Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 77, Ayat: 1-15)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً * فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً * وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً * فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً } اختلفوا في تأويلها : فمنهم من حمل تأويل هذا كله على الملائكة . ومنهم من صرفها إلى الرياح . ومنهم من صرف البعض إلى الرياح ، والبعض إلى الملائكة . وجائز أن يجعل هذا كله في الرياح ، ويستقيم أن يصرف كله إلى الملائكة ، ويستقيم أن يجعل البعض في الملائكة والبعض في الرياح . فإن كان في الرياح ، استقام القسم بها ؛ لأن من الرياح رياحا هن مبشرات برحمته ، سائقات للنعم إلى عباده ؛ كقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ ٱلرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ } [ الروم : 46 ] . ومن الرياح رياح [ هي ] منجيات ؛ قال الله تعالى : { هُوَ ٱلَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ حَتَّىٰ إِذَا كُنتُمْ فِي ٱلْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا } [ يونس : 22 ] ؛ فجعل الله تعالى الريح سببا لتسيير السفن في البحار ، كما جعل الماء سببا لذلك ، وجعل منها مهلكات مذكرات لقوته وسلطانه ؛ كما قال - عز وجل - : { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ ٱلرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم } الآية [ الإسراء : 69 ] ، فهي تميتهم وتهلكهم من غير أن يدركوها بأبصارهم ، وإن كانت الأبصار هي أول ما يقع بها درك الأشياء ، ولو أراد أحد أن يعرف الوجه الذي له صارت المنجيات منجيات ، أو يعرف الوجه الذي له صارت الرياح مهلكات ، أو مبشرات - لم يقف عليه ؛ فصارت الرياح مذكرات للنعم ، وفي تذكير النعم إيجاب القول بالبعث ، وبكل ما يخبرهم به الرسل ؛ لأنهم كانوا ينكرون البعث ، ورأوا فيها من لطائف الحكمة وعجائب التدبير ما لا يبلغها تدبيرهم وحكمتهم ، فعلموا أن الأمر غير مقدر بعقولهم ولا بحكمتهم ؛ فيكون في ذكر ما ذكرنا إزاحة ما اعترض له من الشك والشبه في أمر البعث ؛ فأقسم بها - جل جلاله - على ما ذكرنا أن القسم جعل لتأكيد ما يقصد إليه باليمين . فرجعنا إلى قوله : { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } قيل : هي الرياح المبشرات ؛ سميت : عرفا ؛ لأن ما تأتي به من النعم معروفة . وقيل : العرف : المتتابع ، وسمي عرف الفرس : عرفا ؛ لتتابع بعض الشعر على بعض ؛ فجائز أن يكون منصرفا إلى الرياح المبشرة . وكذلك قوله - تعالى - : { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } جائز أن يحمل على الرياح ، لكن على الرياح المُنْشِرَات ، وهي الرياح السهلة الخفيفة ؛ لأن النشر مذكور في رياح الرحمة بقوله : { وهو الذي يرسل الرياح نشراً بين يدي رحمته } في بعض القراءات . وقوله - عز وجل - : { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } هي الرياح الشديدة التي تكسر الأشياء وتقصمها ، وهي التي ترسل للإهلاك ؛ كقوله تعالى : { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ ٱلرِّيحِ } [ الإسراء : 69 ] . وجائز أن يكون قوله : { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } هي اسم الرياح التي لم يظهر أنها أرسلت للهلاك أو للتبشير ؛ لأن الرياح التي ترسل للرحمة يظهر أثر رحمتها من ساعتها من إرسال السحاب ، وغير ذلك قبل أن تتتابع ، وكذلك الرياح التي هي رياح إهلاك يظهر علم الإهلاك من ساعتها ، وهو أن تكون قاصفة شديدة قبل أن تتتابع . وقوله - عز وجل - : { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } . يحتمل الرياح - أيضا - وأنما سميت : فارقات ؛ لأنها تفرق السحاب ؛ فيصير البعض في أفق ، والبعض في أفق أخرى . وقوله - عز وجل - : { فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً } : جائز أن يصرف إلى الرياح ، وإلقاء ذكرها ما ذكرنا : أنه تظهر بها النعم ، وتتذكر ، وتبين بها النجاة ، ويقع ببعضها الهلاك ، فذلك إلقاء ذكرها ، والله أعلم . وإن صرف الكل إلى الملائكة فيحتمل أيضا : فقوله - عز وجل - : { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } ، أي : الملائكة الذين أرسلوا بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . وقوله - عز وجل - : { فَٱلْعَاصِفَاتِ عَصْفاً } ، أي : الملائكة الذين يعصفون أرواح الكفار ، أي : يأخذونها على شدة وغضب . وقوله - عز وجل - : { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } جائز أن يكون أريد بها السفرة من الملائكة ، سموا : ناشرات ؛ لأنهم ينشرون الصحف ، ويقرءونها . وجائز أن يراد بها الملائكة الذين يأخذون أرواح المؤمنين على لين ورفق . وقوله - عز وجل - : { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } جائز أن يراد بها الملائكة ، وسميت : فارقات ؛ لأنهم يفرقون بين الحق والباطل . وقوله - عز وجل - : { فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً } هم الملائكة الذين يلقون الذكر على ألسن الرسل ، عليهم السلام . وإن صرف البعض إلى الملائكة والبعض إلى الرياح ، فمستقيم أيضا . فتكون " المرسلات " : الذين أرسلوا بالمعروف والخير . و " العاصفات " الريح الشديدة ، و " الناشرات " : الرياح الخفيفة السهلة . و " الفارقات فرقا " و " الملقيات ذكرا " : هم الملائكة . ويحتمل وجها آخر : أن يراد بقوله : { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } هم الرسل من البشر الذين بعثوا إلى الخلق ، فما من رسول بعث إلا وهو مرسل بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . وكذلك جائز أن يراد بقوله تعالى : { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً * فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً } هم الرسل ؛ لأنهم يفرقون بين الحق والباطل ، ويلقون الذكر في مسامع الخلق . وجائز أن يكون قوله : { وَٱلْمُرْسَلاَتِ عُرْفاً } هي الكتب المنزلة من السماء ؛ لأنها أرسلت بالمعروف وكل أنواع الخير . وكذا قوله : { وٱلنَّاشِرَاتِ نَشْراً } ، أي : ناشرات للحق والهدى ، وكذا قوله - عز وجل - : { فَٱلْفَارِقَاتِ فَرْقاً } ؛ لأنها تفرق بين الحق والباطل أيضا . وكذلك { فَٱلْمُلْقِيَٰتِ ذِكْراً } ؛ فإنها سبب لذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { عُذْراً أَوْ نُذْراً } : أي : عذراً من الله - تعالى - وهو أن الله - تعالى - أرسل الرسل ، وأنزل الكتب ، وبين الحجج ؛ حتى لم يبق لأحد على الله حجة بعد ذلك ، فهذا هو الإعذار . وقوله - عز وجل - : { أَوْ نُذْراً } ، أي : أنذرهم ، ولم يعجل في إهلاكهم ؛ بل بين لهم ما يتقى ويجتنب ، وما يندب إليه ويؤتى ، فهذا هو الإنذار على تأويل الرياح ما ذكرنا : أنها مذكرات نعم الله تعالى ونقمته ؛ فيكون في ذلك إيجاب ذكر المنعم والمنتقم ؛ فيكون في ذلك إعذار وإنذار ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٌ } . فهذا موضع القسم بما ذكر من المرسلات إلى آخرها . ثم إن كان الموعود هو البعث ، فمعناه : إن الذي توعدون به من البعث لكائن ، وإن كان على الجزاء والعقاب ، فتأويله : إن ما توعدون به من العذاب لنازل بكم ؛ فتكون الآية في قوم علم الله - تعالى - أنهم لا يؤمنون . وقوله - عز وجل - : { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ } . فكأنه - والله أعلم - لما نزل قوله تعالى : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَٰقِعٌ } سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت وقوعه متى يكون ؟ فنزلت : { فَإِذَا ٱلنُّجُومُ طُمِسَتْ } ، فأشار إلى الأحوال التي تكون يومئذ ، لا إلى نفس الوقت ، فقوله : { طُمِسَتْ } ، أي : ذهب ضوءها ونورها ، ثم تناثرت . وقوله - عز وجل - : { وَإِذَا ٱلسَّمَآءُ فُرِجَتْ } : أي : انشقت . { وَإِذَا ٱلْجِبَالُ نُسِفَتْ } . أي : قلعت من أصلها ؛ فسويت بالأرض . وقال الزجاج : نسفت الشيء إذا أخذته على سرعة . وقوله - عز وجل - : { وَإِذَا ٱلرُّسُلُ أُقِّتَتْ } ، وقرئ { وقتت } ، وكذلك أصله ، لكن الهمزة أبدلت مكان الواو ؛ طلبا للتخفيف ، وهو من التوقيت ، أي : جمعت لوقت . وقيل : أحضرت الرسل ؛ ليشهد كل واحد منهم على قومه الذين بعث إليهم ؛ كما قال [ الله ] تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ } [ النحل : 89 ] . وقيل : { أُقِّتَتْ } أي : وعد لهم بيان حقيقة ما إليه دعوا من وقوع ما أوعدوا قومهم الذين تركوا إجابتهم من العذاب ، ووعد لهم الوصول إلى من آمن بالله تعالى وأجاب الرسل فيما دعوهم إليه من الثواب . وقوله - عز وجل - : { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ } : { أُجِّلَتْ } و { أُقِّتَتْ } واحد ؛ لأن في التأجيل توقيتا ، وفي التوقيت تأجيلا ، ثم بين وقت حلول الأجل - أجل العذاب - بقوله - عز وجل - : { لِيَوْمِ ٱلْفَصْلِ } ، أي : ليوم الحكم والقضاء ، قال الله - تعالى - : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } [ طه : 129 ] ، وقال : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } [ فصلت : 45 ] . فجائز أن تكون الكلمة التي سبقت منه هي تأخير الجزاء إلى يوم البعث ؛ فجعل ذلك يوم الجزاء ؛ وذلك يكون بالمعاينة ، وجعل هذه الدار دار محنة وابتلاء ، وذلك يكون بالحجج والبينات ؛ فكأنه قال : لولا ما سبق من كلمة [ الله - تعالى - من تأخير الجزاء والعذاب ، وإلا كان العذاب واقعا بهم في هذه الدنيا بالتكذيب . ويحتمل وجهاً آخر : وهو أن الله - تعالى - أخر ] الجزاء والعقاب إلى اليوم الذي يجمع فيه الأولين والآخرين ، وقدر في هذه الدنيا خلق هذا البشر على التتابع إلى ذلك اليوم ؛ إذ ذلك اليوم هو الذي يوجد فيه الجمع ، والله أعلم . وسمي يوم الفصل لهذا أنه يوم القضاء والحكم ، ولأنه اليوم الذي يظهر فيه مثوى أهل الشقاء وأهل السعادة ، ويفصل بين الأولياء والأعداء ويفصل بين الخصماء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلْفَصْلِ } : أي : لم تكن تدري ، فدراك الله تعالى ؛ ذكر هذا : إما على التعظيم والتهويل لذلك اليوم ، أو على الامتنان على رسوله - عليه السلام - بإطلاعه عليه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } : في هذا دليل على أن الوعيد المذكور على الإطلاق منصرف إلى أهل التكذيب ، ثم لم يذكر ما للمصدقين ، وحقه أن يقال : " طوبى للمصدقين " ؛ لأن حرف " الويل " يتكلم به عند الوقوع في المهلكة ، وحرف " طوبى " يتكلم به في موضع السرور والعطية ، فإذا ذكر في أهل التكذيب حرف الهلاك ؛ كان من كان بخلاف حالهم مستوجبا للسرور ، ولكنه إن لم يذكرها هنا فقد ذكرها في موضع آخر بقوله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَـٰبَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } [ الانشقاق : 7 - 8 ] ، وقال - عز وجل - : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُفْلِحُونَ } [ الأعراف : 8 ] : تقديم وتأخير .