Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 75, Ayat: 1-15)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ * وَلاَ أُقْسِمُ بِٱلنَّفْسِ ٱللَّوَّامَةِ } ، اختلف في تأويله : فمنهم من ذكر : أنه أقسم الله تعالى بيوم القيامة ، ولم يقسم بالنفس اللوامة ، ذكر ذلك عن الحسن ، ويكون معناه : لأقسم بيوم القيامة ولا أقسم بالنفس اللوامة . لكن ذكر عنه أنه يقول في قوله تعالى : { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ * وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } [ البلد : 1 - 3 ] : إن القسم يقع على البلد [ ووالد وما ولد ، والوالد هو آدم ] عليه السلام ، وما ولد جملة أولاده عليه السلام ، فإذا كان القسم جائزا بالوالد والمولود جميعا ، كانت النفس اللوامة داخلة في جملة المولود فقد أقسم بالنفس اللوامة عنده ؛ فلا معنى للرد هاهنا [ ثم موقع " لا " في قوله : { لاَ أُقْسِمُ } وتأويله - يذكر في قوله : { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } في سورة يذكر فيها الكبد . ومنهم من ذكر أن القسم وقع بهما جميعا ، ولله تعالى أن يقسم بما شاء من خلقه . ثم صرف بعض أهل التأويل معنى القسم إلى قوله تعالى : { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } ، وجعله موضع القسم ، فإن كان على هذا ، فالإشكال عليه أن يقول قائل : كيف أكد أمر البعث ، وجمع العظام بالقسم بيوم القيامة ، وقد جرى من القوم الذين احتج عليهم بهذه الآية الإنكار بيوم القيامة ، فكأنه أكد القسم بشيء جرى به الإنكار ؟ والجواب عن هذا من وجهين : أحدهما : أن يكون القسم منصرفا إلى الحكمة التي توجب القول بالبعث ؛ إذ قد بينا في غير موضع : أنه بالبعث ما خرج خلق هذا العالم مخرج الحكمة ، ولولا البعث ، لكان خلقه عبثا باطلا ، كقوله - عز وجل - : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] ، كأنه قال : لا أقسم بحكمته الداعية إلى كون القيامة كذا أن يكون كذا . وجائز أن يكون القسم في الحقيقة بالدلائل والبراهين التي من تفكر وأمعن النظر فيها ، حمله ذلك على القول بالبعث ، وإذا كان محتملا صح القسم بيوم القيامة وبالنفس اللوامة ؛ لأن التفكر في النفس اللوامة والاعتبار بها يدعو إلى القول بالبعث . ثم العادة جرت على القسم بالأشياء التي عظم خطرها ، وجل قدرها في القلوب ؛ وجلالة خطرها يكون بأحد وجهين : إما بما كثرت منافعها ؛ فيكون خطرها مشاهدا معروفا . أو بعظم خطرها بالدلائل والأخبار ، فالسماوات والأرضون قد عرف الخلق جلالة أقدارهما بالعيان ؛ بما كثرت منافع الخلق بهما . وعظم يوم القيامة بما جل خطره في القلوب ؛ وثبت القول بكونه بالدلالات والبراهين . ثم قد وصفنا أن الله - تعالى - أقسم بأشياء ؛ لتأكيد ما يعرف بيانه ويجب القول به لولا القسم لو أمعن النظر فيه ؛ وأعملت فيه الروية ؛ لذلك استقام القسم بها ، والله أعلم . واختلف في النفس اللوامة : قال بعضهم : النفس اللوامة هي النفس الكافرة ، تلوم ربها في الدنيا أبدا في تضييق العيش عليها ، وتشكو ربها من الفقر والإقتار عليها ، مع كثرة نعم الله عليها وإحسانه إليها . ومنهم من صرف التأويل إلى كل نفس مؤمنة كانت أو كافرة ، فهي تلوم غيرها ؛ لتعاطيها أشياء قد تعاطت نفسه مثلها ، وامتحنت بها ، والحق على كل أحد ألا يلوم أخاه بما تعاطى فعلا قد أتى هو ذلك الفعل بعينه أو مثله ، ولكنها أنشئت كذلك لوامة ، كما قال : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ ٱلشَّرُّ جَزُوعاً } [ المعارج : 19 - 20 ] . ومنهم من ذكر أن هذا يكون في الآخرة ، فالكافر إذا أيقن بالعذاب وما حل به من نقمة الله تعالى ندم على ما فرط في جنب الله ، وأدركته الحسرة ؛ فعند ذلك يلوم نفسه ، والمؤمن إذا عاين الثواب يلوم نفسه لما أمسك عن المعصية وتاب ، وأطال المقام في المحراب ؛ وأبصر للعاملين بالطاعة حسن المآب ، وللعاصي نفسه بما شذ منه وغاب ، عند كمال القوة وعنفوان الشباب ، وقال : كيف لم أزدد في العمل ؛ لأزداد في الثواب ! ومنهم من خص الكافر في الآخرة باللوم على نفسه ، وهذا أظهر ؛ لأن المسلم إذا أكرم بالثواب فشكره لذلك يشغله عن اللوم [ على نفسه ] ؛ فلا يتفرغ له . ولأن الله - تعالى - يضاعف له من الحسنات ، ويعطيه من الدرجات زيادة على ما استوجبه بعمله ؛ فضلا منه وإنعاما ، فكيف يلوم نفسه بتقصيرها في العمل ، وهو يعلم أن ما وصل إليه من الكرامات ، لم ينل جملتها بعمله ، بل بفضل الله تعالى وبكرمه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } : فقوله : { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ } وإن خرج مخرج الاستفهام في الظاهر فليس هو باستفهام ؛ ولكنه تحقيق حسبان من الإنسان ؛ فجائز أن يكون [ ما ] حمله على الحسبان هو أن القدرة لا تنتهي إلى هذا في أن تجمع العظام وتؤلف بعد تفتتها وتلاشيها ، فيدفع حسبانه هذا بقوله : { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 79 ] فمن تفكر في النشاة الأولى ، علم أن القدرة تنتهي إلى جمع العظام بعد أن صارت رميما ، وأن الذي قدر على إنشائها لقادر على جمعها بعد تفريقها . وجائز أن يكون حسب أن العظام لا تجمع بعد تفريقها ؛ لأنها لو جمعت بعد التفريق ، لم تكن تفرق بعد أن وجدت مجموعة ؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد لا يقصد إلى نقض ما بنى ؛ ليعيده مرة أخرى إلى الجهة المتقدمة ، ومن فعل ذلك كان عابثا في هدمه ، ولم يكن حكيما ، فإن كان هذا المعنى هو الذي حمله على الحسبان ، فجوابه أن يقال بأن الجمع الأول وقع لمكان المحنة والابتلاء ، والجمع بعد التفريق لمكان الجزاء ؛ فإذا كان الجمع الثاني لغير الوجه الذي وقع [ له ] الجمع في الابتداء ، كان مستقيما صحيحاً ، وإنما يخرج عن حد الحكمة إذا لم تكن الإعادة إلا للوجه الذي وقع الابتداء [ له ] ؛ ألا ترى أن الذي نقض بناءه إذا أعاده لا للوجه الذي كان بني أول مرة ، لم ينكر عليه . وفيما ذكرنا رد قول الباطنية ؛ لأنهم زعموا أن هذه الأنفس تتلاشى وتتلف ؛ فلا تبعث ، وأن البعث يقع على الأنفس الروحانية ، ولو كان كما زعموا ، لم يكن لقوله : { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } معنى ؛ لأن العظام لا تجمع على قولهم بعدما صارت رميمة ؛ فيكون الأمر إذن على ما وقع في حسبان هذا الإنسان ؛ فلا معنى للرد عليه بقوله : { بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } ؛ ألا ترى أن الذي حمله على الإنكار لجمع العظام بعد تفريقها هو أنه لم ير هذا موجودا في الشاهد ، ولو كان الأمر على ما زعمت الباطنية ، لكن الإنكار مدفوعا ؛ إذ وجد النفس الروحانية مبعوثة في الشاهد بعد توفيها ، وقال [ الله ] تعالى : { قُلْ يُحْيِيهَا ٱلَّذِيۤ أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ يس : 79 ] ، فأخبر أن الأنفس التي أنشئت أول مرة هي التي تحيا ، لا غير . وقوله - عز وجل - : { بَلَىٰ قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } : فمنهم من حمل هذه الآية على الابتداء ، وزعم أنه ليس فيها جواب لما يقتضيه قوله - عز وجل - : { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } . ومنهم من ذكر أن قوله : { بَلَىٰ } ، جواب قوله : { أَيَحْسَبُ ٱلإِنسَانُ أَلَّن نَّجْمَعَ } ، فاكتفى بقوله : { بَلَىٰ } بما سبق منه من الدلالات والحجج على القول بالبعث ؛ فاقتصر على قوله : { بَلَىٰ } على الوصل بما تقدم من الدلالات . ومنهم من جعل جوابه في قوله : { قَادِرِينَ عَلَىٰ أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } ، معنى تسوية البنان : هو الجعل من عظم واحد ، مجموعا غير متفرق ، مثل خف البعير ، وحافر الدواب . ووجه الاستدلال : أنهم أقروا بأن الله تعالى قادر على [ أن يسوي ] البنان ؛ لما رأوا التسوية موجودة في الدواب ، ثم الجمع بعد التفريق أظهر وجودا وأيسر فعلا من تسوية البنان ؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد قد يقدر على التأليف والجمع بين أشياء متفرقة ، ويعجز عن تسوية البنان ؛ فإذا كانت التسوية أعسر وجودا من الجمع بعد التفريق ، ثم وصفوا الله تعالى بالقدرة على تسوية البنان ، فكيف أنكروا قدرته على جمع العظام بعد تفريقها ؟ تعالى الله عما يقول الظالمون علوّاً كبيرا ! ! . ومنهم من يقول بأن الله تعالى لما لم يسو بين بنان الإنسان ، وسوى بين بنان الدواب ؛ ليصل إلى الأخذ والإعطاء ، وإلى التقديم والتأخير ، والقبض والبسط ، وأنواع المنافع التي خص بها من نحو ما يملكون بالبنان تسخير الدواب والأنعام ؛ فعلم بالتفريق بين الدواب وبينهم أن البشر هم المقصودون بالمحنة ، وألا يتركهم سدى ، لا يأمرهم ، ولا ينهاهم ، ولا يستأديهم شكر ما أنعم الله عليهم ؛ وقد ائتمر البعض وعصى البعض ؛ فلا بد من دار أخرى للمجازاة ؛ فالنظر في هذا يحمله على القول بالبعث والجزاء . ولأن الاستواء يقع في الابتداء ، والجمع بعد التفريق يكون عند الإعادة ، والعقول تشهد على أن أمر الإعادة أيسر من أمر الابتداء ، فإذا لم يتعذر عليه الاستواء في الابتداء ؛ فأنى يعسر عليه إعادة الجمع مع قدرته على الجمع في الابتداء ؟ ولأنهم لما لم يخلقوا مستوية البنان ، فليعلموا أن في ترك الاستواء حكمة ، ولو كان الأمر على ما قدروا أن لا بعث لكان ذلك يخرج عن حد الحكمة ؛ فيكون فيما ذكر تثبيت البعث والقول بالقدرة على جمع العظام بعد تفرقها ، وتفتتها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { بَلْ يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } : قال أهل التفسير : يؤخر التوبة ، ويقدم المعصية ، ويقول : " سوف أتوب " ، فيأتيه الموت على شر حاله . وعندنا يخرج على وجهين : أحدهما : جائز أن يكون ذكر الإرادة لا على تحقيقها ؛ ولكن من فعل شيئا فعله على الإرادة والاختيار ، فكنى بالإرادة عن الفعل ؛ لأنها تقترن بالفعل ؛ فيكون في ذكرها ذكر الفعل ، وهو كقوله - عز وجل - : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ ص : 27 ] ولم يظن أحد من الكفرة أن السماء والأرض خلقتا باطلاً ، ولكن خلقهما خرج على الحكمة بالبعث والجزاء ، ففي ترك القول بالبعث وصف بأن خلقهما للعب والباطل ، ويؤدي إلى هذا ؛ فيصير كأنهم قالوا ذلك ، وظنوا كذلك ؛ فعلى هذا يحمل الأمر على الظن ، لا أن وجد منهم الظن في الحقيقة ؛ فكذلك إذا فعلوا فعل الفجور ، وكان فعلهم على الإرادة والاختيار ؛ فكأنهم أرادوا أن يفجروا أمامهم ، لا أن كانت الإرادة منهم متحققة لذلك مقصودا . وجائز أن يكون ذلك على تحقيق الإرادة ، وذلك أن للشر والفجور سبلا من سلكها أفضت به إلى أن يستحق اسم الفجور ، وللخير والهدى سبلا من سلكها أفضى به الأمر إلى أن يستحق اسم البر والتقوى ، فإنما صار إلى الفجور وإلى أنواع الشرور بسلوكه ذلك السبيل ، وصار مريدا من هذه الجهة . ثم قوله : { أَمَامَهُ } ، يحتمل وجهين : أحدهما : فيما بقي من عمره ؛ لأنه يترك الاستهداء والاسترشاد ، ويمضي على العادة التي عود نفسه على ذلك من الشرور والضلال . ويحتمل أن يكون الأمام هو يوم القيامة ، ثم قال في موضع : { وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } [ الإنسان : 27 ] بعد ذكر ذلك اليوم بالأمام والوراء جميعا ؛ فيكون قوله : { وَرَآءَهُمْ } ، أي : وراء الأوقات التي خلت ومضت ؛ فعلى اعتبار الإضافة إلى الأوقات الماضية يكون يوم القيامة وراءها ، وعلى اعتبار الإضافة إلى ذلك الفاجر يكون أماما ؛ لأنه يكون أمام هذا الفاجر ؛ فكذلك استقام الوصف بالأمام والوراء جميعا . ثم ذكر الفجور ، ولم يذكر الكفر وإن كان الإنسان الذي يريد أن يفجر أمامه كافرا ؛ لأن في ذكر الفجور تعييراً وتشييناً ؛ إذ هو اسم للتعيير خاصة ، وليس في نفس الكفر تعيير ؛ إذ كل أحد - مؤمنا كان أو كافرا - مؤمن بشيء كافر بشيء ، فالكافر من حيث اسمه لم يصر قبيحا ؛ بل بمعناه ما قبح ؛ فكان الفجور أبلغ في التعيير من الكفر ؛ فسمي به ، والله أعلم . وقال أبو بكر : معنى قوله : { يُرِيدُ ٱلإِنسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } ، أي : يريد أن يعاين يوم القيامة ، ويعلم به أنه متى هو ؟ تفسيره على أثره . قوله - عز وجل - : { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ } ، أي : يريد أن يعلمه بسؤاله متى هو ؟ فأخبر أنها تقوم إذا { بَرِقَ ٱلْبَصَرُ } ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ ٱلْقِيَامَةِ } سؤاله هذا سؤال تعنت واستهزاء ؛ لما ذكرنا أنه ليس في تعرف وقت كونه مزجر ولا مرغب ، وإنما يقع الزجر والرغبة بتذكير الأحوال التي تكون في ذلك اليوم ؛ فلذلك ذكر الأحوال التي تكون في ذلك اليوم ، ولم يوقفهم على ذلك الوقت متى يكون ؟ إذ ليس في معرفة وقته كثير حكم ، فيجيبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بجواب الحكماء ، لا أن يجيبهم بجواب مثلهم . وقوله - عز وجل - : { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ } : قيل : دهش وتحير ، ثم اختلف بعد هذا : فمنهم من صرف هذا إلى حالة الموت . ومنهم من ذكر أن هذه الأحوال تكون يوم القيامة . وإلى أي الحالين صرف التأويل ، فهو مستقيم ؛ لأن المنكر بالبعث إذا جاءه بأس الله تعالى ، ورأى ما حل به من الأهوال - أيقن بالبعث ، وعلم به . ثم إن كان المراد به حالة الموت ؛ فقوله - عز وجل - : { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ * وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ * وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ * يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } يخرج على التمثيل ، ليس على التحقيق ؛ لأن بصره إذا دهش وتحير ، صار بحيث لا ينتفع ببصر وجهه ، ولا ببصر قلبه ، لا يرى ضوء القمر ؛ فيصير القمر كالمنخسف ، وتصير الشمس والقمر كالمجموعين ، ولا يرى ضوء الشمس ولا نور القمر ؛ فيصير النهار عليه ليلا ، والليل نهارا ؛ شغلا بما حل به من البلايا والأهوال ، وهو كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، والآخرة جنة المؤمن وسجن الكافر " ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " من كره لقاء الله ، كره الله لقاءه ، ومن أحب لقاء الله ، أحب الله لقاءه " فصرفوا تأويل هذين الخبرين إلى حالة الموت ؛ وذلك أن الكافر يعاين في ذلك الوقت ما أوعد من الأهوال والشدائد ؛ فكره مفارقة روحه من جسده ؛ لئلا يقع في تلك الأهوال والشدائد ، وتصير الدنيا له في ذلك الوقت كالجنة ، لا يجب مفارقتها . والمؤمن إذا عاين ما وعد له من البشارات ، وأنواع الكرامات ، ود الخروج من الدنيا ؛ ليصل إلى ما أعد له ؛ فتصير الدنيا عليه كالسجن في ذلك الوقت ؛ فيكون هذا كله على التمثيل من الوجه الذي ذكرنا . وإن كان ذلك على يوم القيامة ، فهو على تحقيق الخسف ، وجمع الشمس والقمر . وقوله - عز وجل - : { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } : يحتمل أن يكون قوله - تعالى - : { أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } ، أي : ليس لي موضع فرار عما حل بي . أو يقول : إلى أين أفر ؟ وإلى من ألتجئ ؛ لأتخلص من العذاب ؟ والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { فَإِذَا بَرِقَ ٱلْبَصَرُ } : قال بعضهم : إذا شخص البصر نحو الداعي يوم القيامة ، وهو كقوله - عز وجل - : { لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ ٱلأَبْصَارُ } [ إبراهيم : 42 ] ، فيشخص ببصره إلى الداعي ؛ لأنه قد علم أن الذي حل به من بأس الله تعالى هو لامتناعه عن الإجابة للداعي في هذه الدنيا ؛ فيسارع يوم القيامة في إشخاص بصره إلى الداعي ؛ ابتدارا منه إلى إجابة الداعي . وقوله - عز وجل - : { وَخَسَفَ ٱلْقَمَرُ } ، أي ذهب ضوءه ونوره ؛ ففيه أن العالم في ذلك اليوم يغير ويبدل ، كقوله - تعالى - : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ وَٱلسَّمَٰوَٰتُ } [ إبراهيم : 48 ] ، وقال : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ ٱلْجِبَالَ وَتَرَى ٱلأَرْضَ بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] ، وقال : { يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً } [ طه : 105 - 106 ] . وقوله - تعالى - : { وَجُمِعَ ٱلشَّمْسُ وَٱلْقَمَرُ } : فيه أن سلطانهما يذهب ؛ فلا يعملان عملهما بعد ذلك . ثم من الناس من زعم أنهما يجمعان يوم القيام كالبعيرين القرينين ، أو كالثورين القرينين ، فيلقيان في النار ، ويعذبان بها . وذكر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه أنكر هذا ، وقال : " إنهما خَلقْان لله تعالى ، طائعان له - عز وجل - ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { وَسَخَّر لَكُمُ ٱلشَّمْسَ وَٱلْقَمَرَ دَآئِبَينَ } [ إبراهيم : 33 ] يدأبان في طاعة الله تعالى ، ومن كان هذا وصفه ؛ فلا يجوز أن يعذب " . وعندنا إن إلقاءهما إن ثبت ، فهما يلقيان في النار ؛ ليعذب بهما غيرهما ، وهم الذين عبدوهما من دون الله تعالى ، وذلك كقوله - عز وجل - : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ } الآية [ الأنبياء : 98 ] ، ومعلوم أن الأصنام التي عبدت من دون الله لا تعذب بالنار ، ولكنها تجعل حصبا ونارا يعذب بها من عبدها ، وقال [ الله ] تعالى : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَٰبَ ٱلنَّارِ إِلاَّ مَلَٰئِكَةً } [ المدثر : 31 ] ، ولا يجوز أن يكون الملائكة يمسهم أذى النار ، بل هم الذين يُعَذِّبُون ؛ فعلى ذلك الشمس والقمر إن ثبت أنهما يلقيان في النار ، فهما يلقيان ؛ ليعذب بهما من عبدهما ، لا أن يعذبا بأنفسهما ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَقُولُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } جائز أن يكون قوله : { أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } على طلب الحيلة أن كيف أحتال إلى أن أفر ؟ وإلى من ألتجئ ؛ لأتخلص من بأس الله وعذابه ؟ ! ويحتمل أن يكون قوله : { أَيْنَ ٱلْمَفَرُّ } ، أي : ليس لي موضع فرار عما حل بي ؛ لإيقانه أن ليس له مفر . وجائز أن يكون هذا كله عند الموت على ما ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ } . ذكر أهل التأويل أن الوزر هو الجبل بلغة حمير . وذكر عن الحسن قال : كانت العرب يخيف بعضها بعضا ، ويغير بعضها على بعض ؛ فكان يكون الرجلان في ماشيتهما فلا يشعران حتى يريا نواصي الخيل ، فيقول أحدهما لصاحبه : الوزر الوزر ، يعني : الجبل ؛ فكأنه يقول : ليس لهما إذ ذاك تفريج ولا تسلٍّ من الأحزان كما يتسلى من يأوي إلى الجبل في الدنيا عن بعض ما يحل به من الأفزاع . وقيل : الوزر : الملجأ . وقوله - عز وجل - : { يُنَبَّأُ ٱلإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } ، فتأويله : أنه ينبأ من أول ما عمل إلى آخر ما انتهى إليه عمله ؛ كقوله : { لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } [ الكهف : 49 ] . وقال بعض أهل التأويل : بما قدم من أنواع الطاعة ، وما أخر من حق الله تعالى من اللوازم التي كانت عليه . وقال بعضهم : بما أعلن ، وأسر . وقال بعضهم : بما قدم في حياته من أعمال ، وما أخر ، أي : ما سن من سنة ، فاستن [ بها ] بعد موته . وقد ذكرنا أنه باللطف من الله تعالى ما يعلم بالذي قدم من الأعمال وأخرها ، فيتذكر بذلك حتى يصير ما كتب في الكتاب حجة عليه ؛ وإلا فالمرء في هذه الدنيا إذا كتب كتابا ، ثم أتت عليه مدة ، لم يتذكر جميع ما كتب فيه ، ولا وقف على علم ذلك . وقوله - عز وجل - : { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } : هذا يخرج على وجهين : أحدهما : جائز أن يكون أراد بهذا في الدنيا : أن الإنسان بصير بعمل نفسه ، وإن جادل عنها : أنه لم يفعل ذلك ، وأسر ذلك عن الناس ، { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } ، أي : أرخى الستور بما كسبت نفسه ، والمعذار هو الستر . والوجه الثاني : أن يكون في الآخرة ، وهو يحتمل وجهين : أحدهما : أن الإنسان وإن كان يعتذر يوم القيامة بقوله : { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، وقال : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ ٱللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [ المجادلة : 18 ] ، فيقدمون على الحلف ؛ اعتذارا منهم على العلم منهم أنهم مبطلون في جدالهم . والثاني : أن يكون معنى البصيرة : الشاهد ، أي : أن الإنسان على نفسه شاهد يوم القيامة بسوء أفعاله ، { وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ } ، أي : وإن ستر على نفسه ، شهدت عليه جوارحه ، وذلك نحو قوله - عز وجل - : { ٱلْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَىٰ أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ يس : 65 ] وقوله - عز وجل - : { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ … } الآية [ فصلت : 20 ] . فإن قيل : إن الإنسان مذكر ، كيف وصف بالبصر بلفظة التأنيث بقوله : { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } ، ولم يقل " بصير " ؟ فجوابه من أوجه : أحدها : ما قيل : إن الإنسان تسمية جنسٍ فيه الجماعة ، لا أن يكون تسمية للشخص الواحد فقط ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَٱلْعَصْرِ * إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [ العصر : 3 ] ، استثنى الذين آمنوا من قوله : { إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ } ، ولا يستثنى الجماعة من الواحد ، وكذلك قوله - عز وجل - : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِيۤ أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } [ التين : 4 - 6 ] ، فاستثنى الذين آمنوا من الإنسان ؛ فثبت أن الإنسان تسمية جنس ، والجنس جماعة ، وتكون الجماعة مضمرة فيه ؛ كأنه قال : إن جماعة الناس على أنفسهم بصيرة ؛ فيكون قوله : { بَصِيرَةٌ } راجعا إلى الجماعة ، والله أعلم . وجواب ثان قوله : { بَصِيرَةٌ } وصف للإنسان بالغاية من البصر بكل ما عمل ، حتى لا يعزب عنه شيء ، والهاء قد تدخل في خطاب المذكر عند الوصف بالمبالغة ؛ كقولك : فلان علامة ونسابة ، وراوية للشعر ، وبالغة في النحو . والثالث : أن الإنسان تسمية ما يراه بجوارحه كلها من الأيدي والأرجل والسمع والبصر والرأس وغير ذلك ، وفيها نفس أمارة بالسوء ؛ فتصير جوارحه كلها بصيرة ، أي : شاهدة عليه بما قدم وأخر . وجائز أن يكون هذا على الإضمار ؛ فيكون قوله : { بَلِ ٱلإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } ، أي : نفس الإنسان بصيرة بما عملت . ثم من الناس من يثبت للجوارح العلم بما كسبت نفسه ؛ حتى تصير شاهدة عليه يوم القيامة بقوله : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] ، ولو لم يكن لها العلم بما قدمت نفسه ، لكانت لا تشهد بما لا تعلم . وليس الأمر عندنا على ما زعموا ؛ لأنها لو علمت بذلك ، لكان صاحبها يصل إلى العلم من جهتها ؛ ألا ترى أن القلب لما ثبت له المعرفة ، وقع لصاحبه العلم من جهته ، وكذلك السمع لما حصل فيه السمع ، وقع لصاحبه علم المسموع به ، ولما كان بعينه يبصر الأشياء كان علم البصر واقعا من جهتها ؛ فلما لم يقع له العلم بيديه ، ولا برجليه ، ولا بشيء من جوارحه سوى القلب - علم أنه لا حظ لها في المعرفة ، ولكن جعلت هي شاهدة وحجة يوم القيامة تشهد على صاحبها ، بما يحدث الله تعالى فيها علما ضروريّاً بذلك ، لا أن كان لها علم بالذي شهدت قبل ذلك ، كما جعلت نطوقة في ذلك الوقت ، لا أن كان النطق فيها موجودا من قبل ، والله أعلم .