Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 80, Ayat: 17-32)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { قُتِلَ ٱلإِنسَانُ مَآ أَكْفَرَهُ } ، قالوا : تأويله : لعن الإنسان . وذكر الحسن والمعتزلة : أن هذا من الله - تعالى - على الشتم والتسمية له بذلك ، واستجازوا الشتم منه . والأصل أن ليس في الشتم إلا ظهور سفه الشاتم وعبثه ؛ إذ لا ضرر يلحق بالمشتوم من جهة الشتم ، وإنما ضرر ذلك الشتم على الشاتم خاصة ، وأما المشتوم فإنما يصير مشتوما بفعله لا بشتم الشاتم ، وجل الله - تعالى - من أن ينسب إليه فعل السفه ؛ فلذلك قلنا : إنه لا يتحقق معنى الشتم في الكلمة التي عرفت شتما فيما بين الخلق إذا جاءت من الله - تعالى - كما لا يحقق من الكلمة التي عرفت اغتيابا فيما بين الخلق إذا جاءت من الله - تعالى - معنى الاغتياب ، بل يحمل ذلك على الردع والتنبيه ؛ فيكون في ذكرها تخويف من خوطب بها ، وتذكر للخلق سفهه وجهله ؛ ألا ترى أن المرء في الشاهد قد يتكلم بما فيه هتك الستر على المخاطب ثم لا يعد ذلك منه اغتيابا ؛ إذا قصد به وعظه وزجره عما هو [ فيه ] ، وأرشده إلى ما فيه صلاح آخرته وأولاه ، فكذلك الله - تعالى - إذا جاء منه ما يعد شتما من غيره واغتيابا ، لم يلحقه وصف الشتم والغيبة ؛ إذ ذلك منه على التذكير والتنبيه للخلق ، وعلى التخويف والتهويل لمن نسب إليه ذلك . وقوله - عز وجل - : { مَآ أَكْفَرَهُ } ، أي : ما أقبح كفره ، وأوحشه ، وأشنعه ؛ لأنه علم أن جميع ما أنعم به من النعيم فمن الله - تعالى - ثم هو لم يشكر نعمه ، ولا أطاعه فيما دعاه إليه ؛ بل وجه شكر نعمه إلى من لا ينفعه ولا يضره ، وعند من لا يسمع ، ولا يبصر ، ولا يغني عنه شيئا ، [ و ] ما هذا إلا غاية الفحش ونهاية القبح . أو ما أوحش كفره وأقبحه بما سوى بين الشكور والكفور ، وبين المفسد والمصلح ، وبين الولي والعدو ، والعقل يوجب التفرقة بينهما ، فهو بإنكاره البعث كابر عقله وعانده ، فما أشد كفر من هذا وصفه . ثم قوله - تعالى - : { مَآ أَكْفَرَهُ } أي : أي شيء أكفره ؟ فيكون في ذكره تعجيب لمن آمن من الخلائق وتذكير لهم عن سوء من هذا فعله وسوء معاملته مع ربه . وقوله - عز وجل - : { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ } فكأنه قال : إن الذي كفر قد علم أنه خلق من نطفة ، وتلك النطفة موات ، لا سمع فيها ولا عقل ، ولا شيء من الجوارح ، ثم الله تعالى بلطفه وعجيب حكمته دبر فيها بصرا يرى بفتحة واحدة ، وفي أدنى وهلة مسيرة خمسمائة عام ، وقدر فيها عقلا يرى به ملكوت السماوات والأرض ، وقدر فيها السمع ، والبصر ، وغيرهما من الجوارح ، أفترى أن من بلغت قدرته هذا يعجز عن إحياء من أماته وعن بعثه بأقل من لحظة . أو يكون قوله : { مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ } تعريفاً منه أنه خلقه من نطفة ، ويكون في ذكره ما ذكرنا من الفوائد . وقوله - عز وجل - : { فَقَدَّرَهُ } ، أي : سواه على وجه يكون فيه دلالة ربوبيته وشهادة وحدانيته . أو قدره على ما فيه صلاحه ومنفعته . أو قدره على [ ما يشاء ] من القصر والطول ، والدمامة والملاحة ، وغير ذلك . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ ٱلسَّبِيلَ يَسَّرَهُ } يحتمل أن يكون المراد من السبيل الدين ، فكأنه يقول : يسر له سبيل درك ذلك السبيل إلى الله - تعالى - على ما ذكرنا أن الدين إذا أطلق أريد به دين الله تعالى ، وكذلك الكتاب المطلق يراد به كتاب الله تعالى ؛ فعلى ذلك : السبيل إذا ذكر مطلقا كان منصرفا إلى سبيل الله تعالى . أو يسر له السبيل : سبيل الهدى ، وسبيل الضلال ، والسبيل الذي لو سلكه نفعه ، والسبيل الذي يضره . أو يسر له السبيل الذي علم الله أنه يختاره ؛ كقوله - تعالى - : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ * وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ … } [ الليل : 5 - 11 ] . أو يسر عليه سبيل الخروج من بطن أمه على ضيق ذلك الموضع وكبر جثته ؛ ليعلموا أن من بلغت قوته هذا فهو قادر على ما أراد ، لا يعجزه شيء ، ولا يخفى عليه أمر . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } ، ففي ذكر هذا ذكر النعم ، وهو أن الله - تعالى - جعل لما يخبث ويتغير كنا يكن فيه ؛ فيستره عن الخلق ؛ لئلا يعافوه ويستقذروه ، لم يجعل ذلك لغيرهم ، وجعل لأنفسهم إذا هم تغيرت [ أجسادهم ] بالموت ، وصارت بحيث تستخبث وتستقذر - كنا تستتر فيها ؛ لتغيب عن الخلق ؛ فلا يتأذوا بها ، فذكرهم هذا ؛ ليشكروه . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } معناه - والله أعلم - : كذلك إذا شاء أنشره ؛ لأن هذا كله إخبار في موضع الاحتجاج ، فكأنه قال : إن الذي خلقه من نطفة وقدره ، ثم أماته فأقبره ، فهو كذلك ينشره إذا شاء ، وكذلك هذا في قوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَٰتاً فَأَحْيَٰكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] ، أي : إن الذي أحياكم ، ثم أماتكم ، فكذلك هو الذي يحييكم . وقوله - عز وجل - : { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } : منهم من ذكر أن هذا الخطاب في كل أحد ، لا ترى إنسانا قضى جميع ما عليه من الأمر على حد ما أمر حتى لا يغفل عنه ولا يقصر فيه ؛ بل من الله - تعالى - على كل أحد في كل طرفة عين نعمة ، لا يتهيأ لأحد أن يقوم بكنه شكرها حتى لا يقع منه في ذلك جفاء ولا تقصير . ومنهم من يقول : هذا في الكفار خاصة ، لا يقضون ما أمروا به من التوحيد . فإن كان على هذا فهو منصرف إلى ابتداء الأمر . وإن كان على الوجه [ الأول ] ، فهو منصرف إلى كنه الأمر ، ويستقيم توجيهه إلى الكافر ، على ما ذكروا ؛ لأن [ إيمان المؤمن له حكم ] التجدد في كل وقت ؛ إذ هو في كل وقت مأمور باجتناب الكفر ، فهو يجتنبه ، فذلك يكون ، وإذا كان كذلك ، ثبت أنه في كل وقت مؤمن ؛ لما أمر به هو مجتنب عما نهي عنه ، فهو بإيمانه راجع عن الزلات في كل حال ، معتقد للوفاء بما أمر به ؛ لذلك كان صرفه إلى الكافر أوجَهُ . وقوله - عز وجل - : { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ إِلَىٰ طَعَامِهِ } كيف قدر له حيث استعمل فيه السماوات ، والأرضين ، والهواء ، والشمس ، والقمر ، والليل ، والنهار ، فاستعمال السماء في إنزال المطر منها ، واستعمال الهواء في جعله مسلكا للمطر ، واستعمال الأرض في جعلها قرارا للمطر وأخرج منها ما فيه قوامهم ومنافعهم ؛ فيكون في ذكر هذا فوائد : إحداها : في موضع التعريف للخلائق : أن منشئ السماوات والأرضين ، ومنشئ الخلق والشمس والقمر - واحد ؛ لاتصال منافع بعض ببعض ؛ إذ لو لم يكن كذلك ، لكان لمنشئ السماء أن يمنع منافع السماء عن خلق منشئ الأرض . و [ الثانية : ] فيه تذكير قوته وعجيب حكمته ؛ ليعلموا أنه قادر على كل ما يريد فعله ؛ لا يضعف عن ذلك ، ولا يعجزه شيء ؛ لأنه جمع بين منافع ما ذكرنا مع تناقضها واختلافها في نفسها ، فجعلها من حيث المنافع متسقة متفقة ، وجعل كل واحدة منهن كالمتصلة بالأخرى ، المقترنة بها مع بعد ما بينهما ، فمن قدر على الاتساق بين الأشياء المختلفة ، وقدر على الوصل بين الأشياء المتباعدة بعضها عن بعض - لقادر على إحياء الأموات والبعث . و [ الثالثة : ] ذكرهم هذا ليبين لهم حكمته وعلمه ؛ ليعلموا أنه لا يخلق الخلق عبثا ، ولا يتركهم سدى لا يستأدي منهم الشكر ، ولا يبعثهم ؛ بل ينشئهم ويميتهم فقط ، فيخرج خلقه على ما فيه خروج عن الحكمة ، ولأنه خلق البشر على وجه تمسه الحاجات ، وتمسه الشهوات ، وقدر الطعام على وجه إذا تناول منه دفع حاجته وسكن شهوته ، ولو أراد أحد أن يتدارك المعنى الذي يعمل في دفع الحاجة وتسكين الشهوة ما هو ؟ لم يصل إلى تعرفه ؛ فيؤدي تفكره إلى دفع الشبه والاعتراضات التي تعتريه في أمر البعث وغيره ؛ إذا كانوا يقدرون الأمور على قواهم ويسوونها على ما ينتهي إليه تدبيرهم ، فإذا وجدوا في الطعام معاني هي خارجة من تدبيرهم وقواهم علموا أن ليس الأمر على ما قدروا ؛ فيرتفع عنهم الريب والإشكال ، وكذلك لو أرادوا أن يستخرجوا من الماء المعنى الذي به صلح أن تكون به حياة الأشياء كلها مع اختلاف الأشياء وتفاوتها واختلاف طعومها وألوانها - لم يمكنهم ذلك ؛ فيعلمون أن الذي بلغت حكمته هذا المبلغ قادر على ما يشاء ، فعال لما يريد ، ويكون في النظر فيما ذكر حاجته وافتقاره إلى غيره تبيين أن الله - تعالى - لم ينشئ الخلق لحاجة نفسه ، وإنما خلق لحاجة البشر إليه . وقوله - عز وجل - : { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً * ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً } ؛ ليقر الماء في شقوقها فيصل الخلق إلى الانتفاع به . أو شققناها للنبات ، فأنبتنا فيها حبا وعنبا ، فذكر الحب والعنب ، وأخبر أنه أنبتهما في الأرض ، وهما في الحقيقة غير نابتين في الأرض ، ولكن أخرجهما من أصل هو نابت في الأرض ، فأضافهما إليها لما يرجع الابتداء إليها ، وهو كقوله - تعالى - : { وَفِي ٱلسَّمَآءِ رِزْقُكُمْ } [ الذاريات : 22 ] ، ورزقنا من السماء المطر ، لكن الذي هو رزقنا من الطعام وغيره إنما ينبت في الأرض ، وخرج منها بالقطر من السماء ؛ فأضيف إليه ؛ فعلى ذلك أضيف الحب والعنب إلى ما ذكرنا ؛ للمعنى الذي وصفنا . وقوله - عز وجل - : { وَقَضْباً } القضب : هي الرطبة ، سميت : قضبا ؛ لأنها تقضب ، وتقطع مرة بعد مرة . { وَزَيْتُوناً } في ذكر الزيتون ما ذكرنا من الفائدة ، وهي أن الزيتون ألين الأشياء نَبَتَ أصله في الجبال التي هي أصلب الأرض ، فمن قدر على إخراج ألين الأشياء عن أصلب الأشياء لقادر على الإنشاء والبعث ؛ إذ من قدر على أن يخرج ألين الأشياء من أصلب الأشياء لقادر على أن يلين القلوب القاسية حتى تلين لذكر الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { وَحَدَآئِقَ غُلْباً } الحدائق هي البساتين التي أحدقت بالأشجار وأحاطت بها ، والغلب : الغلاظ ؛ يقال : رجل أغلب ؛ إذا كان غليظ الرقبة ، وقوم غلب الرقاب ، أي : غلاظ ، وقالوا - أيضا - : الغلب الأشجار الكثيفة الطويلة . وقوله - عز وجل - : { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } والأب : الكلأ ، فيخبر أنه أنشأ هذه الأشياء ؛ لتكون متاعا للخلق والأنعام ، لا لمنافع نفسه .