Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 77, Ayat: 16-28)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } : جائز أن يكون ذكر هذا ؛ ليدفع عنهم الإشكال والريب الذي اعترض لهم في أمر البعث ؛ لأن الأعجوبة في الإعادة ليست بأكثر من الأعجوبة في الإنشاء والابتداء ، فذكر ابتداء خلقهم ؛ لينتفي عنهم الريب في الإعادة . وجائز أن يكون ذكر خلقهم من الماء المهين ، وهو الماء المستعاف المستقذر ؛ ليدعوا تكبرهم وتجبرهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينقادوا له ، ويجيبوا إلى ما دعاهم إليه . وأخبر أنه خلقهم في الظلمات التي لا ينتهي إليها تدبير البشر ؛ ليعلموا أنه قادر على ما يشاء ، ويعرفوا أنه لا يخفى عليه شيء ؛ فيحملهم ذلك على المراقبة ، وعلى التيقظ والتبصر . وقوله - عز وجل - : { فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } : القرار المكين هو الرحم ، جعله الله - تعالى - قرارا مكينا يتمكن فيه الماء المهين ، فيخلق منه علقة ومضغة ، ويقر فيه إلى الوقت الذي قدر الله تعالى الخروج منه . وقوله - عز وجل - : { فَقَدَرْنَا } ، قرئ : { قَدَّرنا } و { قَدَرنا } ، فـ { قَدَّرنا } ، أي : خلقنا كل شيء منه بقدر ؛ و { قَدَرنا } ، أي : سويناه على ما توجبه الحكمة على الوجوه التي تذكر في قوله - عز وجل - : { وَٱلَّذِي قَدَّرَ فَهَدَىٰ } [ الأعلى : 3 ] . وقوله - عز وجل - : { فَنِعْمَ ٱلْقَادِرُونَ } : أي : أنعم به من قادر ؛ فيخرج مخرج ذكر الآلاء والنعم ، أي : إن الذي فعل بكم هذا هو الله - تعالى - لم يقدر أحد أن يفعل بكم هذا الفعل . وقوله - عز وجل - : { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْوٰتاً } : جائز أن يكون هذا صلة قوله : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ * فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } و { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْوٰتاً } . فيكون في ذكر هذا كله تذكير للآلاء والنعم ، وتذكير القدرة والسلطان والحكمة . فوجه تذكير النعم : أن الله - تعالى - في أول ما أنشأه ، أنشأه نطفة قذرة ، وجعل لها مكانا يغيب عن أبصار الخلق ، ولم يفوض تدبيرها إلى البشر ، وكذلك في الوقت الذي أنشأه علقة ومضغة ، لم يفوض تدبيره إلى أحد من خلائقه ؛ لأنه في ذلك الوقت بحيث يستعاف ويستقذر ، ولا يدفع عنه المعنى الذي به وقعت الاستعافة والاستقذار بالتطهير ؛ فجعل له قرارا مكينا يستتر به عن أبصار الخلائق ، ثم لما أنشأه نسمة ، وسوى خلقه أخرجه من بطن أمه وألقى في قلب أبويه الرقة والعطف ؛ ليقوموا بتربيته وإمساكه إلى أن يبلغ مبلغا يقوم بتدبير نفسه ومصالحه ، ثم جعل له بعد مماته أرضا تكفته وتضمه إلى نفسها ؛ فيستتر بها عن أبصار الناظرين ؛ إذ رجع بعد موته إلى حالة تستعاف وتستقذر ولا تقبل التطهير ؛ فكان في ذكره أول أحواله إلى ما ينتهي إليه تذكير النعم ؛ ليصل إلى أداء شكره . أو جعل الرحم قرارا له في وقت كونه نطفة وعلقة ومضغة ؛ لما لا يعرف الخلائق أنه بم يغذى حتى ينمو ويزيد ؟ فرفع عنهم مؤنة التربية في ذلك الوقت ، ثم إذا صار بحيث يعرف وجه غذائه ، وعرف الخلق المعنى الذي يعمل في دفع حاجته ، أخرجه من بطن الأم ، وفوض تدبيره إلى أبويه ؛ فهذا وجه تذكير النعم ، وفي ذكره ذكر القوة والسلطان والحكمة ، وهو أن الله تعالى جعل النطفة التي أنشأ منها النسمة ، بحيث تصلح أن ينشأ منها علقة ومضغة ، ولو أراد الخلائق أن يعرفوا المعنى الذي له صلحت النطفة بأن ينشأ منها العلقة والمضغة والعظام واللحم ، ثم يكون منها نسمة سوية - لم يصلوا إلى معرفته ، وإذا تفكروا في هذا علموا أن حكمته ليست على ما ينتهي إليه علم البشر ولا قوته تقتصر على الحد الذي تنتهي إليه قوى البشر ، والذي كان يحملهم على إنكار البعث بعد الإماتة تقديرهم الأمور على قوى أنفسهم وتسويتها بعقولهم ، فإذا تدبروا في ابتداء أحوالهم ورأوا من لطائف التدبير وعجائب الحكمة ، علموا أن الأمر ليس كما قالوا وقدروا ؛ فيدعوهم ذلك إلى التصديق بكل ما يأتي به الرسل وتخبرهم من أمر البعث وغيره . وجائز أن يكون ذكرهم ابتداء أحوالهم ونشوءهم ، وإلى ما يصيرون إليه ؛ ليدعوا التكبر على دين الله تعالى وينقادوا له بالإجابة ، ولا يستكبروا على أحد من خلائقه ؛ لأنهم في ابتداء أحوالهم كانوا نطفة يستقذرها الخلائق ، ثم علقة ومضغة ، ويصيرون في منتهى الأمر جيفة قذرة ؛ ومن كان هذا وصفه فأنى يليق به التكبر على أحد ؟ ! ثم قوله - عز وجل - : { أَلَمْ نَجْعَلِ ٱلأَرْضَ كِفَاتاً } : تكفتهم ، أي : تضمهم وتجمعهم في حياتهم وبعد مماتهم ، فالانضمام إليها [ في ] حال حياتهم ما جعل لهم من المساكن فيها والبيوت ، وجعل لهم بعد مماتهم مقابر يدفنون فيها ، أو جعل متقلبهم ومثواهم في ظهورها في حياتهم ، وجعل بطنها مأوى لهم بعد وفاتهم ، وجعل ظهرها بساطا لهم ؛ ليسلكوا فيها سبلا فجاجا ؛ وقدر لهم فيها أقواتهم ، فذكرهم وجوه النعم في خلقه الأرض ؛ ليستأدي منهم الشكر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } : الرواسي هي الجبال الثابتات في الأرض أثبتها في الأرض ؛ لتقر بها ، ولا تميد بأهلها ؛ إذ لو مادت لم يصل أهلها إلى ما قدر لهم من المنافع ، فذكرهم بذكره الجبال الرواسي عظيم نعمه عليهم ؛ ليستأدي منهم الشكر . والشامخات : هي الطوال . وقوله - عز وجل - : { وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } : ولولا إنزاله عليكم لم تكونوا تصلون إليه بقواكم وحيلكم ، ثم أنزله من السماء إلى الأرض ، ولم يخرج من حد العذوبة ، ولا حل به التغير بما مسته الأرض ، واختلطت به ، وهذا منصرف إلى الشرب خاصة ، ثم لغير العذب من المنافع ما للعذب إلا الشرب خاصة . وقوله - عز وجل - : { أَلَمْ نُهْلِكِ ٱلأَوَّلِينَ } : وهم قوم نوح - عليه السلام - وقوم عاد وثمود . { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ ٱلآخِرِينَ } : قوم فرعون اللعين وقوم لوط - عليه السلام - وغيرهم . { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِٱلْمُجْرِمِينَ } : قيل : مجرمي هذه الأمة . ثم اختلف في وقت فعله : فمنهم من يقول بأن هذا الإهلاك في الآخرة ، لقوله - عز وجل - : { بَلِ ٱلسَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَٱلسَّاعَةُ أَدْهَىٰ وَأَمَرُّ } [ القمر : 46 ] . ومنهم من ذكر أنه فعل بهم يوم بدر . ومنهم من ذكر أن فعله بمجرمي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " نصرت بالرعب مسيرة شهرين " ، ألقى الله تعالى في قلوبهم الرعب ؛ حتى تركوا الانتداب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه للمحاربة ، ومع كثرة شوكتهم ، وقلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فهذا فعله بالمجرمين ، وفي إلقاءه الرعب ألطف آيات رسالته ، وأبين حجة عليها إذ كان فيه ما ينبههم أن الذي أقعدهم عن القتال ، وقذف في قلوبهم الرعب أمر سماوي لا غير ، والله أعلم .