Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 74, Ayat: 38-48)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { إِلاَّ أَصْحَابَ ٱلْيَمِينِ * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ } : أصحاب اليمين هم الذين وصفهم الله تعالى في موضع آخر في كتابه ، وهو قوله - عز وجل - : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ } [ الحاقة : 19 ] ، فاستثنى أصحاب اليمين من جملة المرتهنين ؛ لأنه ذكر الرهون بلفظ يعبر بها عن الجمع ، وهو قوله : { كُلُّ نَفْسٍ } ، فاستقام استثناء الجماعة من تلك الجملة ، أي : أصحاب اليمين قد سبقت منهم الأعمال التي يستوجبون بها الإطلاق عن الحبس ؛ لأن المجرمين صاروا مرهونين بإجرامهم ، وأصحاب اليمين قد اكتسبوا الخيرات ، وعملوا الصالحات ، والأعمال الصالحة جعلها الله تعالى مكفرة للمساوى والإجرام ؛ كقوله : { لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ ٱلَّذِي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ العنكبوت : 7 ] . وقوله - عز وجل - : { فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ } : فظاهر هذا يؤدي إلى أن التساؤل كان من أهل الجنة بعضهم بعضا ، وإذا صدر السؤال عن بعضهم بعضا فحقه أن يقال : " ما سلكهم في سقر " ؛ لأن أهل السقر لم يسألوا ، بل سئل عنهم غيرهم ؛ ألا ترى أنه قال : { عَنِ ٱلْمُجْرِمِينَ } ، ولم يقل : " يتساءلون المجرمون " ؛ فثبت أن الظاهر يقتضي أن يكون المخاطبون غير المجرمين ؛ لذلك قلنا : إن حق مثله أن يقال : " ما سلكهم في سقر " ، لكنه يحتمل أن يكون قوله : { عَنِ } زيادة في الكلام ، وحقه الحذف والإسقاط ، وإذا حذف ارتفع الريب والإشكال ؛ كأنه قال : في جنات يتساءلون المجرمين ؛ فيكون فيه تثبيت أن أهل السقر هم الذين خوطبوا بالسؤال . وجائز أن يكون أهل الجنة يسأل بعضهم بعضا عن مكان المجرمين ، أين مكانهم ؟ وأين هم ؟ فيطلعون عليهم فيسألونهم : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } ؟ فيقولون إذ ذاك : { لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ … } إلى آخر الآية ؛ ألا ترى إلى قوله - عز وجل - : { فَٱطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَآءِ ٱلْجَحِيمِ } [ الصافات : 55 ] ؛ فثبت أنهم يطلعون على أماكنهم ، فإذا رأوهم سألوهم عن ذلك بقوله : { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } ، فأجابوا بما أخبر الله تعالى عنهم بقوله : { لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ … } إلى قوله : { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } . والأصل : أن الأفعال التي يتعلق جوازها بالإيمان إذا أضيفت إلى من ليس من أهل الإيمان ، أريد بها القبول ، وإذا أضيفت إلى أهل الإيمان ، أريد بها أعين تلك الأفعال . والذي يدل على هذا هو أن الكافر يسلك به إلى سقر إذا كان مكذبا بيوم الدين ، وإن أقام الصلاة ، وأطعم المسكين ، لم ينفعه ذلك حتى يوجد منه الإيمان ؛ فثبت أنه لم يرد بذكر هذه الأفعال إتيان أعينها ؛ وإنما أريد بها القبول والإقرار بها ؛ والذي يدل على صحة ما ذكرنا قوله - عز وجل - : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱلله قَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ ٱللَّهُ أَطْعَمَهُ } [ يس : 47 ] ؛ فثبت أنهم جحدوا أن يكون عليهم إطعام ؛ فدل أنه أريد بذكر الإقامة قبولها ، لا وجود عينها ، وعليهم أن يقبلوا إقامة الصلاة ، ويقروا بإيتاء الزكاة ، وقد يجوز أن يذكر إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ويراد به القبول ؛ قال الله تعالى : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، ولم يكن إيجاد الإقامة وإيجاد الإيتاء من شرط التخلية ؛ بل كان معناه على القبول ، فإذا أقروا بالصلاة وقبلوا إقامتها ، وأقروا بالزكاة ، لزم تخلية سبيلهم وإن لم يوجد منهم الفعل بعد ؛ فلذلك صلح حمل التأويل على القبول ، ولم يحمل على وجود حقيقة الفعل ؛ لما ذكرناه . هذا إذا ثبت أن تأويل قوله : { لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ } منصرف إلى الصلاة المعروفة ، فكيف وقد يجوز أن يكون أريد بالمصلين : الموحدين هاهنا ؛ لأن أهل الصلاة هم المسلمون ، يقال : " أجمع أهل الصلاة على هذا " ، ويُعني به المسلمون . ثم الله - عز وجل - جمع في الذكر بين التكذيب بيوم الدين وبين ترك الصلاة وترك الإطعام ، وهذا - والله أعلم - يحتمل وجهين : أحدهما : أن الذي يقر بالصلاة والإطعام وإيتاء الزكاة هو الذي يقر بيوم الدين ؛ لأن المرء إنما يرغب في فعل هذه الأشياء ؛ لما يطمع من المنافع في العواقب ، ويتقي بتركها مخافة التبعة في العواقب ؛ فإذا لم يقر بيوم الدين ، لم يرج المنافع ، ولا خاف المضار ؛ فيحمله ذلك على ترك الإطعام وتضييع الصلاة ، وعلى ترك إيتاء الزكوات ، وعلى جحدها كلها وعدم قبولها ، وهو كقوله - عز وجل - : { أَرَأَيْتَ ٱلَّذِي يُكَذِّبُ بِٱلدِّينِ * فَذَلِكَ ٱلَّذِي يَدُعُّ ٱلْيَتِيمَ * وَلاَ يَحُضُّ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } [ الماعون : 1 - 3 ] ؛ لعدم رجاء العواقب ؛ فإذا لم ير لفعله عاقبة ، لم يقم بالانتصار لليتيم ، ولا قام بالإحسان للمسكين ، بل تكذيبه بيوم الدين يحمله على الجور على اليتيم ، وترك الإحسان إلى المسكين ؛ فلذلك جمع في الذكر بين [ تكذيب ] يوم الدين وبين ترك الصلاة ، وإيتاء الزكاة وترك الإطعام . وجائز أن يكون الذي حملهم على التكذيب بيوم الدين هذه الوظائف التي وظفت عليهم بالإسلام ؛ لأنهم إذا آمنوا بيوم الدين ، لزمهم تحمل هذه الأحمال من إقامة الأفعال ؛ والصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وإطعام المساكين ، وصيام شهر رمضان ، وغير ذلك من العبادات ؛ فاشتد عليهم [ ذلك ] ؛ فتركوا الإيمان بها ؛ لئلا يلزمهم تحمل هذه الأفعال التي حملها أهل الإيمان . وقوله - عز وجل - : { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ ٱلُخَآئِضِينَ } : فالخائض هو الذي يخوض في الباطل . وقوله - عز وجل - : { حَتَّىٰ أَتَانَا ٱلْيَقِينُ } : أي : حتى أيقنا أنا كنا على باطل فيما كنا نخوض فيه . وقوله - عز وجل - : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ ٱلشَّافِعِينَ } معناه : أن لا شفيع لهم ؛ والأصل : أن الشفاعة إذا أضيفت إلى أهل الكفر ، فقيل : ليس لهم شفعاء ، أو لا تنفعهم شفاعة الشافعين ، اقتضى نفي الشفاعة ، أي : لا شفيع لهم . وإذا أضيفت إلى أهل الإيمان اقتضى نفي الانتفاع بشفاعة الشفعاء ، ولم يقتض نفي الشفاعة ؛ كما ذكرنا : أن الأفعال التي يكون قوامها بالإيمان إذا أضيفت إلى الكفار فهي تقتضي نفي القبول ، وإذا أضيفت إلى أهل الإيمان فهي [ تقتضي ] نفي الفعل . وقولنا بأنه إذا قيل : " لا شفيع له " ، وأريد به أهل الإسلام ، فهو يقتضي نفي الانتفاع ، ولا يقتضي نفي الشفاعة - فذلك ينصرف عندنا إلى أهل الاعتزال والخوارج ؛ لأنا نرى أصحاب الكبائر من أهل الإسلام مستوجبين للشفاعة ، وهم يقولون : لا يجوز في حكم الله تعالى أن يعفو عن أصحاب الكبائر ، بل يخلدهم في النار ؛ لأن الله تعالى أوعد النار لمن ارتكب الكبائر ، وأخبر أنهم يخلدون فيها ؛ فلا يجوز أن يقع في وعده خلف ، أو يتحقق في خبره كذب ، ولو استوجبوا الشفاعة ، ونالوا بها المغفرة من رب العزة ، لصار فيما وعد مخلفا ، وفيما أخبر كذوبا ؛ فمثل هؤلاء إذا ارتكبوا الكبائر لا يرجى لهم الخلاص بالشفاعة أبدا ؛ بل يحكم عليهم بالخلود في النار ؛ فيرتفع ما يثبت الكذب وينتفي [ ما يوجب ] خلف الوعد . ولأنهم لما اعتقدوا التخليد في النار لمن ارتكب الكبائر ، وجب أن يكون نفيهم الشفاعة بزعمهم على ذلك ؛ لأن الله تعالى يقول : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ * فَرِيقاً هَدَىٰ وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ ٱلضَّلاَلَةُ } [ الأعراف : 29 - 30 ] ؛ فلا يجوز أن يحق عليهم العذاب ثم لا ينالهم العذاب إذا بعثوا . ثم احتج فريق منهم بنفي الشفاعة في الآخرة بقوله : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } [ الشعراء : 100 ] ، وبقوله : { أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَٰكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 254 ] ، وبقوله : { وَٱتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 123 ] ، وزعموا أن شفيع كل امرئ منهم عمله يومئذ ؛ فمن حسن عمله نجا به ، ومن ساء عمله حق عليه العذاب ، ولم يكن له شافع ، ولو وجب نفي الشفاعة بما ذكر من هذه الآيات الظاهرة ، لوجب تحقيقها بقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ٱرْتَضَىٰ وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] ، وبقوله : { يَوْمَئِذٍ لاَّ تَنفَعُ ٱلشَّفَاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } [ طه : 109 ] ؛ إذ في هاتين الآيتين أن الله تعالى قد يأذن بالشفاعة يومئذ للبعض ؛ فثبت أن ما ذكرتم من نفي الشفاعة ، لم يقتض نفيا على الإطلاق ، بل النفي انصرف إلى بعض الخلائق ، ووجب القول بثبوتها لبعضهم . ثم جاءت الأخبار مفسرة على إيجاب القول بالشفاعة لأهل الكبائر ؛ فثبت أن ما ذكر من قوله - عز وجل - : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } [ الشعراء : 100 ] ، وقوله : { وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 254 ] منصرف إلى أهل الكفر ، وبه نقول . ومن المعتزلة من يحقق الشفاعة ، ولكنه يراها للذين يستوجبون استغفار الملائكة في الدنيا ، وهم الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه : { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فَٱغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُواْ وَٱتَّبَعُواْ سَبِيلَكَ } [ غافر : 7 ] ، فأما أصحاب الكبائر ؛ فإنهم لا تنالهم شفاعة أحد ؛ بل يخلدون في النار . فيقال لهم : فأية منفعة تحصل للذين تابوا واتبعوا سبيله في الشفاعة ، وهم قد استوجبوا الخلاص بتوبتهم ، واتباعهم سبيل الرشاد . فإن قالوا : منفعتهم بها : أنه يعظم قدرهم عند الله تعالى ، ويستوجبون بها فضل الدرجات ؛ كما ترى المرء في الشاهد يذكر أخاه عند الملوك بحسن السيرة ، ويذكره بما فيه من المناقب الجميلة والمحاسن ، ويبتغي بذلك إعلاء منزلته ، وإعظام قدره عندهم ؛ ليعظموه ، ويبجلوه ، فكذلك الشفعاء في الآخرة يثنون عند الله تعالى على أوليائه خيرا ؛ ليزيد في درجاتهم ، وتعظم منزلتهم عند الله تعالى . والجواب أن هذه الزيادة في الدرجات ليست إلا إلى الوصول إلى فضول الشهوات ، وفضول الشهوات والزيادة في اللذات لا تذكر في المنافع ؛ إذ لا حاجة [ لهم ] إلى ما هو في حق الفضول من الشهوات ؛ فيكون في مثالها دفع الحاجة ، والوصول إلى المنفعة ، ومعلوم أنهم إنما طمعوا في الشفاعة ؛ لما يحصل لهم بها من المنفعة وإنما تحصل لهم بها المنفعة إذا وقعت إليها الحاجة ، وأهل الكبائر هم الذين تمسهم الحاجة إليها ؛ فأما الذين تابوا وأنابوا فقد استغنوا عن الشفاعة ؛ لذلك وجب القول بتحقيق الشفاعة في أهل الكبائر . وأما استدلالهم بما ذكروا من أمر الشهود ، فليس بمحكم من القول ؛ لأن المرء إنما يذكر أخاه بالجميل ، ويظهر ما اشتمل عليه من خلال الخير لجهل الملوك بحاله فيما هو عليه من جميل الخصال ، ومحمود الفعال ؛ ألا ترى أن الملك إذا كان عالما بحاله ، لم يقدم الإنسان على نشر الجميل منه ؛ فثبت أن الذي يحوجه إلى الثناء عليه عند الملوك جهل الملوك بحاله ؛ ولا يجوز أن يكون الله تعالى يخفى عليه حال أحد ، وما هو عليه من ظواهر أموره وبواطنها حتى يحتاج إلى معرف يعرفه ؛ فبطل أن تكون الشفاعة للوجه الذي ذكروه ، وثبت أنها للوجه الذي ذكرناه . ثم العفو والصفح عن إحلال العقوبة بمن هموا أن يعاقبوه بجريمة سبقت منه ، ثم الشفاعة فيما بين الخلق أمر معهود أنها تكون عند زلات يستوجب بها العقوبة والمقت ؛ فيعفى عن مرتكبها بشفاعة الأخيار وأهل الرضاء ؛ [ فلا ينكر أن يكون الله تعالى يعفو عمن استوجب العقاب بشفاعة الأخيار وأهل الرضاء ] والأبرار ، والله الموفق .