Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 80, Ayat: 1-16)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } ذكر الحسن أن تعبس الوجه والتولي كانا بنفس المجيء على ظاهر الآية ؛ فإنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عنده من عظماء المشركين [ قوم ] يعظهم ويدعوهم إلى الإسلام ، فلما جاءه ابن أم مكتوم يسأله ، أعرض عنه ؛ لمكان أولئك القوم ، وعبس وجهه ؛ رجاء إسلامهم . وذكر غيره من أهل التفسير : أنه عبس وتولى ؛ لما سأله ابن أم مكتوم عما فيه رشده وهداه ؛ فعبس وجهه بقطعه الحديث عليه . ثم هذا التعبس منه - عليه الصلاة والسلام - كان في أمر لو التأم ، ثم وزن ذلك بخيرات أهل الأرض ، لرجح على خيراتهم ومحاسنهم ؛ لأنه ذكر أنه كان مقبلا على رؤساء الكفرة يعظهم ويحرضهم على الإسلام ؛ رجاء أن يسلموا ؛ فيكون في إسلامهم رجاء إسلام كثير من القوم ؛ لأنهم كانوا من علية القوم وعظمائهم ؛ فكان في إسلامهم رجاء إسلام من يتبعهم من قومهم ؛ فيستوجب بإسلامهم من جزيل الثواب وعظم المنزلة ما لا يبلغه آخر بجميع محاسنه ؛ فكان في سؤاله إياه منع ما قصد إليه من إحراز جزيل الثواب وكريم الخصال ، وإذا كان هكذا فتعبس الوجه في مثل هذا الحال أمر سهل لا يستبعد ، ولا يستنكر . والثاني : أن تعبس الوجه على الأعمى ، والإعراض عنه لا يظهر للأعمى ؛ لأنه لا يراه ؛ فلا يعده جفاء ، وكان في إقباله على أولئك القوم وحسن صحبته إياهم رجاء الإسلام منهم ؛ إذ إقباله وحسن صحبته يظهر لهم ، وفي الإعراض عنهم ذهاب ذلك الرجاء وإبداء الجفاء منه إياهم ، ومن آثر الوجه الذي فيه اتقاء الجفاء والدعاء من الشرك إلى الهدى وصلاح الدين والدنيا ، فهو محمود عند ذوي الأحلام والنهى . ولأن إقباله على القوم إذ كان ؛ لمكان دعائهم إلى الإسلام ، وقد أمرنا بدعاء الكفرة إلى الإسلام ، وإن كان في دعائهم إتلاف أنفسنا وأموالنا ، فلأن يسوغ الدعاء من وجه ليس فيه إلا تعبيس الوجه على واحد من المسلمين - أولى ، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم وجد منه هذا النوع من الإيثار ؛ اجتهادا ورأيا ، والأنبياء - عليهم السلام - قد جاءهم العتاب من الله - تعالى - بتعاطيهم أمورا لم يسبق من الله - تعالى - لهم الإذن في ذلك ، وإن كان الذي تعاطوه من الأمور أمورا محمودة في تدبير الخلق ؛ نحو ما عوتب يونس - عليه السلام - وعوقب بمفارقة قومه بغير إذن ، وإن كان مثل تلك المفارقة لو وجدت من واحد من أهل الأرض ، استوجب بها الحمد ، وحسن الثناء ؛ لأن تلك المفارقة لا تخلو من أحد أمور ثلاثة : أحدها : أن قومه كانوا أهل كفر ، وكانوا له أعداء في الدين ؛ ففارقهم ؛ لينجو منهم ، ويسلم له دينه ، ومثل هذا لو وجد من غير الأنبياء - عليهم السلام - عد ذلك من أفضل شمائله . والثاني : أن في مفارقته من بين أظهرهم تخويفا لهم وتهويلاً ؛ لأن القوم [ من قبل ] كان لا يفارقهم نبيهم من بين أظهرهم إلا وقتما يريد أن ينزل بهم العذاب ؛ فكان في مفارقته إياهم تخويفهم وتهويلهم ، فيدعوهم ذلك إلى الانقلاع عما هم عليه من الضلال ، والفزع إلى الله - تعالى - ومن خوف آخر بأمر يكون فيه دعاؤه إلى الهدى وردعه عن الضلال ، فقد أبلغ في النصيحة ، واستقام على الطريقة . والثالث : أنه يفارقهم ؛ ليستنصر بغيرهم [ فينصرونه عليهم ] ، ويتقوى بهم ؛ ليكون على دعائهم إلى الإسلام أمكن وأقدر ، ومن كانت مفارقته من قومه على هذه النية ، فلنعم المفارق هو ، ثم عوتب مع هذا كله ، وذكر الله - تعالى - في الكتاب قصته للوجه الذي ذكرنا ؛ فكذلك الوجه في معاتبة نبينا محمد [ عليه أفضل الصلوات وأكمل التحيات ] . ومنهم من ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقصد إلى تعبس الوجه على ابن أم مكتوم ، ولا تولى عنه عمدا لذلك ، لكن لما قطع عليه حديثه ، وكان فيه قطع رجاء إسلام أولئك القوم ، شق ذلك عليه ، واعتراه من ذلك هم شديد ، أثر ذلك في وجهه ، لا أن كان منه ذلك على القصد . [ ووجه آخر ] أن يقال : إن الله - تعالى - جعل في قلبه صلى الله عليه وسلم من الشفقة والرحمة على العالمين حتى بلغ من شفقته أن كادت نفسه تذهب على من أعرض عن دين الله - تعالى - والإيمان به حسرات عليه ، وحتى قيل له : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] ، وقال : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } [ النحل : 127 ] ، وقال : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] . وتأويله : ألا تحزن بمكانهم كل هذا الحزن ؛ فيكون فيه تخفيف الأمر عليه ، لا أن يكون فيه نهي عن الحزن وعن الحسرة ؛ ولذلك قال : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ } [ التحريم : 1 ] ، ومعناه - والله أعلم - : ألا تحمل نفسك كل هذا التحميل حتى تمتنع عن الانتفاع بما أحل الله لك الانتفاع به ؛ طلبا لمرضاتهن ، لا أن ينهاه عن ابتغاء مرضاتهن ؛ بل قد ندب إلى ابتغاء مرضاتهن بقوله : { ذَلِكَ أَدْنَىٰ أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } الآية [ الأحزاب : 51 ] ، فجائز أن يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتد عليه إعراض أولئك القوم عن الإيمان ، وكبر ذلك عليه حتى تغير لون وجهه ؛ فظهرت عبوسة وجهه ؛ فنزل قوله - تعالى - : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَآءَهُ ٱلأَعْمَىٰ } يبين شدة ما اعتراه من الهم حتى أثر ذلك في وجهه ، لا أن يكون فيه مذمة ومنقصة له . ثم في هذه الآية فوائد أخر : إحداها : جواز العمل بالاجتهاد ؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل هذا النوع من العمل اجتهادا ، لا نصا ؛ إذ لو كان الإذن بالتولي والتعبس سائغا ، لم يكن يعاتب بفعل قد أمر به . فإن قيل : كيف لا تدل المعاتبة على النهي [ عن إقدامه على ] مثله ؛ فيحرم عليه الاجتهاد ؟ قيل له : لو كان هذا نهيا ، لم يكن يعود إلى العمل بالاجتهاد بعد ذلك ، وقد وجد منه - عليه السلام - العود ؛ لقوله : { عَفَا ٱللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ } [ التوبة : 43 ] ، وبقوله : { يٰأَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكَ } [ التحريم : 1 ] ، فثبت أنه ليس فيه نهي . وفيه أن الكافر وإن كان مبجلا معظما في قومه ، فليس على المؤمنين أن يعظموه ويبجلوه ، بل يسترذل ويستخف به ، وأن المسلم ينبغي أن يعظم ويكرم ، وإن كان حقيرا في أعين الخلق . وفيه آية رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ودلالة نبوته ، وأنه لم يختلق هذا الكتاب من عند نفسه ؛ لأن من يتعاطى فعلا حقه الستر ، فهو يستره على نفسه ، ولا يهتك عليها الستر ؛ لئلا يذم عليه ، فلو لم يكن مأموراً بتبليغ الرسالة لكان يجتهد في الستر على نفسه ، ولا يبديه للخلائق ، ولكنه كان رسولا لم يجد من تبليغه إلى الخلق بدّاً ، فبلغه كما أمر . وقوله - عز وجل - : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } ، " لعل " من الله - تعالى - واجب . وقوله : { يَزَّكَّىٰ } ، أي : يتزكى بعمله ونيته وقوله . وفي هذه الآية قضاء بإبطال قول من زعم أن جميع ما في القرآن : { وَمَا يُدْرِيكَ } فهو مما لم يدره ؛ يروى ذلك عن سفيان بن عيينة - رضي الله عنه - وغيره ؛ لأنه قد أدراه هاهنا بقوله : { لَعَلَّهُ يَزَّكَّىٰ } و " لعل " من الله تعالى واجب ، وإذا جعلته واجبا فقد زكاه ، وإذا زكاه فقد علمه النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله - عز وجل - : { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون يتذكر بتذكيرك إياه ؛ فينتفع بتذكيرك . والثاني : أن يتذكر فيما ذكرته من العواقب وما يحق عليه في حاله ؛ فينتفع به ؛ فتكون المنفعة في التأويل الأول بالتذكر بنفس تذكير الرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي التأويل الثاني بتذكيره فيما ذكره النبي صلى الله عليه وسلم . وقوله - عز وجل - : { أَمَّا مَنِ ٱسْتَغْنَىٰ } ، أي : بما اختار هو عما جئت به من الدين . أو استغنى بالذي زين له الشيطان عما جئت به . أو يكون على الغناء المعروف ؛ لأن الذين أقبل عليهم بوجهه كانوا أهل ثروة وغناء ، فأقبل عليهم ؛ رجاء أن يسلموا فيتبعهم أتباعهم في الإسلام ؛ إذ كانوا من رؤسائهم وأجلتهم . وقوله - عز وجل - : { فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّىٰ } ، أي : مقبل عليه بوجهك . وقوله : { وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّىٰ } أي : ليس عليك غير التذكير إذا أعرض عنك وعاداك لم يمكن منه إلحاق ضرر بك ؛ [ بل ] الله يعصمك ، ويدفع عنك شره . وقوله - عز وجل - : { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ } ، أي : يعمل لله - تعالى - ويخشاه ، فجائز أن تكون الخشية علة للسعي ؛ فيكون معناه : أن خشيته هي التي حملته إلى السعي . وقد يجوز أن يخرج الكلام مخرج العطف على جعل أحدهما علة للآخر [ ودليلا للسعي ؛ فيكون معناه : أن خشيته هي التي حملته إلى السعي . وقد يجوز أن يخرج الكلام مخرج العطف على جعل أحدهما علة للآخر ] ودليلا له ، قال الله - تعالى - : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، فكان الإحياء الأول دليلا للإحياء الثاني في موضع العطف والترتيب على الكلام الأول . أو [ أن ] يكون ابتداء ، فقوله : { جَآءَكَ يَسْعَىٰ * وَهُوَ يَخْشَىٰ } لله تعالى ، ويخاف التبعة وحلول النقمة . وقوله - تعالى - : { كَلاَّ } قال الحسن : معناه : أن الذي فعلته من التولي عن المؤمنين والإقبال على الكفرة ، ليس من حكمي . وذكر أبو بكر الأصم : لما نزل قوله : { عَبَسَ وَتَوَلَّىٰ } إلى قوله : { فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّىٰ } تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخاف زوال الرسالة ، وأن يمحي اسمه منها ، فلما نزل قوله : { كَلاَّ } علم أنه لم يودعه ربه ؛ حيث نهاه عن العود إلى مثله . وقال المفسرون : { كَلاَّ } ، أي : لا تعد إلى مثل هذا . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } : جائز أن يكون هذا منصرفا إلى السور كلها . وجائز أن يكون منصرفا إلى هذه السورة ؛ لأن فيها إثبات التوحيد وإثبات الرسالة من الوجه الذي ذكرنا ، ودلالة البعث وآياته أن خلق البشر ليس على العبث ، [ فهي تذكرة لمن يذكر بها ] . أو جائز أن يكون منصرفا إلى الآيات التي قبل هذا في هذه السورة ، وهو أن فيما تقدم في هذه السورة من الآيات تثبيت رسالته بما تقدم ذكرنا له . وجائز أن يقال : إن هذه تذكرة ؛ أي : هذه المعاتبة تذكرة للنبي صلى الله عليه وسلم ولجميع المؤمنين ؛ ليعرفوا من يستوجب التعظيم والتبجيل ، ومن يستوجب إهانته والاستخفاف . وقوله - عز وجل - : { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } ، جائز أن يكون معناه : من شاء الله أن يذكره ، أو ما شاء ذكره ؛ أي : قد مكن كل من التذكير ، وأنه ليس أحد بممنوع ولا مجبور على الفعل ، فمن ترك التذكر ، فهو الذي ضيع ذلك ؛ حيث آثر واختار ضده ، واشتغل بغيره ، وأعرض عن ذكره . وجائز أن يكون على تحقيق الفعل ؛ أي : من تذكر به فهو ذكر له ؛ فكنى بالمشيئة عن الفعل ؛ لما ذكرنا أنها تقترن بالفعل ولا تزايله ؛ فيكون في ذكرها ذكر الفعل . أو يكون على إرادة الفعل قبل وجوده . وقوله - عز وجل - : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } قيل : هي الصحف المتقدمة ؛ كقوله : { إِنَّ هَـٰذَا لَفِي ٱلصُّحُفِ ٱلأُولَىٰ * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ } [ الأعلى : 18 - 19 ] . وقوله : { فَي صُحُفٍ } ، أي : في أيدي الملائكة . وقوله : { مُّكَرَّمَةٍ } ، أي : مكرمة بما يكرمها أهل الكرامة ، وهم السفرة البررة . أو مكرمة على الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { مَّرْفُوعَةٍ } ، أي : مرفوعة القدر ، مطهرة من التناقض والاختلاف . أو مطهرة من أن ينالها أيدي العصاة . أو مطهرة من الأقذار والأدناس . وقوله - عز وجل - : { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } السفرة : الكتبة . وقوله - عز وجل - : { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } أي : كرام على الله تعالى ، بررة في أعمالهم ؛ كما وصفهم الله - تعالى - بقوله : { لاَّ يَعْصُونَ ٱللَّهَ مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] .