Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 79, Ayat: 1-14)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً * وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } ، اختلف في تأويله : فمنهم من حمل ذلك كله على الملائكة ، فقال : { وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً } هم الملائكة الذين ينزعون أرواح الكفرة ، ويغرقون إغراقا ؛ أي : يشددون في النزع كما يغرق النازع في القوس ، أو يشتد عليه شدة الأمر على الغريق ، أو تنزع أرواح الكفرة فتغرق في النار . قوله - عز وجل - : { وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } ، قيل : أي : ينشط أرواح الكفرة نشطا عنيفا ، أي : تنزع ملائكة العذاب أرواح الكفرة من أجوافهم نزعا شديدا . وقيل : هذا في حق المؤمنين أن الملائكة تنشط أرواح المؤمنين ؛ أي : تحلها حلا رقيقا ، كما ينشط من العقال ؛ فيخبر بهذا عن خفة ذلك على المؤمنين ، ويخبر بالأول عن شدته على الكافر . وقوله - عز وجل - : { وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً } قيل : إن الملائكة يسلون أرواح الصالحين سلا رقيقا . وقيل : الملائكة يسبحون بين السماء والأرض . قوله - عز وجل - : { فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً } ، أي : تسبق الملائكة إلى أرواح المؤمنين . وقيل : { فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً } الملائكة الذين يسبقون بالوحي إلى الأنبياء ، عليهم السلام . وقيل : هم الكَرُوبِيُّون ، الذين لا يفترون عن تسبيح رب العالمين . وقوله - عز وجل - : { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } : هم الملائكة الموكلون بأمور الخلائق وأرزاقهم . ومنهم : من صرف تأويل الآيات إلى النجوم : أنهن النجوم اللاتي يطلعن من مطالعهن لحوائج الخلق ، ولأمور جعلت لها ، ويغربن في مغاربهن ، ثم ينشطن إلى مطالعهن ، فيطلعن منها ؛ أي : لا يطلعن كرها ؛ بل ناشطات لأمر الله - تعالى - إلى ما سخرن له . { وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً } : النجوم أيضا ، وسبحهن : دورانهن في الأفق لأمور ، خفي ذلك على الخلق ؛ لقوله : { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ الأنبياء : 33 ] . وقوله : { فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً } أي : يسبق بعضها بعضا ، أو تسبقن الشياطين بالرجم والطرد ، لا تدعهن يقربون إلى السماء ، وبه قال الحسن ، والله أعلم . ومنهم : من صرف تأويل الآيات إلى مختلف الأشياء ، فقال : { وَٱلنَّازِعَاتِ غَرْقاً } هي القسي ينزعها الإنسان ، فيغرق في نزعها ، { وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } هي الأَوْهاق تنشط بها الدابة تكون منه في جهة . { وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً } : هي السفن . { فَٱلسَّابِقَاتِ سَبْقاً } : هن الخيل . { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } : هي الملائكة ، وبه قال عطاء . ومنهم : من صرفها إلى أنفس المؤمنين وأرواحهم ، فقال : { وَٱلنَّازِعَاتِ } : هي الأنفس التي تغرق في الصدر ، { وَٱلنَّاشِطَاتِ نَشْطاً } حين تنشط من القدمين . وقيل : إن أنفس المؤمنين ينشطن إلى الخروج عن الأبدان إذا عاينوا ما أعد لهم في الجنة . { وَٱلسَّابِحَاتِ سَبْحاً } : هي أرواح المؤمنين ، سميت : سابحات ؛ لسهولة الأمر عليها ، كما يسهل الخروج من الماء لمن يعلم السباحة . وقوله : { فَٱلسَّابِقَاتِ } - أيضا - : هي أرواح المؤمنين ، سميت : سابقات ؛ لما تكاد تسبق فتخرج قبل وقتها ؛ لما تعاين من كرامات الله تعالى وما ينتشر من الخير ؛ يؤيد هذا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " الدنيا سجن المؤمن ، وجنة الكافر " . وقيل : ذلك عند موتة المؤمن إذا حضره الموت صار في ذلك الوقت كالمسجون الذي يتمنى الراحة والخلاص منه ؛ لأنه يرى ما أعد له من الثواب ؛ فتتهوع نفسه تود لو خرجت حتى تصل إلى ما أعد لها من الكرامة ، والكافر إذا رأى عندما حُضِرَ جعل يبتلع نفسه ؛ كراهة أن يخرج ، فتصير الدنيا في ذلك الوقت كالجنة له فيما لا يجب مفارقتها من شدة ما يرى من عذاب الله تعالى . وعلى هذا قيل في تأويل قوله - عليه السلام - : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه " إن ذلك عند الموت [ أن المؤمن إذا حضره الموت ] ورأى ثوابه من الجنة ، ود أن تخرج نفسه ؛ فيحب لقاء الله تعالى ، ويحب الله لقاءه ، والكافر يكره في ذلك الوقت أن تخرج نفسه ، فذلك حين كره لقاء الله ، وكره الله لقاءه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَٱلْمُدَبِّرَاتِ أَمْراً } ، قالوا جميعا : المراد منها الملائكة الموكلون بأمور الخلق وأرزاقهم ، ونحو ذلك ، والله أعلم . ثم اختلف في الذي قصد إليه باليمين والقسم : فمنهم من ذكر أن الذي وقع عليه القسم قوله - عز وجل - : { أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَافِرَةِ } على معنى : إنكم مبعوثون ، وأن القيامة حق ، فكأنه أقسم بهذه الأشياء أنهم لمبعوثون ، وأضمر الجواب هاهنا ؛ لما دل عليه المعنى ؛ فاكتفى به . ومنهم من ذكر أن القصد من اليمين قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ } ، فأقسم بما ذكر أن النفختين كائنتان : فالنفخة الأولى يموت بها الخلق ، والنفخة الثانية ؛ لإحياء الأموات ، والراجفة هي النفخة ، فجائز أن يكون على حقيقة النفخة ؛ فتكون النفخة علامة الموت والحياة ، لا أن تكون علة الإماتة والإحياء . ثم اختلفوا بعد هذا : فمنهم : من يحمله على التحقيق ؛ فيزعم أن النفخة الأولى يهلك بها الخلق ، والنفخة الثانية يحيا بها الخلق . ومنهم من ذكر أن النفخات ثلاث : فالنفخة الأولى ؛ للتفزيع والتهويل ؛ قال الله - تعالى - : { إِنَّ زَلْزَلَةَ ٱلسَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ … } الآية [ الحج : 1 - 2 ] ، والنفخة الثانية يهلك بها الخلق بقوله : { وَيَوْمَ يُنفَخُ فِي ٱلصُّورِ فَفَزِعَ مَن فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَن فِي ٱلأَرْضِ … } الآية [ النمل : 87 ] ، والنفخة الثالثة يحيا بها الخلق بقوله : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَىٰ فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [ الزمر : 68 ] . ومنهم من ذكر أن هذا ليس على تحقيق النفخ ؛ بل على التمثيل ، فمثل به إما لخفة البعث والإحياء على الله - تعالى - وسهولته كخفة النفخ على النافخ . أو مثل به ؛ لسرعته ؛ كما قال تعالى : { وَمَآ أَمْرُ ٱلسَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ ٱلْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] . وقالوا : الرجفة : هي الزلزلة ، والتحرك ، { تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ } وهي الزلزلة الأخرى . ثم إن كان القسم على إثبات البعث ، ففيها ذكر إشارة إلى أحوال البعث وأفعالها ، وإن كان موجفة ، على قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ * تَتْبَعُهَا ٱلرَّادِفَةُ * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } فكأنهم سألوا : كيف تكون القلوب في ذلك اليوم ؟ فقال : تكون واجفة ، والواجفة : الخائفة الوجلة . وقوله - عز وجل - : { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } ، أي : ذليلة . ووجه تخصيص الأبصار والقلوب - والله أعلم - : هو أنه لا يتهيأ لأحد استعمال قلبه وبصره ، بل يحدث للقلوب فِكَرٌ وبدوات لا يمكنه أن يدفع عنها الفكر ، وكذلك هذا في البصر ؛ فيخبر أن ما نزل بهم من الخوف والهيبة يمنع القلوب والأبصار عن عملها ؛ فلا تنظر إلا إلى الداعي ، ولا يحدث للقلوب فكر ، بل تكون الأفئدة هواء ، لا تقر ؛ لشدة ما حل بها [ من الخوف ] ؛ إذ المرء إذا أحزنه أمر فهو يعمل أنواعا من الحيل ويوقع بصره على شيء فشيء ؛ رجاء أن يستدرك ما فيه خلاصه وسلامته من ذلك الأمر ؛ ثم ينقطع عنهم التدبير في ذلك اليوم ؛ فتكون القلوب هواء لا تقر في موضع ، ولا تقف على تدبير ؛ لشدة ما حل بهم ، وتكون الأبصار خاشعة ذليلة إلى ما يدعو الداعي . وقوله - عز وجل - : { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي ٱلْحَافِرَةِ } ، أي : يقولون : أئنا لنرد إلى ما كنا عليه في الدنيا في ابتداء الأمر خلقا جديدا ؛ يقال : أتى فلان فلانا ، فرجع على حافرته ؛ يقول : على مجيئه الأول . ويقال : النقد عند الحافرة ؛ أي : عند أول البيع والكلام ، فقالوا هذا على جهة الإنكار بالبعث والاستهزاء به . قال أبو بكر : هذا مأخوذ من حافر الدابة ، وهو أن الفارس يمكنه أن يصرفها بحافرتها إلى الموضع الذي ابتدأ السير منه من وراء . وقوله - عز وجل - : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } و { ناخرة } ؛ فالناخرة : هي البالية التي لم تفتت بعد ، والنخرة هي التي صارت رفاتا ودرست حتى تنسفها الريح . وقوله - عز وجل - : { قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } ، قال الحسن وأبو بكر : هذا منهم تكذيب للبعث ؛ أي : لا يكون أبدا . وقال غيرهما : معناه : أن لو كانت كرة كما يزعمها المسلمون فهي كرة خاسرة على المسلمين ؛ لأنهم ظنوا أنهم إذا كانوا في الدنيا أنعم حالا وأرغد عيشا ، وكان المسلمون في ضيق من العيش وشدة من الحال - أن يكونوا كذلك في الآخرة ؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] فكانوا يظنون أنهم بما أنعم الله - تعالى - عليهم إنما أنعم ؛ لأنهم أقرب منزلة ، وأعظم درجة من المؤمنين ؛ إذ لا يجوز أن يضيق على أوليائه ، ويوسع على أعدائه ، فإذا وسع عليهم ظنوا أنهم هم المفضلون في الدنيا والآخرة ، وأن من خالفهم هم الأخسرون . ومنهم من قطع هذا الكلام عن مقالة الكفرة ، وزعم أن هذا الوصف راجع إلى الكفرة ، فقيل : خاسرة ؛ لما خسروا أنفسهم وأموالهم وأهليهم ، وخاسرة ، أي : مخسرة . وقوله - عز وجل - : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } ، ففيه إخبار عن سرعة كون ذلك الوقت وسهولته على الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { فَإِذَا هُم بِٱلسَّاهِرَةِ } ، قيل : الساهرة : هي وجه الأرض . وجائز أن يكون أريد بهذا أن العيون تسهر في ذلك اليوم ، ولا يعتريها النوم ؛ بل تكون مهطعة إلى الداعي ذليلة .