Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 76, Ayat: 23-31)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ ٱلْقُرْآنَ تَنزِيلاً } : قيل : فرقنا عليك القرآن تفريقا ، والحكمة في التفريق ما ذكر في آية أخرى في القرآن ، وهو قوله : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ ٱلْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ } [ الفرقان : 32 ] ، فأخبر أن في التفريق تثبيتا ؛ فيكون الناس له أوعى وأعرف بمواقع النوازل منه من أن ينزل جملة واحدة . ثم أضاف التنزيل إلى نفسه هاهنا ، وأضاف إلى جبريل - عليه السلام - في قوله - عز وجل - : { نَزَلَ بِهِ ٱلرُّوحُ ٱلأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ } [ الشعراء : 193 - 194 ] ، وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ الحاقة : 40 ] ، وقال في آية أخرى : { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 6 ] ، فأضافه إلى نفسه ، وقال : { فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } [ البروج : 22 ] . فهذا كله على مجاز الكلام ليس على الحقيقة ؛ فحق كل من ذلك أن يصرف إلى ما إليه أوجه ، وإلى ما يستجيز الناس من التعامل فيما بينهم بذلك الكلام ، فإذا قيل : هذا في اللوح ، فهم به ، وأريد منه : أنه مكتوب فيه ، وقوله - عز وجل - : { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 6 ] معناه : حتى يسمع كلاما يدله على كلام الله تعالى لا أن يكون ذلك كلامه . وأضافه إلى جبريل - عليه السلام - لأنه من فيه تلقاه ، لا أن يكون ذلك كلام جبريل ، عليه السلام . ثم قد ذكرنا الحكمة في إنزال القرآن مفرقا قبل هذا الفصل الكافيَ منه . ثم جائز أن يكون التفريق ؛ لمكان أتباع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، [ ليس ] لمكانه ؛ لأن الله - تعالى - يسر على نبيه حفظه ؛ حتى كان يعي جميع ما ينزل إليه [ جبريل ] - عليه السلام - بما يقرؤه عليه مرة واحدة . وقيل له : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } الآية [ القيامة : 16 ] ؛ فضمن له الحفظ ؛ فأمن النسيان ، فأما غيره فإنه يشتد عليه أن لو كلفه حفظه بدفعة واحدة ؛ فأنزل مفرقا ، ليكونوا أقدر على حفظه ؛ ولهذا ما كثر حفاظ القرآن في هذه الأمة ، وكثر قراؤها ، وكثر فقهاء هذه الأمة ؛ لأن القرآن أنزل مفرقا على أثر النوازل ؛ فعرفوا مواقع النزول ؛ فوقفوا على معرفة ما أودع في الآيات ؛ لمعرفتهم مواقع النوازل والمنسوخ ، ولو نزل جملة واحدة اشتبه عليهم الناسخ والمنسوخ ؛ فأنزله الله - تعالى - مفرقا ؛ ليكونوا بعلم الناسخ والمنسوخ والله أعلم . ولأنه إذا أنزل مفرقا ، كانوا إليه أشوق ، وأرغب منه إذا أنزل جملة واحدة ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَيَقُولُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ … } الآية [ محمد : 20 ] ، فأخبر أنهم يرغبون إلى أن تنزل عليهم سورة ، وإن كانوا قد أنزلت إليهم سورة من قبل . وفيه - أيضا - تخويف للمنافقين ؛ كما قال الله - تعالى - : { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } [ التوبة : 64 ] ؛ فكان في إنزاله مفرقا ما ذكرنا من الفوائد والمنافع للمؤمنين ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَٱصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ } . فيه أنه ابتلاه بما تكرهه نفسه ، ويشتد عليها ، حتى دعاه إلى الصبر ؛ لأن المرء لا يدعى إلى الصبر على النعم واللذات ، وإنما يدعى إليه إذا ابتلي بالمكاره البليّات ، وقد صبر - عليه السلام - على المكاره ؛ لأنه أمر بمضادة الجن والإنس ؛ فانتصب لهم حتى آذوه كل الأذى ، وهموا بقتله . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ ءَاثِماً أَوْ كَفُوراً } : كأنه قال : ولا تطع من دعاك إلى ما تأثم فيه ، أو يكون كفورا . أو لا تجب الآثم أو الكفور إلى ما يدعوك إليه . وقوله - تعالى - : { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ } : يحتمل : واذكر باسم ربك . أو صل باسم ربك ؛ كقوله : { وَذَكَرَ ٱسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ } [ الأعلى : 15 ] . أو يقول : اذكر اسم ربك ، أي : كن ذاكرا له في كل وقت . وقوله - عز وجل - : { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } : البكرة : تحتمل صلاة الصبح ، والأصيل : يحتمل صلاة الظهر والعصر . وقوله - عز وجل - : { وَمِنَ ٱللَّيْلِ فَٱسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } : تحتمل صلاة الليل النوافل إن كان قوله : { وَٱذْكُرِ ٱسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } في صلاة الفرائض ، وإن لم يكن في ذلك ؛ فيكون كأنه قال : واذكر ربك في كل وقت بالليل والنهار . أو يقول : فليكن اسم ربك مذكورا ؛ حتى لا تخلو ساعة من هذه الساعات إلا وهو مذكور فيها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ هَـٰؤُلاَءِ يُحِبُّونَ ٱلْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } : حب العاجلة مما طبع به الخلائق ؛ لأن كل طبع على حب الانتفاع والتمتع بالشيء ؛ فلا يلحقهم الذم بحب ما طبعوا عليه وأنشئوا ، ولكن إنما يلحق الذم من أحب الدنيا واختارها وآثرها على غير الذي جعلت الدنيا وأسست ؛ فالدنيا إنما أسست ، وجعلت ؛ ليكتسب بها نعيم الآخرة والحياة الدائمة اللذيذة ؛ فمن أحب لهذا ، فهو لا يلحقه بذلك ذم ، ولا تعيير ؛ ومن أحبها وآثرها لها ، واكتسبها لها ، فهو المذموم ، وأولئك كانوا مختلفين في ذلك ، لم يكونوا على فن واحد . منهم من حمله حبه الدنيا على إنكار وحدانية الله - تعالى - وألوهيته . ومنهم من حمله حبه إياها على تكذيب الرسل والتعادي لهم ، ومكابرة الحق . ومنهم من حمله حبه إياها على إنكار البعث والجزاء لما عملوا . ومنهم من حمله حبه الدنيا على التفريق بين الرسل ، أنكروا بعضا ، وصدقوا بعضا . تولد من حبهم إياها ما ذكرنا ؛ فلحقهم الذم لذلك ، وكذلك ما ذكر من الإنفاق في الدنيا حيث قال : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ … } الآية [ آل عمران : 117 ] ، فمن أنفق [ من ] هذه الدنيا لها ؛ فتكون نفقته ما ذكر ؛ لأنه أنفق لغير ما جعلت له النفقة ؛ فكان ما ذكر ؛ فعلى ذلك من أحب الدنيا ، واختارها للدنيا لا لاكتساب ما ذكرنا من النعم اللذيذة الدائمة والحياة الباقية التي لا انقطاع لها ، كان على ما ذكر . ثم إذا ذكرت الدنيا ذكرت الآخرة وراءها ، وإذا ذكرت الآخرة على أثر ذكر الإنسان قيل : أمامه ؛ لأن الإنسان يقبل إليها ؛ فيكون ذلك أمامه وقدامه ؛ وأما عند ذكر الدنيا قيل : وراءها ؛ لأنها تخلفها ، وكل من خلف آخر يكون بعده ووراءه ؛ لأنه يكون عند فوت الآخر ؛ لذلك كان ما ذكر . وقوله - عز وجل - : { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } : رجع إلى الاحتجاج عليهم لما أنكروا ، يقول : يعلمون أنا خلقناهم بدءا ، ونحن شددنا أسرهم ؛ أي : قوتهم . أو نحن : شددنا خلقتهم ، ونحن وصلنا جوارحهم المتفرقة ومفاصلهم المتشتتة بعضها إلى بعض ، ونحن نبدل أمثالهم إن شئنا ، فما بالهم ينكرون قدرتنا على البعث والإعادة بعد الموت ؟ ! يقول : من قدر على ما ذكر لا يعجزه شيء ، وهو على البعث أقدر . وقوله - عز وجل - : { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } : يذكر بعد هذا إن شاء الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ } ، يحتمل { هَـٰذِهِ } ، أي : هذه السورة ؛ لأنه ذكر في أولها ابتداء إنشائهم وخلقهم ، وآخرها إعادتهم ، وفي خلال [ ذلك ] جزاء صنيعهم الذي صنعوا ؛ فيكون في ذلك تذكرة لهم . ويحتمل قوله : { إِنَّ هَـٰذِهِ تَذْكِرَةٌ } ، أي : الأنباء التي ذكرت في القرآن ، أو هذه المواعظ تذكرة لما لهم وما عليهم ، أو تذكرة لما لله عليهم ، وما لبعضهم على بعض . وقوله - عز وجل - : { فَمَن شَآءَ ٱتَّخَذَ إِلَىٰ رَبِّهِ سَبِيلاً } : هذا يخرج على وجهين : أحدهما : يقول : قد مكن كلا أن يتخذ سبيلاً إلى ربه ، أي : لا شيء يمنعه [ عن اتخاذ السبيل إلى ربه إذا شاء ، لكن من لم يتخذ إنما لا يتخذ ؛ لأنه لم يشأ ] أن يتخذ سبيلا ؛ وإلا قد مكن له ذلك . والثاني : يقول : من شاء اتخاذ السبيل ، فليتخذ السبيل إلى ربه ، على ما يذكر على الاستقصاء بعد هذا ، إن شاء الله تعالى . ثم [ قوله - تعالى - ] : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } : يقول - والله أعلم - : من شاء اتخاذ السبيل إلى ربه لا يتخذ إلا أن يشاء الله أن يتخذ السبيل إلى ربه ، فعند ذلك يتخذ ، وهذا على المعتزلة لأنهم يقولون : إن الله تعالى قد شاء لجميع الخلائق أن يتخذوا إلى ربهم سبيلا ، لكنهم شاءوا ألا يتخذوا إلى ربهم سبيلا ؛ فلم يتخذوا ، وقد أخبر أنهم لا يشاءون اتخاذ السبيل إليه ، ولا يتخذون إلا أن يشاء الله لهم اتخاذ السبيل فعند ذلك يتخذون ما ذكر ، ويشاءون . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } : إن الله - تعالى - لم يزل عليما بصنع خلقه من التكذيب له والتصديق ، [ و ] من الطاعة له والمعصية ، أي : على علم منه بصنيعهم أنشأهم وخلقهم ، حكيما في فعله ذلك وخلقه إياهم على ما علم منهم بكون الآية إنما خلقهم وأنشأهم ؛ لمنافع أنفسهم ولحاجتهم ، لا لمنافع ترجع إليه ، أو لمضار يدفع عن نفسه ؛ فخلقه إياهم وبعثه الرسل إليهم على علم بما يكون منهم من التكذيب والرد لا يخرج فعله عن الحكمة والحق ؛ بل يكون حكيما في ذلك ، وأما من يبعث الرسول في الشاهد ، إلى من يعلم أنه يكذبه ، ويرد رسالته وهديته ، ويستخف به - سفه ليس بحكمة ؛ لأنه إنما يرسل الرسل ويبعث هديته ؛ لمنافع تكون للمرسل ؛ فعلمه بما يكون منه سفه ليس بحكمة ؛ لذلك افترقا . وقوله - عز وجل - : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ } : هذا على المعتزلة - أيضا - لأنه ذكر أنه يدخل من يشاء في رحمته ، وهم يقولون : قد شاء أن يدخل كلا في رحمته ؛ لأنه شاء إيمان كل منهم ، والله تعالى أخبر أنه يدخل من يشاء في رحمته ؛ دل ذلك على أنه لم يشأ أن يدخل في رحمته من علم منه أنه يختار الضلال ؛ ولكن إنما شاء أن يدخل في رحمته من علم منه أنه يختار الهدى ، فأما من علم منه اختيار غيره ، فلا يحتمل أن يشاء ذلك له ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } : أي : وشاء - أيضا - من علم منه الضلال أن يعد له عذابا أليما . وفي حرف ابن مسعود ، وأبي وحفصة - رضي الله عنهم - : { يختص برحمته من يشاء } ، وهذا الحرف تفسير تأويل الآية . ويحتمل أن يكون رحمته هاهنا : هي الهدى وسبيل الله تعالى . ويحتمل أن يكون رحمته هي جنته ؛ سميت : رحمة ؛ لأنه برحمته ما يدخلها أهل الإيمان ، [ والله تعالى أعلم بالصواب ] .