Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 79, Ayat: 15-33)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَىٰ } : منهم من يقول : قد أتاك فخوفهم به . وقال الحسن : لم يكن أتاه ، فأتاه بهذا ؛ كما يقول الرجل لآخر : هل أتاك ما فعل فلان ؟ وهو يريد أن يذكره بهذا فيعلمه مع علمه أنه لم يكن علمه من قبل . وقد ذكرنا ما في ذكر الأنباء من الفوائد من تثبيت الرسالة والتخويف لمن أساء صحبة الرسل - عليهم السلام - لئلا ينزل بهم ما نزل بفرعون وأتباعه حين أساءوا صحبة الرسول موسى ، عليه السلام . وقوله - عز وجل - : { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِٱلْوَادِ ٱلْمُقَدَّسِ طُوًى } قيل : طوى : اسم ذلك الوادي . وقيل : سمي : طوى ؛ لأنه بورك مرتين ، مرة حين أتاه إبراهيم عليه السلام ، ومرة بإتيان موسى عليه السلام . وذكر عن الزجاج أن { طِوى } بكسر الطاء الذي بورك مرتين ، ثم أضاف ذلك الحديث مرة إلى موسى ومرة إلى نفسه إذ ناداه ؛ فظاهره : أن الله - تعالى - هو الذي كلمه ، فأضيف إلى الله تعالى ؛ لأن أصله من الله - تعالى - كما ذكرنا في قوله - تعالى - : { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 6 ] ، وفي قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } [ الحاقة : 40 ] . وقوله - عز وجل - : { ٱذْهَبْ إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ } أي : عتا وطغى في نعمه ، فاستعملها في كفران نعمه ؛ فلم يشكر الله - تعالى - بها . وقوله - عز وجل - : { فَقُلْ هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ } ، أي : هل لك في إجابة من إذا أجبت تزكيت ، أو هل لك رغبة إلى ما تزكو به نفسك وتنمو . ثم في هذه الآية دلالة أن من أراد أن يدعو آخر إلى ما فيه رشده وصلاحه ، فالواجب عليه أن يدعوه أولا بالرفق واللين ؛ كما أمر موسى وهارون - عليهما السلام - بقوله : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } [ طه : 44 ] ، وبقوله : { هَل لَّكَ إِلَىٰ أَن تَزَكَّىٰ } ثم إذا ترك الإجابة ختم كلامه بالتعنيف ؛ كما فعل موسى - عليه السلام - بقوله : { وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يٰفِرْعَونُ مَثْبُوراً } [ الإسراء : 102 ] بعد قوله : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ } [ الإسراء : 102 ] . وقوله - عز وجل - : { وَأَهْدِيَكَ إِلَىٰ رَبِّكَ فَتَخْشَىٰ } ، أي : أهديك إلى ربك فتهتدي ، ثم تخشاه إذا اهتديت ؛ أي : عرفت عظمته وجلاله ؛ فتخشى عقوبته ؛ فيكون العلم مثمرا للخشية ؛ ألا ترى إلى قوله : { إِنَّمَا يَخْشَى ٱللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ ٱلْعُلَمَاءُ } [ فاطر : 28 ] . أو أهديك إلى طاعة ربك ، وأنذرك عقابه إذا عصيته ؛ فتخشى ؛ فلا تعصيه . وقوله - عز وجل - : { فَأَرَاهُ ٱلآيَةَ ٱلْكُبْرَىٰ } : منهم من ذكر أن الآية الكبرى هي اليد ؛ سميت : كبرى ؛ لأن سحرهم عمل في الحبال والعصي ، ولم يعمل في اليد ؛ فكانت هذه الآية خارجة عن نوع سحرهم ، فسميت : كبرى ؛ لهذا المعنى . ومنهم من ذكر أن الآية الكبرى هي العصا ؛ لأن غلبة موسى - عليه السلام - على السحرة كانت بالعصا ، حيث تلقفت ما أتوا به من السحر ، ولكن كل آياته كانت كبرى ، كما قال في آية أخرى : { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } [ الزخرف : 48 ] ، فكانت أحداهما أكبر من الأخرى عند ذوي الأحلام والنهى لمن تأمل فيها وتدبر ، والله الموفق . وقوله : { فَكَذَّبَ وَعَصَىٰ } ، أي : كذب بآيات الله ، وعصى نبيه موسى ؛ فلم يطعه . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَىٰ } ، قال الحسن : كان خفيفا طيَّاشاً ، وإلا فالملوك إذا دعوا إلى أمر تدبروا فيه وتفكروا : إما ليجيبوا الداعي إلى ما دعاهم ، أو ليردوا عليه ، فأما الإدبار والسعي فليس إلا من الخفة والطيش . وقال غيره : أدبر عن طاعة الله - تعالى - وتولى عنه ، وسعى في جمع السحرة . أو سعى في جمع من قال لموسى - عليه السلام - : { فَٱجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ } [ طه : 58 ] . وقوله - عز وجل - : { فَحَشَرَ فَنَادَىٰ * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } : ذلك اللعين قد علم أنه ليس برب السماء والأرض ، ولكن قد اتخذ لقومه أصناما فأمر العوام منهم أن يعبدوها ؛ ليقربهم ذلك إليه ، لكن إذا صاروا من خاصته أذن لهم بأن يعبدوه ، وأمر الخواص منهم بعبادته ، فسمى نفسه : أعلى الأرباب ؛ لهذا . وقوله - : { فَأَخَذَهُ ٱللَّهُ نَكَالَ ٱلآخِرَةِ وَٱلأُوْلَىٰ } : منهم من يقول : أخذه بعقوبة الكلمتين جميعا : الكلمة الأولى : قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [ القصص : 38 ] ، والكلمة الثانية : قوله : { أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } . ومنهم من يقول : أخذه بعقوبة ما تقدم من الإجرام وما تأخر إلى أن غرق . ومنهم من يقول : أخذه بالعقوبة في الدنيا والآخرة ، فغرقه في الدنيا ، وعذب روحه بعد مماته بقوله : { ٱلنَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } [ غافر : 46 ] ، ويدخل في النار مع أتباعه بقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاعَةُ أَدْخِلُوۤاْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ ٱلْعَذَابِ } [ غافر : 46 ] ؛ فاتصلت عقوبة الدنيا بعقوبة الآخرة . وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يَخْشَىٰ } : وفي ذلك كله عبرة ، لكن الذي يعتبر بها من يخشى العواقب ، ويخاف عقوبة الله تعالى . وقوله : { ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ } : جائز أن يكون هذا صلة قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ } [ النازعات : 6 ] ؛ فيكون في قوله : { يَوْمَ تَرْجُفُ ٱلرَّاجِفَةُ } . وفي قوله : { ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً } تقرير له أيضا . ثم قوله : { ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ } يحتمل أوجها : أحدها : أن إعادتهم خلقا جديدا وبعثهم أيسر في عقول منكري البعث من خلق السماوات ، وقد أقروا أنه خالق السماء ، فإذا لم يتعذر عليه خلق السماء ، وإن كان خلقها أشد في عقولهم من خلق أمثالهم ، فما بالهم ينكرون بعثهم وإعادتهم إلى ما كانوا عليه ، وذلك أهون في عقولهم . ويحتمل وجها آخر : وهو أن السماء مع شدة خلقها أشفقت على نفسها ، فأبت قبول ما عرض عليها من الأمانة ، وخافت نقمة الله - تعالى - [ فما بال ] هذا الإنسان مع ضعفه يمتنع عن الإجابة إلى ما دعي إليه ؛ أفلا يشفق على نفسه ، ولا يخاف نقمة الله تعالى ، وما خلقت النار والجنة إلا لأجل الإنس ، فيذكرهم بهذا ؛ ليخوفهم ويرتدعوا عما هم فيه من الطغيان ويجيبوا إلى ما دعاهم إليه الرسول . وجائز أن يكون هذا صلة قوله : { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنفَطَرَتْ } [ الانفطار : 1 ] ، و { إِذَا ٱلسَّمَآءُ ٱنشَقَّتْ } [ الإنشقاق : 1 ] ، فيخبر أن السماء مع شدتها وطواعيتها لا تقوم بذلك اليوم ؛ فكيف [ يقوم الإنسان ] لهول ذلك اليوم مع ضعفه ؟ ! فيرجع هذا - أيضا - إلى التخويف . وقوله - عز وجل - : { بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } : { بَنَاهَا } : أي : خلقها ، { رَفَعَ سَمْكَهَا } : سقفها ، { فَسَوَّاهَا } بالأرض ، أو سواها على ما توجبه الحكمة ويدل على الوحدانية . قال إمام الهدى أبو منصور - رضي الله عنه - : ثم لم يفهم أحد من قوله : { بَنَاهَا } ما يفهم من البناء المضاف إلى الخلق ، ولا فهم من الرفع ما يفهم من الرفع المضاف إليهم ، ولا فهم من قوله : { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } ما يفهم من البسط المعروف المنسوب إلى الخلق ، فما بال [ بعض ] الناس فهموا من المجيء الذي أضيف إلى الله تعالى ما فهموا من المجيء الذي يضاف إلى الخلق ، فلولا آفة حلت بهم حملتهم على أن يفهموا منه المعنى المكروه ، وإلا لم تنصرف أوهامهم إلى مثل ذلك . وقوله - عز وجل - : { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا } ، قيل : أظلم ليلها ، { وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } : ففي ؛ إظلام الليل ، وإخراج الضحى ما ينفي عن منكري البعث الشبه التي تعترض لهم ، وذلك أنه يغطش في ساعة لطيفة ويغشى ظلمتها كل شيء ، ثم يتلفها في أدنى وهلة ، ويفنيها كأنها لم تكن ، ثم يعيدها بعدما أتلفها حتى لو أراد [ أحد أن يميز ] بين الأولى والثانية لم يقدر عليه ، بل وقع عنده أن الأولى هي الثانية ، والثانية هي الأولى ، وهذا بعدما تلفت الظلمة الأولى ، وذهبت كلها حتى لم يبق منها أثر ؛ فلأن يكون قادرا على إعادتهم خلقا جديدا بعدما أفناهم ، وقد بقي من آثار الخلق الأول بعضه - أولى . ثم أضاف ذلك إلى السماء ؛ لأن بدأهما يظهر من عندها . وقوله - عز وجل - : { وَٱلأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } قالوا : بسطها : فمنهم من يقول : خلقها مجتمعة ، ثم بسطها بعدما خلق السماوات ؛ ألا ترى أنه قال : { دَحَاهَا } ، ولم يقل : خلقها . ومنهم من ذكر أنه خلق سماء الدنيا أولاً ، ثم خلق الأرضين بعد ذلك ، ثم خلق السماوات الست من بعد . ومنهم من ذكر أنها كانت قبل أن تبسط تحت بيت المقدس ، ثم بسطها بعد ذلك . قال أبو بكر : هذا لا يحتمل ؛ لأنه لا يجوز أن تكون بجملتها وسعتها تحت بيت المقدس ، والله أعلم . ولكن معناه عندنا - إن كان على ما قالوا - [ فهو ] منصرف إلى الجوهر ؛ أي : الجوهر الذي خلق منه الأرض كان هنالك ، لا أن كانت بجملتها تحته ؛ كما خلق هذا الإنسان من النطفة وإن لم يكن بكليته في النطفة ، وخلق من التراب وإن لم يكن بكليته على ما هو عليه في التراب ، وكان معناه : أنه خلق من ذلك الجوهر ؛ فعلى ذلك الحكم فيما ذكره . ومنهم من زعم أن خلقهما كان معا . وذكر عن الحسن أن الأرضين خلقت قبل السماء بقوله : { هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ فَسَوَّٰهُنَّ … } [ البقرة : 29 ] ، وقال في موضع آخر : { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ إِلَى ٱلسَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ } [ فصلت : 11 ] ، وقال : اسم السماء ما ارتفع من الشيء كما يقال للسقف ، سماء ؛ لارتفاعه عن الإنسان . وقوله - عز وجل - : { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا } : ذكر ما أنشأه لنا ؛ لنحمده ، وما أخرج منها للأنعام لتذكير النعم - أيضا - لنشكره ونحمده عليه ؛ إذ الدواب خلقت لنا ، فما رجع إلى منافعها فيهي راجعة إلينا ، إذ بها ما نصل إلى الانتفاع بالدواب . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْجِبَالَ أَرْسَاهَا } ، أثبتها ؛ لئلا تميد بأهلها . وقوله - عز وجل - : { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } : فيه أن ما جعله متاعا لنا قد جعل شيئا من ذلك للدواب أيضا ، والذي جعله للأنعام ، لم يجعل لنا فيه شركاء ؛ وذلك لأن الذي أنشأه لمتاع البشر منه ما يستخبث ويستقذر ، ومنه ما يستطاب ويدخر ، فجعل ما طاب منه للبشر ، وما خبث منه لمنافع الدواب ، والذي أنشأه لمنافع الدواب مما تستخبثه الطباع وتستقذره ، فَفَضَّل أغذية مَنْ فَضَّلَ منازلهم ، ففيما ذكرنا دلالة إباحة التناول من الطيبات ؛ إذ الله تعالى مَنَّ على عباده أن جعل أغذيتهم بما طاب من الأشياء ، وفضلهم على الأنعام ، [ فمن كره ذلك ] فقد كره الانتفاع بما أنشئ للانتفاع ، والله أعلم .