Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 75, Ayat: 16-19)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } : هذا كلام مبتدأ منفصل عن الأول ، وذكر أهل التأويل أن جبريل - عليه السلام - كان إذا أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم بالوحي ، فكان لا يفرغ من آخر آية حتى يقول نبي الله - عليه السلام - في أولها ؛ مخافة النسيان ، على ما عليه عرف الخلق أنهم إذا أرادوا وعي الكلام وحفظه ، كرروها بألسنتهم ؛ كي يضبطوها ولا ينسوها ؛ فكان النبي - عليه السلام - يفعل ذلك ؛ خشية النسيان ؛ فَنُهِي عن ذلك بقوله : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } ، وهو كقوله : { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] . وهذا عندنا مما لا يجوز أن نشهد على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يحرك لسانه قبل مجيء هذه الآية ، ويستذكره ؛ مخافة النسيان إلا بأخبار متواترة ؛ لأن هذا في حق الشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم [ ولا تجوز الشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ] أنه كان يفعل كذلك إلا بتواتر الأخبار ، فأما أن يثبت بخبر واحد فلا . ولا يقال بأنه لو لم يتقدم منه التحريك ، لكان لا معنى للنهي ؛ فإنه ليس فيه ما يثبت مقالتهم ، ويصحح تأويلهم ، ويسوغ لهم الشهادة ؛ لأنه يستقيم في الابتداء أن ينهى فيقال : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } ، ولا تفعل كذا ، وإن لم يسبق منه ارتكاب ذلك الفعل ، ولا تقدم منه تحريك لسان ؛ فثبت أنه ليس في ضمن هذه الآية بيان ما ادعوا . هذا إذا ثبت أن قوله : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } ، وقوله : { وَلاَ تَعْجَلْ بِٱلْقُرْءانِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَىٰ إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] على النهي ؛ فكيف وهو يحتمل معنى آخر غير النهي ، وهو أن يكون هذا على البشارة له بالكفاية : أن قد كفيت مؤنة الاستذكار للحفظ ، وهذا من عظيم آيات الرسالة أن السورة تلقى عليه ؛ فيحفظها كما هي ، مما يشتد على الناس حفظه وقراءته إلا أن يتكلفوا ، ويجتهدوا في ذلك ؛ فيعلم بهذا أن الله - عز وجل - هو الذي أقدره على ذلك ، وجعله آية من آياته ، والله أعلم . ثم الأصل أن من ألقى إلى آخر كلاما متتابعا ، نظر في ذلك الكلام : فإن كان القصد منه حفظ عين الكلام ، فإن المخاطب به لا ينتظر فراغ المتكلم عن ذلك الكلام ، بل يشتغل بالتقائه وتحفظه ساعة ما يلقى إليه ، كمن ينشد بين يدي آخر شعراً ، وأراد الآخر أن يحفظ ذلك الشعر ويعيه ، فهو لا ينتظر فراغ المنشد عن شعره ، بل هو يأخذ بالتقائه في أول ما يسمع منه ؛ إذ الغرض من الأشعار حفظ أعينها دون معانيها ؛ ألا ترى أن الألفاظ إذا حذفت منها خرجت عن أن تكون شعرا . وأما إذا لم يكن القصد من الكلام ضبط عينه ، وإنما أريد به تفهيم ما أودع فيه من المعنى ، فالعادة في مثله الإصغاء إلى آخر الكلام ؛ ليفهم معناه ، وما يراد به ؛ ألا ترى أن من كتب إلى آخر كتابا فإن المكتوب إليه يقرأ بالكتاب من أوله إلى آخره ؛ ليعرف مراد الكتاب ، لا أن يشتغل بضبط ما أودع فيه من الألفاظ ؛ إذ ليس يقصد بالكتابة إلى حفظ الألفاظ . فإذا كان المراد يتوجه من الكلام إلى ما ذكرنا ، ثم القرآن قصد به الوجهان جميعا : ضبط حروفه ونظمه ، وتعرف ما أودع فيه من المعاني ؛ إذ صار حجة بنظمه ولفظه ، وبالمعاني المودعة فيه - فقيل : لا تعجل بتحريك اللسان كما يفعل من يريد التقاء الكلام الذي يلقى إليه ؛ فإنك وإن أحوجت إلى حفظ نظمه وحروفه ، فقد كفيت حفظه بدون تحريك اللسان . وجائز أن يكون نُهي عن تحريك اللسان والمبادرة إلى حفظه قبل أن يُقضى إليه بالوحي ؛ لما فيه من ترك التعظيم لمن يأتيه بالوحي ، فأمر أن يصغي إليه سمعه ، ويستمع إلى آخره ؛ تعظيما للذي أتاه بالوحي ، وتوقيرا له . ثم هذه الآية تنقض على الباطنية قولهم ؛ لأن من قولهم : إن القرآن لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤلفا منظوما ؛ بل أنزل على قلبه كالخيال ، فصوره بقلبه ، وألفه بلسانه ؛ فأتى بتأليف ، عجز الآخرون عن أن يؤلفوا مثله . ونحن نقول : بل أنزل هذا القرآن مؤلفا منظوما على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن التأليف من فعله ؛ والذي يدل على صحة مقالتنا قوله تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ } ؛ لأن التأليف لو كان من فعله - عليه السلام - لكان لا يوجد منه تحريك اللسان وقتما نزل عليه ؛ لأنه إذا كان كالخيال فهو يحتاج إلى أن يصوره في قلبه ، ثم يصل إلى التأليف بعد التصوير ، وتتأتى له العبارة باللسان ، وإنما يقع التحريك من مؤلَّف منظوم ، ثبت أنه أُنزل هذا مولفٌ منظوم . والثاني : أنه قال : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ ٱلَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَـٰذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } [ النحل : 103 ] ، فهذه الآية نفت طعن أولئك الكفرة الذين زعموا أن هذا ليس بقرآن ، بل إنما علمه فلان ، وكان لسان ذلك البشر أعجميا ، وهذا القرآن عربي ؛ فكيف يستقيم أن يعلمه ذلك البشر ، ولسانه غير هذا اللسان ، ولو كان هذا القرآن وقتما أنزل كالخيال ، لكان ذلك الطعن قائما ؛ لأنه كان يؤلفه ، ويجمعه باللسان العربي ، وإن علم بالأعجمية لما قدر أن يؤلفه ، وينظمه بعد أن كان خيالا باللسان العربي . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } : فقوله : { عَلَيْنَا } يخرج على أوجه ثلاثة : أحدها : أن علينا في حق الوعد جمعه وقرآنه ؛ لأنه قد سبق منا الوعد في الكتب المتقدمة بإنزال هذا القرآن وإرسال هذا الرسول ؛ فعلينا إنجاز ذلك الوعد ووفاؤه . أو علينا في حق الحكمة جمعه ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بتبليغ الرسالة ، ولا يتهيأ له ذلك إلا بعد أن يجمع له فيؤديه إلى الخلق . ولأن الله تعالى حكيم في فعله ؛ ففعله موصوف بالحكمة ، وإن لم نعرف نحن وجه الحكمة في فعله . وجائز أن يكون قوله : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } في حق الرحمة والرأفة على الخلق ، لا أن يكون ذلك حقا لهم قبله تعالى ، وهو كقوله - تعالى - : { وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِٱلَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ … } [ الإسراء : 86 ] إلى قوله : { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [ الإسراء : 87 ] ، فأخبر أنه أبقى القرآن ، ولم يذهب به ؛ رحمة منه على عباده وفضلا . وقوله - عز وجل - { وَقُرْآنَهُ } ، أي : قراءته ، وتسميته : قرآنا ؛ كما قيل في تأويل قوله : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } [ الإسراء : 106 ] ، أي : جعلناه فرقانا . وقوله - عز وجل - : { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ } : أي : جمعناه في قلبك ، أو جمعنا حدوده ، وما أودع فيه من المعاني . أو جمعناه بعد أن فرقناه في التنزيل . وقوله : { فَٱتَّبِعْ قُرْآنَهُ } اتباعه يكون بأوجه : في أن يبلغه إلى الخلق ، ويعلم أمته ، ويتبع حلاله ، ويجتنب حرامه ، وغير ذلك . وقوله : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } : جائز أن يكون قوله : { عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ، أي : بيان ما أنزلناه إليك مجملا ؛ فيكون بيانه في تعريف ما هو بحق الائتمار ، وما هو في حق الجواز ، وما هو في حق التحسين والتزيين ؛ لأن الفرائض لها شعب وأركان وحواشٍ . أو نقول : فيها فرائض ، ولوازم ، وآداب ، وأركان . على هذا ففيه منع تعليق الحكم بظاهر المخرج ؛ لأنه لو كان متعلقا به ، لكان البيان منقضيا بنفس المنزل ؛ فلا يحتاج إلى أن يبين ، وفيه دلالة تأخير البيان عن وقت وقوع الخطاب في السمع . ويحتمل أن يكون قوله - عز وجل - : { عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي : بيان ما هو بحق الكنايات والنتائج منها ، ما هو بحق الأصول والفروع ، وما هو بحق المقصود ، فبين لرسوله - عليه السلام - معنى الأصول والكنايات ؛ ليتعرف به فروعها ونتائجها ، ويبين لمن بعده ممن جاهد في الله حق جهاده ، ويهديه لذلك ، قال الله تعالى : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] . أو يكون قوله : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } في أن نحفظك ونعصمك من الناس ؛ لتمكن من تبليغ ما أنزل إليك إلى الخلق ، وتبين لهم ، والله أعلم . ووجه آخر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى كل من كان شاهدا من الخلائق إلى يوم التناد ، ثم لم يمكن من تبليغ الرسالة إلى كل أحد مما ذكرنا بنفسه ؛ فكأنه ضمن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التبليغ إلى الخلائق كافة بما شاء - جل جلاله - بتسخير الرواة والحفاظ والعلماء ليبلغوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أدى إليهم . أو يكون قوله : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } ، أي : بيان المحق من المبطل ، والولي من العدو ، وذلك يكون يوم القيامة ؛ فيعرف الأولياء بما يجنون من الكرامات ، ويبين للأعداء والمبطلين ما يحل بهم من الحساب وأنواع العذاب .