Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 74, Ayat: 49-56)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { فَمَا لَهُمْ عَنِ ٱلتَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ } : جائز أن يكون تأويله : ما لهم معرضين عن ذكر ما لهم ، و [ ما ] عليهم ، وعما إليه مآلهم ومنقلبهم ؛ وذلك يكون في الرسول وفي القرآن ؛ لأن كل واحد منهما يذكر للمرء ما له وعليه ، والله أعلم . وجائز أن يكون تأويله : فما لهم عما به يشرف قدرهم ، ويصيرون به مذكورين في الملأ الأعلى - معرضين ؛ وذلك يكون في طاعته ، والإقبال على عبادته ، وهو كقوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] معناه : أنكم تصيرون به مذكورين ، ويعظم قدركم لو اتبعتموه ، ولم تضيعوا حرمته . وقوله - عز وجل - : { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } . بنصب الفاء وخفضه . فمن قرأ بخفض الفاء صرف الفعل إليها ، كأنه يقول : حمر نافرة ، ونفر واستنفر واحد ؛ كما يقال : استرقد القوم ، أي : رقدوا . ومن قرأ بنصب الفاء ، فتأويله : أنه فعل بها ما يحملها على النفار ، وذلك يكون بالرمي وبالقانص من الأسد ، كما ذكره أهل التفسير في تأويل القسورة هي الأسد ، أو الرماة ، أو الصيادون . ويقال : هي النفرة ، وكان هذا تشبيها بالحمر الوحشية التي في طبعها النفار . ووجه التقريب هو أن هؤلاء أعرضوا عما في الإقبال عليه نجاتهم وتخلصهم من العطب ، ونفروا كنفار الحمر المستنفرة من العطب والهلاك . وفي هذه الآية تبين شدة سفههم وغاية جهلهم ؛ لأن الحمر تنفر عن القانص والرامي والأسد ؛ لتسلم من الهلاك والعطب ، وهؤلاء الكفرة نفروا عما فيه نجاتهم إلى ما فيه هلاكهم وعطبهم ؛ فهم أشر من الحمير وأضل . وقوله - عز وجل - : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ ٱمْرِىءٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَىٰ صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } . قال بعض أهل التأويل : إن المشركين قالوا : يا محمد ، بلغنا أن الرجل في بني إسرائيل كان إذا أذنب ذنبا ، فيصبح ، وجد صحيفة معلقة على باب داره أو مكتوبا عند رأسه : إنك أذنبت كذا . وزاد بعضهم : إنك أذنبت كذا ، وتوبتك كذا . وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلهم كذلك ؛ فأخبر الله تعالى ذلك عنهم ، ثم آيسهم عن ذلك ، فقال : { كَلاَّ } ، أي : لا تنالون ما تأملون . وقال قتادة : قالوا : يا محمد ، إنْ سَرَّك أن نتبعك فائت كل واحد منا بصحيفة خاصة : إلى فلان بن فلان ، تأمرنا فيها باتباعك . وقيل : سألوا أن يؤتوا ببراءة بغير عمل . ولكن لا يجب قطع الأمر على واحد من هذه التأويلات ، بل يقال بها على جهة الإمكان والاحتمال ؛ لأن هؤلاء المفسرين لم يشاهدوا أولئك القوم الذين صدرت منهم هذه الإرادة ؛ ليخبروهم ماذا أرادوا به ؟ حتى يثبت ما ذكروا من القصة والأخبار ، ولا تواترت الأخبار من عند ذي الحُجَّة النبي صلى الله عليه وسلم : أنهم سألوه ذلك ؛ لذلك لم يستقم قطع الأمر على ما ذكروا . وجائز أن تكون هذه الإرادة تحققت في بعض الكفرة وهم الرؤساء منهم والأكابر ، لا أن أراد كلٌّ في ذات نفسه أن يؤتى صحفا منشرة . والإرادة هاهنا عبارة عن الطلب ، ثم طلبهم ما ذكر يتوجه إلى أوجه ثلاثة : أحدها : أن يكون كل واحد من عظمائهم ود أن يكون [ هو ] المخصوص بإنزال الكتاب عليه ؛ كما قال في آية أخرى : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّىٰ نُؤْتَىٰ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ ٱللَّهِ } [ الأنعام : 124 ] ؛ فيكون في هذا إظهار استكبارهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، على جهة التعنت والعناد ؛ ليصير ذلك آية لهم في تحقيق رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ، كما قال الله تعالى حكاية عنهم : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً … } إلى قوله : { أَوْ تَرْقَىٰ فِي ٱلسَّمَآءِ وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } [ الإسراء : 90 - 93 ] ، ففي هذه الآية إبانة أنهم كانوا يطلبون إنزال الكتاب عليهم ؛ ليتقرر لديهم رسالة [ نبينا ] محمد صلى الله عليه وسلم ، وكان ذلك على جهة التعنت والعناد ؛ وإلا لو تفكروا في حاله أداهم ذلك إلى العلم برسالته من غير أن يحتاجوا إلى تثبيت رسالته بكتاب ينزل عليهم ، والله أعلم . وجائز أن يكونوا رأوا أكابرهم أحق بالرسالة من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأولى بإنزال الكتاب عليهم ؛ لما رأوهم أفضل من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ألا ترى إلى قوله : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، وقال في آية أخرى : { أَءُنزِلَ عَلَيْهِ ٱلذِّكْرُ مِن بَيْنِنَا } [ ص : 8 ] ، فأرادوا أن يؤتوا صحفا منشرة لهذا المعنى ؛ إذ هم أولى أن يخصوا بهذه الفضيلة . وإنما ذكرنا هذه التأويلات في هذه الآية ؛ لأن هذه المعاني التي ذكرناها قد ظهرت منهم بمتلو القرآن ، والتأويلات التي ذكرها أهل التفسير لا يتهيأ تثبيتها من جهة الكتاب ولا من جهة الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فصارت هذه التأويلات أمكن وأملك بالآية من غيرها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ ٱلآخِرَةَ } : إن الذي حملهم على الطلب بأن يؤتى كل منهم صحفا منشرة إعراضهم عن الإيمان بالآخرة ؛ وإلا لو آمنوا بها ، لكان إيمانهم بها يحملهم على ترك العناد والتعنت ، وعلى ترك الجسر على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويدعوهم إلى الإذعان للحق . وقوله : { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } سنذكر معنى هذه الآية في سورة " عبس وتولى " ، وسنذكر معنى قوله : { وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } في سورة " إذا الشمس كورت " . وقوله : { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ } : فأهل التأويل صرفوا قوله { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ } إلى الله تعالى . وجائز أن يصرف إلى البشر . فإن كان المراد من قوله - عز وجل - { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ } : البشر ؛ فيكون معنى قوله : { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ } ، أي : الذي يقوم بالذكر ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ ٱلتَّقْوَىٰ وَكَانُوۤاْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } [ الفتح : 26 ] ، فجعل الذين ألزمهم كلمة التقوى من أهل التقوى ، وإن كان المراد من قوله : { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ } ، أي : الله - سبحانه وتعالى - فتأويله أنه أهل أن يتقي الزلة والعثرة في حقوقه تعالى . والوجه فيه أن المرء في الشاهد إنما يتقي الزلة والعثرة إلى آخر ؛ لإحدى خصال ثلاث : إحداها : لما يرى من افتقاره وحاجته إليه ؛ فيتقي العثرة إليه ؛ تبجيلا وتعظيما . أو يتقي زلته ؛ ذلك لما يرى من قدرته وسلطانه على الانتقام منه . أو يتقي زلته ؛ لكثرة نعمه وأياديه ؛ استحياء منه . وإذا كانت هذه الأشياء هي الداعية إلى الاتقاء ، فإن الخلائق بأجمعهم مفتقرون ومحتاجون إلى الله تعالى ، وله القدرة والسطان عليهم ، وهو المنعم المتفضل على كل أحد ، فهو أهل أن يعظم ويوقر ، وأن يخاف نقمته ، ويستحيا منه ، ومن اتقى صار أهلا لأن يغفر [ له ] . وجائز أن يكون معنى قوله - عز وجل - : { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ } ، أي : هو أهل لأن يسأل منه ما يتقي [ به ] من النار بقوله تعالى : { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 131 ] ، وبقوله : { قُوۤاْ أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] ، ثم علمنا وجه الاتقاء بقوله : { رَبَّنَآ آتِنَا فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي ٱلآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ } [ البقرة : 201 ] ، فبين أن الاتقاء أن يفزع إلى الله تعالى ، ويتضرع إليه ؛ ليتقي بفضله ورحمته ، وقال : { إِنَّ ٱلشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَٱتَّخِذُوهُ عَدُوّاً } [ فاطر : 6 ] ، فأمرنا - جل جلاله - بالمناصبة مع الشيطان ؛ للمحاربة ، وأخبر أن محاربته أن نفزع إلى الله - تعالى - بالاستعاذة بقوله - عز وجل - : { وَإِماَّ يَنزَغَنَّكَ مِنَ ٱلشَّيْطَٰنِ نَزْغٌ فَٱسْتَعِذْ بِٱللَّهِ } [ الأعراف : 200 ] ، وقال في آية أخرى : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ ٱلشَّياطِينِ … } الآية [ المؤمنون : 97 ] ، فهو أهل أن يطلب منه ما يتقي به ، وأهل أن يستعاذ به ؛ لدفع كيد العدو . { وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ } ، أي : أهل أن يطلب منه المغفرة ، جعلنا الله - تعالى - من أهل التقوى والذين من عليهم بالمغفرة . وقال بعضهم : { هُوَ أَهْلُ ٱلتَّقْوَىٰ وَأَهْلُ ٱلْمَغْفِرَةِ } ، أي : هو أهل أن يتقي عنه ، وأهل أن يغفر لمن اتقاه ، والله المستعان .