف نقمة الله تعالى ؟ ! . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } فلعنه مرتين ، وقد ظهر أثر اللعن فيه في الدنيا والآخرة جميعا ؛ لأن الله تعالى فضحه بما أظهر كذبه للخلائق ، فبقي ذلك العار إلى آخر الأبد وأبعده من رحمته ؛ حيث أخذ ماله في الانتقاص ، وانقطعت مادة ماله ، فهذا أثر اللعن في الدنيا ، ووعد أن يصليه سقر ، وأن سيرهقه صعودا ، وذلك خزيه ولعنه في الآخرة ، فظهرت ، إحدى اللعنتين في الدنيا وتلحقه الثانية في الآخرة . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ نَظَرَ } جائز أن يكون نظر في كلمات القوم التي ألقوها فيما بينهم . وقوله : { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } جائز أن يكون الذي حمله على العبوس والبسور هو ما ألقوا إليه المختلف من الكلمات ، فعبس وجهه عليهم ؛ لما في اختلافهم ظهور كذبهم . أو يكون الذي دخل عليه من شدة الغيظ في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أهمه وأحزنه ، حتى أثر ذلك في وجهه ، فعبس لذلك وجهه . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ أَدْبَرَ وَٱسْتَكْبَرَ } : يحتمل أن يكون أدبر عن أولئك القوم الذين اجتمعوا للتدبير ، واستكبر عليهم . أو أدبر عن طاعة الله تعالى ، واستكبر على رسوله ؛ حيث أعرض عنه ، ولم يجبه إلى ما دعاه إليه . وقوله - عز وجل - : { فَقَالَ إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } : أي : هذا الذي أتى به محمد مما يؤثر من أفعال السحر . أو هذا الذي يخبر أنه أتى به من عند الله هو سحر يؤثر عمن تقدمه ، ولكن قال هذا على علم منه أنه ليس بسحر . قال الفقيه - رحمه الله - : ولو كان الذي أتى به محمد صلى الله عليه وسلم سحرا كما قرفوه به ، فهو لا يخرج من أن يكون حجة له في صدق مقالته وإثبات رسالته ؛ لأنه لا وجه لمعرفة السحر من طريق الرأي والتدبير ، وإنما سبيل الوصول إليه الإتقان والتلقن عن الغير ، وقد علموا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يلقنْه أحد ، ولا وجد منه الاختلاف إلى من عنده علم ذلك ، فوقع لهم الإيقان : أنه بالله تعالى علم لا بأحد من الخلائق ؛ فيصير الذي قرفوه به من أعظم الحجة ، ولكن الله تعالى طهره عن السحر ، ونزهه عن ذلك ، وأمره بمعاداة السحرة حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقتلوا كل ساحر وساحرة " ، وقال : " توبة الساحر ضربة بالسيف " . ثم الأصل أن الساحر يفرق بين الاثنين ، ويعمل سحره في التفريق على وجه لا يوقف على سبب التفريق ، وكان سبب تفريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا ؛ لأنه كان يأتيهم بالحجج ؛ فيعلم من أمعن النظر فيها صدّقه فيما يدعي من الرسالة فيؤمن به ، ومن ترك النظر فيها ، ولم يعط من نفسه النصفة ترك الإيمان به ؛ فبطل أن يكون تفريقه كتفريق السحر . ولأن كلاًّ منهم لو تفكر فيما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وأمعن النظر فيه ، حمله ذلك على الإيمان به ، والتصديق لرسالته ؛ فيصير الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم سبب [ الاجتماع والألفة ] ، لا أن يكون سبب التفريق بين الأحبة . ثم الأصل أن الساحر بغيته وقصده من سحره نيل الجاه عند العظماء والرؤساء واستفادة السعة في الدنيا ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ، لم يكن يطلب بما أتى به الجاه عند الرؤساء ، بل عاداهم ، وأظهر الخلاف لهم ، فدعا الخلق إلى الزهادة في الدنيا لا إلى الاستكثار منها ، فكيف يجوز أن ينسب إلى السحر ، وقد أتى بما يضاد فعل السحرة ؟ . وقوله - عز وجل - : { إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ قَوْلُ ٱلْبَشَرِ } : قد علم أنه ليس بقول البشر ؛ لما عجز البشر عن إتيان مثله ، وقال : { إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } ؛ فثبت أنه على العلم منه بأنها آيات عاند . وقوله - عز وجل - : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } . السقر : لون من العذاب . وقيل : السقر : هي الدركة الخامسة . وقيل : السقر : من أبواب جهنم ، ومعناه : سأدخله جهنم من باب السقر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } : يحتمل : أي : لا تبقي [ له ] حياة يتلذذ بها ، ولا تذره يهلك فيستريح ، بل يبقى أبدا في الهلاك ، كما قال تعالى : { فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَىٰ } [ طه : 74 ] . ويحتمل : لا تبقي له جلدا ولا لحما ولا عظما ، بل تنضج جلده وتأكل لحمه ، وتكسر عظمه ، ولا تذره على تلك الحال كسير العظم ، مأكول اللحم ، نضيج الجلد ، بل يعاد جلده ولحمه وعظمه فتحرقها كذلك أبدا ، ولا تُبقي له روحا ولا تذره فيهرب منها ؛ فيتخلص من عذابها . وقوله - عز وجل - : { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } : قيل : فيه بوجوه : قيل : { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } ، أي : محرقة للجلد ، فالبشر : الجلد ، فجائز أن خص الجلد بالتلويح ؛ لأن الجلد من الإنسان هو الظاهر ؛ فيكون ظاهر الإحراق مؤثراً فيه ؛ فخصه بالذكر لهذا ؛ كما سمي الإنسان : إنسانا ؛ لظهوره لكل من هو من أهل الروية ، وسمي الجن جنا : لاستتاره عمن ليس من جنسه ، وهو كقوله - عز وجل - : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } [ النساء : 56 ] . وقيل : { لَوَّاحَةٌ } ، أي : ظاهرة للبشر ؛ كقوله تعالى : { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } [ الشعراء : 91 ] . وقوله : { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ } [ النازعات : 36 ] ، أي : [ تظهر لهم ] وتلوح ، فينظرون إليها ، ويتيقنون بالعذاب . ويحتمل أن يكون قوله : { لَوَّاحَةٌ } ؛ لأن النار تأكل جلودهم ولحومهم ؛ فتظهر عظامهم وتلوح عند ذلك ، ثم تبدل جلودا ولحوما ، [ أبدا ] على هذا مدار أمرهم . وقوله - عز وجل - : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } : روي عن ابن عباس - رضي الله عنها - أنهم خزنة جهنم مع كل واحد من الأعوان ما لا يحصى ، وذكر أن ستة منهم يقودون الكفرة إلى النار ، وستة يسوقونهم ، وستة يضربونهم بمقامع من الحديد والنيران ، والآخر هو الخازن الأكبر ، وهو مالك يأمرهم بما أمر هو به . ويحتمل : أن يكون في السقر تسعة عشر دركا ، وقد سلط على كل درك ملك ؛ وذلك لأن جهنم ذات حد في نفسها ؛ لأن الله تعالى وعد أن يملأها من الجنة والناس ، ولو لم ترجع إلى حد ، لكان لا يتحقق امتلاؤها بالقدر الذي ذكر . ويحتمل : أن يعذب فيها بتسعة عشر لونا من العذاب ، قد وكل واحد منهم أن يعذب بنوع من ذلك ، والأصل : أن الله تعالى حكيم يعلم أن في كل فعل من أفعاله حكمة عجيبة ، ولكن لا كل حكمة يوصل إليها بالعقل ، وينتهي إلى معرفتها بالتدبير ؛ ألا ترى أن الله تعالى جعل في الماء معنى يحيا به كل شيء ، ولو أراد أحد أن يتكلف استخراج المعنى الذي به صلح أن يكون طبيعة موافقاً لإحياء كل شيء لا يمكنه ذلك ، وجعل في الطعام ما يغذي وينمي ، ولو أراد أحد أن يتعرف المعنى الذي يقع به الاغتذاء والإنماء لم يتدارك ؛ وكذلك جعل في العدد الذين سماهم حكمة ، ولكنا لا نصل إلى تعرفها بعقولنا وتدبرنا . وزعمت الباطنية أن في ذكر الأعداد التي عليها تركيب العالم تعريف الأعداد المجعولة في الروحانيات . فيقال لهم : من جعل الأعداد التي عليها تركيب العالم أولى بأن يتعرف بها الأعداد المجعولة في الروحانيات من أن تجعل الأعداد التي في الروحانيات [ علماً لاستدراك ] المجعولة في الجسدانيات ؟ ثم يسألون عن الأعداد المجعولة في الروحانيات لأي معنى جعلت ؟ وأي حكمة فيها ؟ فليس جوابهم بعد هذا إلا العجز والاعتراف بالجهل ، فليقروا بالجهل من الابتداء من غير أن يتكلفوا استخراج ما يوجب عن حقيقة كان فيه ظهور عجزهم ، والله أعلم . والأصل عندنا ما ذكرنا : أن أهل التوحيد اعتقدوا أن الله تعالى حكيم ، وأنه لا يجوز أن يخرج فعله عن حد الحكمة ؛ لأن الذي يحمل الإنسان على الخروج عن حد الحكمة في الشاهد أحد معان ثلاثة : إما الجهل . وإما العجز . وإما الحاجة . والله تعالى عالم لا يجهل ، وقوي لا يلحقه عجز عن وفاء ما وعد ، وغني لا تمسه حاجة ؛ فانتفت عنه الأسباب التي لديها يقع الخروج عن حد الحكمة ، فثبت أنه لا يجوز أن يخرج فعله عن حد الحكمة ، لكنهم إذا لم يعرفوا الحكمة بعقولهم ، ولم يتداركوها بتدبيرهم ، ظنوا أنه لا حكمة فيه ، وأنكروا أن يضاف ذلك إلى الله تعالى ، فأهل الدهر أنكروا البعث ، وأنكروا الصانع ؛ لما رأوا أشياء في الشاهد هي في الظاهر خارجة مخرج العبث ؛ وفعل الحكمة لا يخرج مخرج العبث ، فنفوا بهذا أن يكون للأشياء صانع ، ومن بني بناء ، ثم نقضه ، ثم أعاده إلى الحالة التي كان عليها قبل النقض ، لم يكن حكيما ، بل كان جاهلا سفيها ، فقاسوا أمر البعث على ذلك ، وظنوا أنه خارج مخرج العبث ؛ إذ ليس فيه إلا الإعادة إلى الحالة التي كان عليها قبل الموت . وما ذكرنا من الاعتبار هو الذي حمل الثنوية على القول بإلهين اثنين : أنهم رأوا في الشاهد خيرا وشرا ، وصلاحا وفسادا ، وظلمة ونورا ، ولا يجوز أن يكون جوهر الظلمة والنور واحدا ، ولا يجوز - أيضا - أن يكون فعل الحكيم يخرج على الاختلاف والتناقض ، فقد بنوا بهذا أن خالق الشر والخير مختلف . وبهذا أنكرت المعتزلة خلق أفعال العباد ؛ لأن الفعل يكون مرة خيرا ومرة شرا ، ومرة صلاحا ومرة فسادا ، ولا يجوز أن يكون الشر مضافا إلى الله تعالى ، ولا أن يكون الفساد منسوبا إليه ؛ فأنكروا أن يكون لله - تعالى - في أفعال العباد صنع . وأهل التوحيد سلموا الأمر إلى الله تعالى ، وفوضوا العلم إليه في كل ما جاء عنه - جل وعز - وإن لم يتداركوا ما فيه من الحكمة بعقولهم ؛ لوجودهم أشياء هي خارجة أن يتداركوها بعقولهم ، ويقفوا عليها بعلومهم ، كا ذكرنا من أمر الماء : أنه قد جعل فيه معنى ، ذلك المعنى يحيي الأشياء ، ولو أرادوا أن يعرفوا ذلك المعنى بالعقول والآراء ، لم يمكنهم ذلك ؛ وكذلك في هذا الطعام ، وفي الأشياء المشروبة موجود ، ثم لم يجب بهذا إنكار المياه وسائر الأطعمة والأشربة ؛ فكذلك لا يجب إنكار العدد الذين سماهم الله تعالى من الملائكة ، ولا إنكار البعث ، ولا إنكار كل شيء لم يقفوا على حكمته بعقولهم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً } : فلقائل أن يقول في هذا : إنه لم يجعل أصحاب النار إلا ملائكة ، لم يوجد فيها إنسي ولا جني ، فكيف قال : { لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ ٱلْجِنَّةِ وَٱلنَّاسِ } [ هود : 119 ] ، وهو لم يجعل أصحاب النار إلا ملائكة ؟ [ والجواب : أن تأويله : ] أي : ما جعلنا على أصحاب النار إلا ملائكة يعذبون أهلها بها ، لا أن يكون الملائكة تمسهم النار ، ويتأذون بها . وفي هذا دلالة على أن من قرأ مكان قوله تعالى : { أُولَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْجَنَّةِ } [ البقرة : 82 ] : " أصحاب النار " في صلاته لا تفسد ؛ لأنه ليس في نسبة أصحاب الجنة [ إلى ] أصحاب النار إيجاب عذاب عليهم ؛ كما لم يكن في قوله : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً } إيجاب عذاب على الملائكة واستحقاقهم ، والله أعلم . وإنما خصهم بذلك - والله أعلم - لأنهم خلقوا يسخطون ويغضبون لله تعالى ، ولا يعصون الله ما أمرهم ، ويفعلون ما يؤمرون ، لم يميلوا إلى أحد ، ولم يرحموا بما رأوا عليه من العذاب في معصية الله وخلافه ، ليسوا على طباع الإنس والجن أن قلوبهم ربما تميل وترحم من لا يستحق الرحمة . وذكر أهل التأويل أن قوله : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً } رد على أولئك الكفرة الذين قالوا : " إنا لنكفي هؤلاء العدة - حين سمعوا { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } - فنغلب عليهم ، ونخرج من النار " ، فأخبر أنهم ليسوا برجال أمثالكم ، إنما هم ملائكة ، ووصف الملائكة ، وقد روى في الأخبار من هول خلقهم ، وعظمهم ، وشدة بأسهم وبطشهم ، وأن لهب النيران يخرج من أفواههم ، وأن بنيتهم لا تحتمل الحرق والآلام ، وليس على ما عليه بنية البشر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } : الفتنة : قد يتكلم بها على وجهين : فتذكر الفتنة ويراد بها المحنة التي فيها الشدة . وتذكر ويراد بها العذاب . فإن كان يراد بها العذاب ، فمعناه : أنه جعل العدد الذي ذكر فتنة للكفرة ؛ وهو كقوله : { يَوْمَ هُمْ عَلَى ٱلنَّارِ يُفْتَنُونَ } [ الذاريات : 13 ] ، أي : يعذبون . وإن كان يراد بها المحنة ، فتخرج على وجوه : أحدها : أي : ما جعلنا ذكر عددهم إلا لافتتان الذين كفروا ، أي : من علمَ الله تعالى منه أنه يكفر بآيات الله تعالى ، جعل ذلك سببا لفتنته إذا كان في علم الله تعالى أنه ممن يبتغي الفتنة ، فأما من علم أنه ينظر في آيات الله مسترشدا ، فلم يزده ذلك إلا إيمانا وتصديقا ] ؛ إذ علموا أن لله تعالى أن يمتحنهم بأنواع المحن ، فآمنوا به ، وسلموا ذلك لله تعالى ؛ فيكون في جعل عدتهم تسعة عشر شدة على الكفرة ، إذ كان سبب كفرهم ؛ فلذلك سمى المحنة على هذا الوجه فتنة . وقوله - عز وجل - : { فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } بمعنى : على الذين كفروا . ثم جائز أن يكون ذلك على حدوث الكفر ، وهو في قوم قد آمنوا به ، فلما سمعوا هذا زعموا أن لا حكمة في هذا العدد ، وليس هذا العدد بأولى [ من ] أن يجعلوا أصحاب النار من العشرين أو من الثمانية عشر ، فكفروا به ؛ وهو كقول موسى - عليه السلام - : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَآءُ } [ الأعراف : 155 ] ، وذلك على حدوث إضلال لهم لم يكن من السامري موجود ، لا أن الإضلال متقدم بغيرها . وجائز أن تكون فتنتهم هي أنهم ازدادوا بذكر هذا العدد كفرا إلى كفرهم ؛ لأنهم نظروا إليه بعين الاستخفاف والاستهزاء ، ولم ينظروا إليه بعين التبجيل والتعظيم ، فازدادوا بذلك كفرا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لِيَسْتَيْقِنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً } : الاستيقان والزيادة واحد ؛ لأن في الاستيقان زيادة إيمان ، وفي الزيادة استيقان ، فمعناه : ليستيقن الذين أوتوا الكتاب [ و ] الذين آمنوا . ووجه استيقانهم : أنهم يجدون هذا العدد موافقا للعدد الذي في كتابهم ؛ فيحملهم ذلك على الاستيقان أنه من عند الله تعالى . ويحتمل أنه يراد به أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا إذا وجدوا ذلك موافقا لما في كتبهم ؛ فيستيقنون : أنه إنما يخبر عن الله تعالى ، ويرتفع عنهم الارتياب ؛ ليكون أدعى لهم إلى الإيمان به ، إن أراد منهم الإيمان ، وأقرب إلى إلزام الحجة عليهم ، إن لم يرد منهم الإيمان ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيَزْدَادَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِيمَٰناً } ، [ أي : ] تصديقا على ما سبق منهم من التصديق بالجملة ، وكذلك روي عن أبي حنيفة - رحمه الله - في قوله : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً } [ التوبة : 124 ] ، وفي كل موضع ذكر فيه الزيادة في الإيمان : أن معنى الزيادة فيه : أنهم زادوا بالتفسير تصديقا على تصديقهم بالجملة ؛ لأنهم إذا وحدوا الله تعالى ، وآمنوا به ، فقد أقروا بأن له الخلق والأمر كله ، وفي الإقرار بأن له الخلق إيمانٌ بالرسل وتصديق منه إياهم بجميع ما أنزل عليهم من الكتب عن الله تعالى ؛ فصار بإيمانه معتقداً للتصديق بكل رسول على الإشارة إليه ، فإذا آمن بالرسول والكتاب المنزل إليه ، فقد أتى بزيادة تصديق على ما وجد منه من التصديق بالجملة . وجائز أن تكون الزيادة منصرفة إلى الثبات والاستقامة ؛ لأن الإيمان له حكم التجدد في كل وقت ؛ إذ المؤمن في كل وقت مأمور باجتناب الكفر ، وإذا اجتنب الكفر ، فقد أتى بضده ، وهو الإيمان ؛ فثبت أن الإيمان له حكم التجدد في كل وقت ، وإذا كان كذلك ، استقام صرف الزيادة إلى الثبات والقرار عليه ، فإن شئت فسم الدوام على الإيمان : زيادة ، وإن شئت فسمه : إيمانا ، وإن شئت فسمه : ثباتا ، وفي الكتاب ما يطلق جواز هذا كله ؛ قال الله تعالى : { يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ءَامِنُواْ بِٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } [ النساء : 136 ] فندبهم إلى الإيمان بعدما آمنوا ، وما ذلك إلا الثبات على ما هم عليه ، وقال : { يُثَبِّتُ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱلْقَوْلِ ٱلثَّابِتِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا } [ إبراهيم : 27 ] وهو الإيمان ، وقال في آية أخرى : { لِيُثَبِّتَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ النحل : 102 ] فجعل دوامهم على الإيمان واستقامتهم عليه إيمانا . وقال تعالى : { زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً } [ الأنفال : 2 ] قال أبو داود : إيماناً مع إيمانهم فأطلق فيه اسم الزيادة ، واسم الثبات ، واسم الإيمان . وإن كانت الزيادة منصرفة إلى الأعمال ، فهو عندنا على الزيادة من جهة الفضيلة والكمال ، لا إلى الزيادة في عينه ؛ لأن الشيء إذا استحق الزيادة بغيره فاستحقاقه يقع من جهة الفضيلة والكمال ؛ ألا ترى إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام " ومعلوم أنه لم يرد به التفاضل من جهة العدد ؛ إذ هو يأتي بأعين الأفعال التي يلزمه إتيانها في غير ذلك ؛ فكانت الزيادة منصرفة إلى الكمال والفضل ، لا إلى الزيادة من جهة العدد . وكذلك قال : " صلاة في جماعة تفضل على صلاة المرء وحده بخمس وعشرين درجة " ، ولم يرد به الزيادة من جهة العدد ؛ وإنما أريد به الزيادة من جهة الفضل والشرف والكمال ، وكذلك الزيادة التي تقع للإيمان من الأعمال الصالحة ، إنما هي من جهة الفضيلة والشرف ؛ إذ الأعمال ليست من جنس الإيمان ؛ إذ الإيمان هو التصديق ، وذلك غير موجود في الأفعال ؛ فثبت أن زيادته من الوجه الذي ذكرنا دون غيره . وقوله - تعالى - : { وَلاَ يَرْتَابَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَٰبَ وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } : في هذا الفصل كلام بيننا وبين المعتزلة ، فهم يزعمون أن تلك العدة - وهي عدة الملائكة - جعلت محنة لأهل الإسلام ، وأهل الكتاب ، وأهل الكفر ، وللذين في قلوبهم مرض ؛ ليؤمنوا بها ، ويستسلموا لها لا ليكفر بها من كفر ، ويقول : { مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } ؟ ولكن لما وجد منهم ذلك القول نسب الجعل إليه ، لا أن خلقوا لذلك الوجه ؛ وهو كقوله تعالى : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] نسب إليهما الالتقاط وإن كان الالتقاط لغير ذلك الوجه ، وكذلك قال : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] ، ومعلوم أن الإملاء لم يكن لازدياد الإثم ، ولكن هم لما ازدادوا إثما ، نسب الإملاء إليه ، وإن لم يكن الإملاء لذلك الوجه ، وكذلك يقال في الكلام السائر : @ @ لدوا للموت وابنوا للخراب @@ @@ ولا أحد يبني للخراب ؛ ولكن مصيره لما كان إلى الخراب نسب البناء إليه ، وإن لم يكن البناء لذلك الوجه ، ويقال : يسرق السارق لتقطع يده ، ومعلوم أنه ليس يسرق للقطع ، ولكن بسرقته إذن لزمه القطع ولأجلها ما قطع ، نسب الفعل إليه ، وإن كانت السرقة لغير ذلك الوجه ؛ فكذلك العدة التي ذكرت في الآية جعلت فتنة بجهة واحدة ، وهي التي ذكرناها ، لكنه لما وجد من الكفرة ما ذكرنا نسب الخلق إلى ذلك الوجه ، لا أن كان الجعل لذلك . ولكنا نقول : لو كان الأمر على ما زعموا ، أدى ذلك إلى إسقاط الربوبية ؛ إذ في الحكمة : من عمل عملا يريد غير الذي يكون ، أوجب ذلك جهلا بالعواقب ، أو جعل عابثا في فعله ، ومن هذا وصفه ، لم يصلح أن يكون إلها ، بل يكون جاهلا سفيها ؛ ألا ترى أن من بنى شيئا يعلم أنه لا يكون - كان ذلك منه عبثا ، وإذا كان غير الذي يريده كان جاهلا به . فإذا ثبت هذا فنقول : لو أراد الله من الكافر غير الذي كان منه ، لكان فعله خارجا مخرج الخطأ ، أو العبث ؛ فثبت أن الله - عز وجل - شاء لكل فريق ما علم أن يكون منهم ؛ فإذا علم من عبده أنه يؤثر الضلال على الهدى ، فقد شاء له الضلال ، وإذا علم أنه يؤثر فعل الخير ، شاء له ذلك ، ووفقه له ، وهداه إليه . والجواب عن قوله - عز وجل - : { فَٱلْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] ، فمعناه : ليكون لهم في علم الله عدوا وحزنا ، لا أن كان الالتقاط منهم لذلك الوجه ؛ بل لو علموا أنه يصير لهم عدوا وحزنا لم يلتقطوه ، ولكنهم جهلوا ما ينتهي إليه العاقبة ؛ فالتقطوه ؛ رجاء أن ينتفعوا به . ولا يجوز أن تخفى على الله تعالى عواقب الأشياء ؛ فيكون فعله في الابتداء لغير ذلك الوجه . وقولهم : لدوا للموت وابنوا للخراب فهذا يتكلم به في موضع التذكير والدعاء ؛ لئلا يحرص المرء في بناء الأبنية ، بل يزهد عنه ، ولا يجوز أن يخفى على الله تعالى أمر ؛ فيخرج الأمر فيه مخرج التذكير ؛ فثبت أنه على التحقيق ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { وَلِيَقُولَ ٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَٱلْكَٰفِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ ٱللَّهُ بِهَـٰذَا مَثَلاً } : فالمثل يذكر بمعنى البيان ؛ كقول القائل : " أمثل لك صورة كذا " يريد أبين لك . وقوله - عز وجل - : { كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } ، فهذا كله تفسير قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً … } الآية ، أي : يضل به من كان في علمه أنه يختار الضلال ، واختياره الضلال هو أن ينظر في آيات الله تعالى بعين الاستهزاء والاستخفاف ، ومن كان نظره في آيات الله ما ذكرنا ، أضله الله تعالى ، وزاده غواية ، ومن نظر في [ آيات الله ] بعين الاستهداء والاسترشاد ، واستقبلها بالتبجيل والتعظيم لها ، وفقه الله تعالى ، ومن عليه بالهداية ؛ وهو كقوله تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ وَٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ فِيۤ آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44 ] وغير ذلك ، والله الموفق . وقالت المعتزلة : قوله : { كَذَلِكَ يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ } ، أي : يسميه : ضالا ، أو يحكم عليه بالضلال إذا ضل ، لا أن يكون الله - تعالى - يضله ، ويشاء ضلالته . فيقال لهم : إذا كان الله يريد أن يؤمن به ، وذلك إرادته في كل أحد عندكم فتسميته إياه : ضالا ، وحكمه بالضلال وهو يريد أن يهتدي - جور منه ، وفيه تحقيق كذبه ، جل الله تعالى عن أن يلحقه وصف الجور في فعله ، أو ينسب إلى الكذب . وقال أبو بكر الأصم : تأويله : أن الله - تعالى - ينصب طريقا ، مَن سلكه أفضى به إلى الهداية ، ومن زاغ عنه صار إلى الضلال ، ولا يتهيأ لأحد من الخلائق أن ينصب مثله . فنقول : لو كان التأويل على ما زعم لكان حقه أن يقال : " كذلك يضل الله ما يشاء ويهدي ما يشاء " ؛ فلما قال : { مَن يَشَآءُ } ، و " مَن " يعبر به عن الأشخاص العقلاء [ لا ] عن الطريق التي لا يعقل ، ثبت أن الذي قاله ليس بشيء يعتمد عليه . [ ثم ] الأصل أن قوله : { يُضِلُّ ٱللَّهُ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } من صفات الربوبية ، وفيه امتداح الرب - تعالى - بالفعل لما يريد ، فلو لم يكن مريدا منهم ما قد كان ، ولم يرد كون ما علم أنه يكون ، سقط الامتداح ، وخرج عن أن يكون من صفات الربوبية ؛ فثبت أن الله تعالى شاء لكل فريق ما علم أن يكون منهم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } : فالجنود هو اسم للجماعة التي ينتقم بها ، وينتصر بها . وجائز أن يكون قوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ } منصرفاً إلى الملائكة ، التي هي أصحاب النار ، ليس ما جعله من خزنة النار عدداً قليلاً ؛ لقلة جنوده ، { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } ، أي : [ لا يعلم ] مقادير قواهم وأحوالهم إلا الله ؛ فمعناه : لا يعلم جنود ربك ، أي : لا يعلم قوة هؤلاء الجنود وبطشهم وهيبتهم إلا هو . ثم يجوز أن يكونوا سلطوا على تعذيب أهل النار ؛ على جهة الامتحان للملائكة ؛ كما امتحن بعضهم بإيصال التحف والكرامات إلى أهل الجنة ، وكما امتحن بعضهم في الدنيا بقبض الأرواح ، وبعضهم باستنزال الأمطار ، وغير ذلك . وجائز أن يكون تسليطهم على أهل النار على جهة الثواب والجزاء لهم ؛ لأنهم يتلذذون بما يعذبون أهل النار ، وينتقمون من أعداء الله تعالى ؛ لأن المرء في الشاهد إذا وصل إلى الانتقام من عدوه ، تلذذ به وتنعم . ويحتمل أن يكون قوله - عز وجل - : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } ، أي : وما يعلم كثرة جنود ربك إلا هو . ويحتمل : وما يعلم السبب الذي به يجعل الجنود ، ويصلحون للانتقام إلا هو ؛ إذ هو القادر على أن يجعل أضعف شيء من خلقه جندا ينتقم به من أعدائه ، كما في قصة البعوض في زمن نمرود ، وغير ذلك من إرسال الطير إلى أصحاب الفيل ، وإمطار الحجارة على قوم لوط ، ونحو ذلك . ويحتمل أن يكون قوله - عز وجل - : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ } ، أي : لا يعلم ما الذي يتخذ الله تعالى جنداً للانتقام من الأعداء إلا هو ؛ ألا ترى أن الله - تعالى - انتقم من بعض الأعداء بالغرق ، وهم قوم فرعون وقوم نوح - عليه السلام - وأهلك بعضا منهم بالرياح ، واتخذها جنودا عليهم ، وأهلك بعضهم بالخسف ؛ فيكون في هذا إيجاب المراقبة من حلول النقمة والسخطة . وقوله - عز وجل - : { وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَىٰ لِلْبَشَرِ } : جائز أن يكون منصرفا إلى السقر أنها ذكرى للبشر ، أي : موعظة وتذكيرا لهم ما إليه مرجع أمورهم . وجائز أن يكون منصرفا إلى عدة الملائكة . وقوله - عز وجل - : { كَلاَّ } : قيل : حقّاً . وقيل : هو على الردع والتنبيه . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْقَمَرِ * وَٱللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ * وَٱلصُّبْحِ إِذَآ أَسْفَرَ } . فهذا في موضع القسم ؛ وقد ذكرنا أن القسم ؛ لتأكيد ما قصد إليه بالذكر ، وإدبار الليل بمجيء النهار ، فجائز أن يكون ذكر آخر الليل يقتضي ذكر أوله ، وذكر أول النهار يقتضي ذكر النهار كله ؛ فيكون القسم بهما قسما بالليل كله ، والنهار كله . ثم الليل إذا أقبل عملت ظلمته في ستر الأشياء كلها بساعة لطيفة ، وكذلك النهار إذا أقبل عمل في دفع الظلمة عن الخلائق جملة بساعة لطيفة ما لو اجتهد المرء في جميع عمره - وإن طال - على عد تلك الأشياء ؛ ليحيط علما بجملتها ، لم يتمكن منه ، وإذا كان لليل من السلطان ما ذكرنا ، ولإقبال النهار من الأمر ما ذكرنا ، وكان الذي ذكرنا أمرا مشاهدا معاينا ، ولو أريد معرفة ما فيهما من الحكمة : أنه لأي معنى ما صلح أن يكون الليل ساترا عن درك أعين الأشياء ، واستقام أن يكون النهار مزيلا للستر ؟ لم يقدر عليه ؛ فيكون فيه إبانة أنه لا يجب إنكار كل ما لا يوصل إلى درك الحكمة فيه بالعقول والآراء ؛ فيكون فيه إيجاب التصديق بالأنباء التي يأتي بها الرسل ، وإن كان فيها ما لا يوقف على الحكمة المجعولة فيها بالآراء . وفيه أن منشئ الليل والنهار واحد ، وأن الخلائق بجملتهم تحت سلطانه وتدبيره ، يحكم فيهم ما يشاء ، ويفعل ما يريد . وجائز أن يكون القسم منصرفا إلى الوقتين اللذين وقع عليهما الذكر ، وهما إدبار الليل ، وإسفار الصبح ؛ فيكون فيهما ما في الأول . وقوله - عز وجل - : { أَسْفَرَ } ، أي : أضاء ، وانتشر . وقوله : { إِذْ أَدْبَرَ } ، أي : ذهب . وحكي عن الكسائي أنه قال : إن " دبر " لغة قرشية ، يقولون : ذهب كالأمس الدابر ، أي : الذاهب ، فيقولون : دبر في الأيام والشهور والسنين ، ولا يقولون في غير ذلك : لا يقولون : دبر الرجل ، ودبر الأمر ؛ ولكن يقال : أدبر . وفي حرف ابن مسعود { إذا دبر } ، وفي الحروف { إذا أدبر } ، والمعروف { إِذْ أَدْبَرَ } كما قلنا . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهَا لإِحْدَى ٱلْكُبَرِ } قيل : يعني : السقر . ثم عذاب أهل النار ألوان ، وفي جهنم دركات ، والسقر : إحدى دركاتها ؛ إذ هي لون من ألوان العذاب ؛ فصارت هي من إحدى الكبر . وقوله - عز وجل - : { نَذِيراً لِّلْبَشَرِ } . فمنهم من صرف النذارة إلى السقر ، ومنهم من صرفها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو كقوله تعالى : { وَهَـٰذَا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً لِّيُنذِرَ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ } [ الأحقاف : 12 ] ، فمنهم من قرأ { لتنذر } بالتاء ، وصرف النذارة إلى النبي صلى الله عليه وسلم . ومنهم من قرأ بالياء ، وصرفها إلى القرآن . ثم الأصل أن ما خرج مخرج الأفعال مضافاً إلى الأشياء اللاتي ليست لهن أفعال ، فهو يقتضي أمرين : أحدهما : ذكر الأحوال التي تقع لديها مما لو لم يكن ذلك سبباً لم تحدث تلك الأحوال من غير أن يكون علة لها ؛ فنسبت إليها إذا صارت سبباً ؛ لحدوث تلك الأحوال ، وهو كقوله - عز وجل - : { وَغَرَّتْهُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا } [ الأنعام : 130 ] ، وحياة الدنيا لا تغر أحدا ، ولكنهم اغتروا بزينتها ، فنسب إليها الغرور لما كانت سببا لتغريرهم . والثاني : أنها أنشئت على هيئة لو كانت من أهل التغرير ، لكانت تغر ، فنسب إليها الغرور لذلك . وقال في قصة إبراهيم - عليه السلام - { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ } [ إبراهيم : 36 ] ، والأصنام ليست ممن ينسب إليها الإضلال ؛ لأنه لا فعل لها ، ولكن عبادها لما ضلوا بها ، نسب الإضلال إليها ، وهي - أيضا - على صورة لو كانت لها أفعال لكان يقع منها الإضلال ؛ فنسب إليها الإضلال ؛ للوجهين اللذين ذكرناهما ؛ فكذلك النذارة أضيفت إلى النار هاهنا ؛ لأنه عند ذكرها تقع النذارة ؛ فأضيفت إليها لذلك . أو خلقها على هيئة لو كانت من أهل النذارة ، لكانت نذيرة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } : قيل : هو على التهديد كقوله : { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] ، وذلك إنما يكون على إثر المبالغة في العظات ، وتذكير عواقب الأمور ، وقد بالغ [ في ] ذلك في هذه السورة وبين عواقب أمور العباد . ثم قوله - عز وجل - : { أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } قيل : أن يتقدم إلى طاعة الله ، أو يتأخر إلى معصية الله تعالى . والأصل : أن المرء جبل على حب المنافع لنفسه والخيرات ، وعلى بغض الشر والمضار ، ومن أحب شيئا طلبه ، ومن أبغض شيئا اجتنبه ، وهرب منه ، وإذا طلب [ شيئاً ] تقدم إليه ، وإذا هرب من شيء تأخر عنه ؛ فكنى عن الطلب بالتقدم وعن الهروب بالتأخر ؛ فقيل في تأويل قوله - عز وجل - : { يَتَقَدَّمَ } أي : [ إلى ] طاعة الله ، تجدي إليه المنافع في الآخرة ، وتجلب إليه المحاسن أو يتأخر عن طاعته ؛ إذ في الإعراض عن طاعته إيقاع النفس في المهالك وأنواع الشدائد . وجائز أن يكون قوله : { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } ، معناه ، يتقدم ، ويتأخر بتخليق الله تعالى فعل التقدم والتأخر منه ؛ فيكون فعلا له وكسبا ؛ لوجوده في حيز قدرته ، وخلقا لله تعالى ؛ فيكون مثل قولنا ، لا حجة علينا ، في إضافته التقدم والتأخر إلينا ، والله الموفق .