Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 76, Ayat: 1-4)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } . فـ " هل " و " مَنْ " و " لعل " من الله تعالى واجب ، وحقه أن ينظر أن لو كان مثل هذا الكلام من مستفهم ، ما الذي كان يقتضي من الجواب ؟ فإذا قال الإنسان لآخر : من أظلم ممن افترى على الله كذبا ؟ فجوابه أن يقول : لا أحد أظلم منه ، وإذا قال لآخر : هل أتاك حديث فلان ؟ فحق المجيب أن يقول إن كان قد أتاه حديث فلان : قد أتاني ، وإن كان لم يأته فحقه أن يسأله : كيف كان حديثه ؟ ليعرفه . فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أتاه خبر الإنسان ، فمعنى قوله : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ } ، أي : قد أتى على الإنسان ، وإن لم يكن أتاه ، فحقه أن يسأل حتى يتبين له . وقيل : الإنسان : آدم عليه السلام . ثم لقائل أن يقول : أن كيف قال : قد { أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ ٱلدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } فهو إن لم يكن شيئاً مذكوراً في ذلك الوقت ، لم يكن إنساناً وإذا لم يكن إنساناً لم يأت عليه حين من الدهر ، وهو إنسان ، وإن كان في ذلك الوقت مخلوقا ، فقد صار مذكورا ، وإذا صار مذكورا ، فقد أتى عليه حين من الدهر وهو مذكور ؛ فما معناه ؟ قيل فيه من أوجه : أحدها : أن يكون قوله - عز وجل - : { هَلْ أَتَىٰ عَلَى ٱلإِنسَانِ } أي : على ما منه الإنسان ، وهو الأصل الذي خلق منه آدم - عليه السلام - وهو التراب ، فقال : { لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } على الاستصغار لذلك الأصل ؛ إذ التراب لا يذكر في الأشياء المذكورة ، إلى هذا يذهب أبو بكر الأصم . والوجه الثاني : قيل : قد أتى على الخلق حين من الدهر ، لم يكن الإنسان فيه شيئا مذكورا في تلك الخلائق . والوجه الثالث : قد أتى عليه حين من الدهر ، ولم يكن مذكورا في الممتحنين ، وهذا في كل إنسان ؛ لأنه ما لم يبلغ ، لم يجر عليه الخطاب ، ولم يكن مذكورا في الممتحنين ؛ فالله تعالى [ خلق الخلائق ليعبدوه بقوله : ] { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، فقوله : { لِيَعْبُدُونِ } إذا صاروا من أهل المحنة ، فإلى أن يبلغ قد أتى عليه حين من الدهر ، لم يكن مذكورا في جملة من خلقوا للعبادة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } ، والإنسان لم يكن إنسانا في النطفة ، ولا في العلقة ، ولا في المضغة ؛ ولكن المقصود من إنشاء النطفة والعلقة هذا الإنسان ، والعواقب في الأفعال هي الأوائل في القصد والمراد ؛ فاستقام إضافته إلى ما ذكرنا ؛ لما رجع إليه القصد من إنشائها . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا أردت أمرا فدبِّرْ عاقبته ، فإن كان رشدا فأمضه ، وإن كان غيّاً فانته " ؛ فألزم النظر في العواقب ؛ فثبت أن المقصود من فعل أهل التمييز العاقبة ؛ وإذا كانت العاقبة مقصودا إليها في الابتداء صارت العاقبة كالموجود في الابتداء ؛ لذلك استقام إضافة الإنسان إلى النطفة والعلقة والمضغة . ثم قوله - عز وجل - : { إِنَّا خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ } منصرف إلى أولاد آدم - عليه السلام - فيكون المعنى من الإنسان أولاده ، ثم ذكر لهم ابتداء أحوالهم وما تنتهي إليه عاقبتهم - وهو الموت - ليتعظوا به ، ويتذكروا . ووجه الاتعاظ : هو أنهم إذا علموا ابتداء أحوالهم ، وعلموا ما ينتهي إليه عاقبتهم ، علموا في الحال التي هم فيها أن أنفسهم في أبدانهم ليست لهم ، بل عارية في أبدانهم ؛ إذ لم يكن منهم صنع في الابتداء ، أو أمانة ، والحق على الأمين أن يقوم بحفظ الأمانة ورعايتها ، وألا يخون صاحبها فيها ، فإن هو خانها ، ولم يتول حِفْظَها - لحقته المسبة والمذمة ، وإن حفظها ورعاها حق رعايتها ، استوجب الحمد والثناء من صاحبها . والحق على المستعير أن يتمتع بالعارية ، وينتفع بها إلى الوقت الذي أذن له ، وألا يضيعها ، فإن ضيعها لحقته الغرامة والضمان بتضييعه إياها ، وكذلك إذا علموا أنها في أبدانهم عارية وأمانة علموا أن عليهم رعايتها واستعمالها في الوجه الذي أذن لهم فيها ؛ لئلا تلحقهم التبعة في العاقبة ، ولا تلزمهم المسبة والمذمة في ذلك [ في الدنيا والآخرة ] ، والله أعلم . والثاني : أن النظر في ابتداء الخلقة ، وإلى ما يصير عند انقضاء الأمر ، يدعو إلى إيجاب القول بالبعث ، وإلى التصديق بكل ما يأتي به الرسل من الأخبار ؛ وذلك لأن التأمل في ابتداء الخلقة يظهر عجيب قدرة الله تعالى ولطيف حكمته ، ويعلم أن الذي بلغت حكمته هذا المبلغ لا يجوز أن يقع قصده من إنشاء الخلق للإفناء خاصة ؛ لخروجه عن حد الحكمة ؛ فيحملهم ذلك على القول بالبعث . ولأن النظر في ابتداء الخلقة ، والنظر إلى ما يرجع إليه بعد الوفاة مما يمنع الافتخار والتكبر ؛ لأن إنشاءه كان من نطفة تستقذرها الخلائق ، ومن علقة ومضغة يستخبثها كل أحد ، وبعد الممات يصير جيفة قذرة ، ومن كان هذا شأنه ، لم يحسن التكبر في مثله ؛ فكان في تذكير أوائل الأحوال وأواخرها موعظة لهم ؛ ليتعظوا ، ويتبصروا ، وتعريف لهم أن التكبر لا يحسن من أمثالهم ؛ فيحملهم ذلك على التواضع وترك الافتخار والتجبر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ } : الأمشاج : الأخلاط ، ثم الأخلاط تقع بوجهين : أحدهما : في اختلاط ماء الرجل بماء المرأة . والثاني : تقع في الأحوال ، وهو أن النطفة إذا حولت علقة لم تحول بدفعة واحدة ؛ بل هي تغلظ شيئا فشيئا ، حتى إذا تم غلظها صارت علقة ، وكذلك العلقة يدخل فيها التغيير شيئا فشيئا ، حتى إذا تم التغيير فيها حالت مضغة ؛ فهذا هو الاختلاط في الأحوال . فمنهم من قال : الأخلاط : الطبائع الأربع التي عليها جبل الإنسان . ومنهم من صرف الخلط إلى الألوان ، فذكر أن ماء الرجل أبيض يخالطه حمرة ، وماء المرأة أحمر يخالطه صفرة . وقوله - عز وجل - : { نَّبْتَلِيهِ } ، أي : بالخير والشر ، والأمر والنهي ، ثم الابتلاء هو الاستظهار لما خفي من الأمور ؛ والله تعالى لا يخفى عليه أمر فيحتاج إلى استظهاره ، ولكنه يبتليه ليظهر للمبتلي ما كان خفيا عليه بفعله وتركه ، وأما الخلق فهم يمتحنون ، ويبتلون ؛ ليظهر لهم ما كان خفيا عليهم ؛ فيكون الابتلاء منصرفا إليهم لا إلى المبتلي والممتَحِن . والثاني : أن الابتلاء لما كان لاستظهار ما خفي من الأمور ، وذلك يكون بالأمر والنهي ؛ فسمي الأمر من الله تعالى والنهي لعباده : ابتلاء ؛ لمكان الأمر والنهي ، لا على تحقيق معنى الابتلاء منه . وقال الحسن : لما صلح أن يضاف الاستخبار إلى الله تعالى وإن كان هو خبيرا عما استخبر ؛ فجائز أن يضاف إليه الابتلاء أيضا ، وإن كان هو بالذي ابتلاه عالما بصيرا ، ولأن الذي يظهر من العبد بعد الابتلاء من الفعل كان غائبا ، فالله - تعالى - يعرفه شاهدا بفعله ، وقبل ذلك كان يعرفه غائبا ؛ لأن معرفة ما يكون أن يعرف قبل كونه غائبا ، وبعد كونه شاهدا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } : أي : جعلنا له سمعا يميز بين ما يؤدي إليه سمعه ، وجعلنا له بصرا يبصر به ما أدى بصر الوجه ؛ ليضع كل شيء موضعه ؛ وذلك هو بصر القلب وسمع القلب ؛ لأنه قد خص البشر بالابتلاء ؛ لمكان بصر الباطن والسمع الباطن ؛ ألا ترى أن البهائم لها بصر الظاهر ، وكذلك السمع . ويحتمل : أي : جعلناه سميعا بصيرا يبصر ما له ، وما عليه ، وما ينفعه ، وما يضره ، ثم أنشأ فيه السمع والبصر ، ولا يعرف كيفية السمع والبصر الذي جعل فيه ، ولا ماهيته ، ولا ممن هو ؟ لطفاً منه ؛ ليعلم أنه منشئ الكيفيات والماهيات ، وأنه يتعالى عن الوصف له بالكيفية والماهية . ثم قال تعالى : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } . يحتمل قوله - عز وجل - : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } أوجها ثلاثة : أحدها : هديناه السبيل ؛ لإصلاح بدنه ومعاشه . أو هديناه السبيل الذي يصلون به إلى استبقاء النسل والتوالد إلى يوم التناد . أو هديناه السبيل الذي يرجع إلى إصلاح دينهم ، وأمر آخرتهم باكتساب المحامد والمحاسن ، ثم قوله : { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } أخبر أنه قد بين لهم السبيل وهداهم إليه ، ثم منهم من يختار الشكر له ، ومنهم من يختار الكفران له ، ثم بين ما أعد للكفور منهم ، وما أعد للشكور ، وهو ما قال : { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } . ثم قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ ٱلسَّبِيلَ } إن كان المراد منه الطريق ؛ فكأنه قال : إنا بينا كلا الطريقين ، فإن سلك طريق كذا واختاره يكون شاكراً ، وإن سلك طريق كذا واختاره يكون كفورا . ثم بين لكل طريق سلكه جزاء وثوابا . ثم قوله - عز وجل - : { إِنَّآ أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاَسِلاَ وَأَغْلاَلاً وَسَعِيراً } : ففيه إنباء أن أيديهم تغل ، ويشدون بالسلاسل ، فلا يتهيأ لهم أن يقوا العذاب عن وجههم . ثم قرئ { سَلاَسِلاَ } ؛ لأنها غير منصرفة ، وقرئ { سلاسلاً } وصرفوه ؛ بناء على أن الأسماء كلها منصرفة إلا نوعا واحدا . وقال الزجاج : السلاسل لا تنصرف ؛ لأنه لا فعل لها ، لكن صرفها هاهنا لأنها من رءوس الآيات . وقيل : لأنه جعله رأس الآية .