Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 81, Ayat: 15-29)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } : الأشياء التي وقع بها القسم تقتضي أحكاما ثلاثة . أحدها : ما من شيء خلقه الله - تعالى - إلا وفيه دليل وحدانيته ، وآية ربوبيته ، إذا أنعم النظر فيه ، ويثبت علمه وحكمته ، ويدل على قدرته وسلطانه ، وفي تثبيت القدرة والسلطان إيجاب القول بالبعث ، وإيجاب القول بالرسل ، ونهي عن عبادة غير الله ، فلو أنعموا النظر فيها وتفكروا في أمرها ، لأداهم ذلك إلى القول بالبعث ، ودعاهم إلى وحدانية الرب والإقرار بالرسل ؛ فلا يدعون أن معه آلهة أخرى ، ولا كانوا ينكرون البعث ، ولا يكذبون الرسول ؛ فأقسم بهذه الأشياء على التأكيد لحججه ؛ ليعلموا أنه رسول من عنده ، أو أن القرآن من عنده ، أو أن الأوامر من عنده ، أو الرسول من عنده . أو يكون القسم تلقينا من الله - تعالى - لرسوله بأن يقسم لهم بهذه الأشياء ؛ ليزيل عنهم الشبه والشكوك التي اعترضت للكفرة في أمره - عليه السلام - ويدعوهم إلى النظر في حججه وآياته . ثم القسم بما لطف من الأشياء ودق ، وبما كثف وغلظ ، وبما كبر وصغر ، وبما ظهر وخفي ، تنفق كلها في إزالة الشبهة وإثبات التوحيد والرسالة والبعث ، بل الأعجوبة فيما لطف من الأشياء أعظم منها فيما كثف وغلظ ، فأقسم مرة بالكواكب ، ومرة بظلمة الليل وما يضحى ، وبما شاء من خلقه ؛ إذ الخلائق كلها في الشهادة على وحدانيته وإثبات ربوبيته وإثبات علمه وحكمته وقدرته وسلطانه - متفقة . ولأن ما لطف من الأشياء وخفي منها يتصل بما ظهر منها ، فيتضمن ذكر ما خفي منها واستتر ذكر ما ظهر منها ، وفي ذكر ما ظهر منها ذكر منشئها ؛ فيكون القسم في الحقيقة بالله تعالى . ثم اختلف في ( الخنس ) و ( الكنس ) : قال أبو بكر : إن ( الخنس ) هي النجوم تخنس بالنهار ، وتظهر بالليل . وقال الحسن : الخنس : هي النجوم اللاتي يطلعن في مطالعها ويغبن في مغاربها ، و { ٱلْكُنَّسِ } : هي النجوم اللاتي يطلعن في مطالعها [ ثم ] يكنسن ويختفين إلى أن يعدن إلى مطالعهن فيطلعن . وقيل : { بِٱلْخُنَّسِ * ٱلْجَوَارِ ٱلْكُنَّسِ } هي خمس كواكب لهن مجار في السماء يظهرن بالليل ويستترن بالنهار ، وسائر الكواكب ثوابت . ثم قيل : الخنوس والكنوس واحد ، وهو الاختفاء والغروب في مغاربها والدخول فيها . وقيل : الخنوس : الاختفاء ، والكنوس : التأخر ، وكذا قال الفراء : هي النجوم الخمسة تخنس في مجراها ، وترجع . وفي حديث كعب : " فتخنس بهم النار كما تخنس النجوم الخنس " ، أي : تحيد بهم وتتأخر ، والله أعلم . وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال : هي الوحوش اللاتي تخنس من الإنس ، وتكنس في مكانسهن ، وأيما كان فهي كلها دالة على الوجوه التي ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ } قيل : إذا أقبل . وقيل : إذا أقبل وإذا أدبر . وقوله : { وَٱلصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ } : إذا انفجر ، وإذا ارتفع ، وفي إقبال الليل وإقبال النهار تثبيت القدرة والسلطان ؛ وذلك أن ظلمة الليل إذا غشت سترت عن وجوه الأشياء وكشف [ النهار ] عنها الستر ، ولو أراد أحد أن يغطي الأشياء كلها بالحيل والأسباب لم يتمكن منها ، ولو أراد نزع الغطاء عنها ، لم يملك ، فذكرهم هذا ؛ ليعلموا أن من بلغت قدرته هذا لا يعجزه أمر ، ولا يتعذر عليه البعث ؛ بل هو قادر على إحيائهم وبعثهم . وقوله - تعالى - : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } فموضع القسم على هذا ، وعلى قوله - تعالى - : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } . ثم تأويل قوله : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } ، أي : هذا الذي أتاكم به محمد صلى الله عليه وسلم تلقاه عن رسول كريم على ربه ، وهو جبريل - عليه السلام - ثم نسب هاهنا إلى الرسول ؛ لما سمع منه ، ولم يكن من قبله ، وقال في آية أخرى : { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } [ التوبة : 6 ] فسماه : كلام الله ؛ على الموافقة ، أو لما أن ابتداءه يرجع إليه ، لا أن يكون المسموع كلامه ، كما يقال : هذا قول أبي حنيفة رحمه الله ، وهذا قول فلان الشاعر ، وليس الذي سمعته قول من نسب إليه ، ولكن نسب إليه ؛ لأن ابتداءه يرجع إليه ؛ فكذلك سمي : كلام الله ؛ لأنه يدل على كلامه ، ولما يرجع إليه ابتداؤه ، لا أن يكون هو نفس كلامه . وقوله - عز وجل - : { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ } وفي وصفه بالقوة فائدتان : إحداهما : ما ذكرنا أن فيه بيان الأمن عن تغيير يقع فيه من الأعداء من الجن والشياطين والإنس ، يحتجز عنهم بقوته ؛ فلا يتمكنون منه حتى يغيروه ويبدلوه ، ووصفه بالأمانة في نفسه ليأمن الخلق ناحيته . أو وصفه بالقوة على التخويف والتحذير للذين عادوا محمدا صلى الله عليه وسلم فيخبرهم أن معه من يدفع عنه شرهم وكيدهم إن هموا ذلك به . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل - عليه السلام - : " إن الله تعالى وصفك بالقوة فما أثر قوتك ؟ فقال : لما أمرني الله تعالى بإهلاك قوم لوط - عليه السلام - فقلعت قرياتهم ورفعتها بجناح واحد إلى السماء ثم قلبتها " . وليس بنا إلى أن نعرف قوته حاجة ، وإنما بنا الحاجة إلى أن نعرف ما المعنى والحكمة في ذكر قوته ؟ ! . وقوله - عز وجل - : { عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ } : إن كان المراد من العرش : الملك ، فمعناه : عند ذي الملك مكين ؛ أي : ذو قدرة ومنزلة . وقيل : العرش : السرير ، فإن كان كذلك ، فتأويله : أنه مكين عند من له سرير الملك . وقوله - عز وجل - : { مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } قيل : إن جبريل - عليه السلام - رسول إلى الملائكة كما هو رسول إلى الناس ، فإن كان كذلك ففيه إخبار أن الملائكة الذين يعبدها بعض الكفرة يطيعون جبريل - عليه السلام - فيما يأمرهم وينهاهم ، فما بالهم يتركون طاعته والائتمار بأمره ؟ ! . وقوله - عز وجل - : { ثَمَّ أَمِينٍ } ، أي : هم يأتمنونه ، ولا يتهمونه في شيء مما يجيء به إليهم ، فكيف يتهمه هؤلاء فيما يأتي إلى الرسول من الوحي ؟ ! . وقوله : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } منهم من يقول بأن الكفرة نسبوه إلى الجنون حين رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل على صورته فغشي عليه ، وكان يتغير في كل مرة يأتي به جبريل - عليه السلام - بالوحي لون وجهه ؛ فينسبونه إلى الجنون لهذا . ومنهم من يقول : إنما نسبوه إلى الجنون ؛ لأنه أظهر المخالفة لأهل الأرض ، وكان في أهل الأرض الجبابرة والفراعنة الذين من عادتهم القتل والتعذيب لمن أظهر الخلاف لهم ؛ فكان ذلك منه مخاطرة بنفسه وروحه ؛ حيث انتصب لمعاداة من لا طاقة له بهم ، ومن قام بخلاف من لا طاقة له به ، وانتصب لمعاداته ، فذلك منه حمق وجنون في الشاهد ؛ فنسبوه إلى الجنون لهذا . ومنهم من ذكر أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لما ذكرنا ، ولكن شدة سفههم هو الذي حملهم على هذا ؛ فنسبوه إلى الجنون مرة ، وإلى أنه ساحر أخرى ، ومرة قالوا : علمه بشر ، ومرة قالوا : { إِنْ هَـٰذَا إِلاَّ ٱخْتِلاَقٌ } [ ص : 7 ] ؛ فكانوا ينسبونه إلى كل ما ذكرنا ، لا عن بحث منهم في حاله ، ولكن على السفه والعناد ؛ ألا ترى أنهم نسبوه إلى الجنون مرة ، وإلى السحر ثانيا ، وهما أمران متناقضان ؛ لأن الساحر هو الذي بلغ في العلم غايته ، والجنون هو النهاية في الجهل ، ولو كانوا يقولونه عن بحث وتدبر لكانوا لا يأتون بالمختلف من القول ؛ فيظهر جهلهم لمن يريدون صده عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم ، بل كانوا يتفقون على كلمة واحدة ، فيصدرون عنها حتى يقع التلبيس منهم موقعه ؛ فيصلون إلى مرادهم من صد الناس عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم . وكذلك فيما زعموا أنه علمه بشر ، وأنه إفك افتراه ؛ أتوا بالمختلف من القول ؛ لأن اختلافه وافتراءه يثبت أنه عالم بنفسه ، مستغنٍ عن تعليم غيره ، وحاجته إلى أن يتعلم من غيره تثبت عجزه وجهله عن الاختلاق بنفسه ، فهذا كله يدل على أنهم لم ينسبوه إلى الجنون لأعلام ظهرت لهم منه ، ولكنهم قذفوه بكل ما حضرهم ؛ سفها منهم وعنادا . ثم إن كانوا نسبوه إلى الجنون لما غشي عليه عندما رأى جبريل - عليه السلام - على صورته فقد أتاهم بما لو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس بصاحبهم جنة ؛ كما قال [ الله ] - تعالى - : { قُلْ إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } [ سبأ : 46 ] ، وذلك أنه أتاهم بحكم عجز حكماء الإنس والجن [ عن ] إتيان مثله ، وأتاهم بكتاب عجز أهل الكتاب عن إتيان مثله ، فلو تفكروا فيه لعلموا أنه ليس من فعل المجانين ، ولا من علومهم ، ولكنه من عند الله أكرم به . وإن كانوا بما نسبوه إلى الجنون لما خاطر بروحه ، فهم - بحمد الله تعالى - لم يتهيأ لهم أن يمكروا به ، ولا أن يقتلوه ؛ بل أظفره الله عليهم ، وأظهره على الدين كله ؛ فصار ذلك الوجه الذي به نسبوه إلى الجنون آية رسالته ، وعلم نبوته . وقوله - عز وجل - : { وَلَقَدْ رَآهُ بِٱلأُفُقِ ٱلْمُبِينِ } قال الحسن : إنه صلى الله عليه وسلم رأى ربه بقلبه ؛ أي : عظمته وسلطانه من وجه لا يقع به تشابه ، وخص بالأفق ؛ لأنه من الأفق تنزل البركات وتنزل الملائكة وأنواع الخير كلها ، والمراد من ذلك الأماكن كلها . وغيره من أهل التفسير صرف الرؤية إلى جبريل ، عليه السلام . وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل جبريل - عليه السلام - أن يراه على صورته ، فقال له جبريل - عليه السلام - : " إن الأرض لا تسعني ، ولكن إذا صليت الفجر ، فانظر إلى أفق السماء ؛ فهنالك تراني " ، ففعل فرآه على صورته ، ثم دنا منه ، فكان قاب قوسين أو أدنى ، فذكر الأفق ؛ لأن الشيء من البعد لا يتهيأ أن يرى من أقطار الأرض ؛ لذلك خصت الأفق ؛ إذ كذلك تقع رؤية ما بعد ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ } ، وقرئ { بظنين } . قال أبو عبيد : والظنين أولى ؛ [ لأن الظنين ] هو المتهم ، والضنين : البخيل ، ولم ينسب أحد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البخل حتى ينفي عنه البخل بهذه الآية ، وقد كانوا يتهمونه على الغيب ، وهو القرآن ، فكانوا يقولون : علمه بشر ، وليس من عند الله ، ويقولون - أيضا - : إن هذا إلا إفك افتراه ؛ فبرأه الله تعالى مما قالوا بقوله : { وما هو على الغيب بظنين } . ومن قرأه بالضاد فهو يحتمل أوجها : أحدها : ما ذكره أبو بكر الأصم ، وهو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يضن بشيء علمه الله - تعالى - عن أحد من أصحابه كما يفعله غيره من العلماء ؛ لأن العلماء لا يريدون أن يعلموا من اختلف إليهم كل ما عندهم من العلوم حتى يُستغنى عنهم ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم كان يود أن يعلم جميع ما علم من العلوم أصحابه ؛ فكان يقوم على تعليم كل منهم بقدر طاقته ، ولم يكن يمتنع عن التعليم بُخلا منه وضنّاً . وجائز أن يكون برأه الله - تعالى - من هذا ؛ لما علم أنه يكون في أمة محمد صلى الله عليه وسلم من يزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خص بعض أصحابه بتعليم أشياء لم يطلع عليها غيرهم ، وتخصيص بعض دون بعض بتعليم ما عنده بخل في الشاهد ؛ فكان في قوله : { وَمَا هُوَ عَلَى ٱلْغَيْبِ بِضَنِينٍ } تكذيب أولئك الذين يدعون هذا ، وهذا كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " صوموا لرؤيته ، وأفطروا لرؤيته " ، فكأنه قال هذا لما علم أنه يكون في أمته من يتقدم الشهر بالصيام ، فقال هذا ؛ ليعرف خطأ من يتقدم الشهر بالصيام على الخطأ والجهالة ، ليس على إصابة الحق ؛ فعلى ذلك الحكم فيما ذكرنا . ثم صرفوا تأويل الغيب إلى القرآن ، وهو عندنا في القرآن وفي غيره من الأشياء التي أطلع الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم عليها . وجائز أن يكون الضن منصرفا إلى الشفاعة التي أكرم الله - تعالى - نبيه صلى الله عليه وسلم بها ، فهو لا يخص بعض أمته دون بعض بالشفاعة ، بل يعمهم جميعا ؛ فيكون في هذا تحريض على الاتباع له ، والانقياد لطاعته . ويحتمل وجها آخر : وهو أنه ليس بضنين في أداء شكر ما أنعم الله - تعالى - عليه ؛ حيث غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، بل اجتهد في أداء شكره حتى " ذكر أنه تورمت قدماه من طول القيام ، فقيل له : ألم يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ ! . فقال : " أفلا أكون عبدا شكورا ؟ ! " . وقوله - عز وجل - : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } يحتمل وجهين : أحدهما : أن النبي صلى الله عليه وسلم ليس من شياطين الإنس ، ولا بمجنون كما ذكرتم ؛ بل هو رسول كريم . أو الذي أتاكم به من القرآن لم يتلق من الشياطين ، ولا هو من قبلهم كما تلقته الكهنة والسحرة من أقوالهم ؛ بل هو ذكر من الله - تعالى - للعالمين أنزله إليه الروح الأمين القوي الذي لا يصل إليه الشيطان فيغيره ويبدله . وقوله - عز وجل - : { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } ، أي : فأين تذهبون عن طاعته واتباعه والانقياد له وقد أتاكم ما يلزمكم طاعته واتباعه . وقوله - عز وجل - : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } ، أي : عظة للعالمين ، يذكرهم بما يحق عليهم في حالهم ، ويبين لهم ما يؤتى وما يتقى ، وما تصير إليه عواقبهم . أو أن يكون قوله : { ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } ، أي : شرف لهم ، يشرف قدرهم به ، ويصيرون أئمة يقتدى بهم ويختلف إليهم ؛ ليتعلم منهم ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } يحتمل أوجها غير ما ذكرنا : أحدهما : أن هذا القرآن الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم تلقاه من رسول كريم على الله - تعالى - فإذا لم تؤمنوا به ، ولم تقبلوه فما ذهبتم إلا إلى قول شيطان رجيم . ويحتمل { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } ؟ وإلى من تفزعون إذا أتاكم بأس الله - عز وجل - ونقمته إذا لم تؤمنوا بالله تعالى ، وأنكرتم البعث ، ولم تصدقوا الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبركم به ؟ ! فإذا حل بكم ما أنذركم به فإلى من تلجئون ؟ ! وهو كقوله - تعالى - : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ ٱللَّهُ وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ ٱلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الملك : 28 ] . أو إذا لم تؤمنوا بالله - تعالى - ولم تتبعوا ما أتاكم به محمد صلى الله عليه وسلم وقد تقرر عندكم صدقه أنما أتاكم من الآيات المعجزة ، فبأي حديث تصدقونه بعد ذلك وتذهبون إليه ؟ ! وهو كقوله تعالى : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } [ المرسلات : 50 ] ؟ ! . وقوله - عز وجل - : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } معناه - والله أعلم - : أن هذا القرآن ذكر لمن شاء أن يستقيم من العالمين ، فهو في نفسه ذكر وآيات وهدى ، ولكن ينتفع بهذا الذكر من شاء الاستقامة ، ويهتدي به من طلب الهداية ؛ قال - تعالى - : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 2 ] وهو في نفسه هدى ، ولكن يهتدي بهداه المتقون ، ومن ليس بمتقٍ فهو عمى عليه ورجس ، وقال : { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ } [ يس : 11 ] ، وهو كان ينذر من اتبع ومن لم يتبع ، ولكن معناه : أنه ينتفع بالذي تنذر به من اتبع الذكر ، وقال : آيات لأولي الأبصار ، وهي في أنفسها آيات ، ولكن ينتفع بآياته أولو الأبصار . وقوله - عز وجل - : { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يحمل على تحقيق المشيئة ، ويكون تأويله : أن من أراد الاستقامة على أمر الله - تعالى - أو على الحق ، فهذا الذكر - وهو القرآن - يقيمه على الحق وعلى الأمر ، ويهديه إلى ذلك . أو أن يكون هذا على تحقيق الفعل ؛ فيكون معناه : من استقام منكم على الحق والأمر فهو ذكر له . والأصل أن المشيئة وصف فعل كل مختار ، وإذا كان هكذا ، صارت المشيئة مقترنة [ بالفعل ] ، فإذا فعل فقد شاء ؛ فكان في إثبات الفعل إثبات المشيئة ؛ لذلك استقام حمله على ما ذكرنا ، وهو أن يجعل أحدهما كناية عن الآخر . وقوله - عز وجل - : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّ ٱلْعَالَمِينَ } ، فإن كان قوله : { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ } على تحقيق المشيئة ، فمعناه ، أنكم لا تشاءون الاستقامة - على ما ذكرنا - إلا أن يشاء الله . وإن كان على تحقيق الفعل ، فتأويله : أنكم ما استقمتم على الطريقة إلا بمشيئة الله تعالى . وقال بعضهم : تأويل قوله : { وَمَا تَشَآءُونَ } ، أي : لم تكونوا تشاءون إنزال هذا الكتاب ، فأنزله الله تعالى على رسوله - عليه السلام - بغير مشيئتكم . وهذا غير محتمل عندنا ؛ لأنه قد سبق من القوم الإرادة والسؤال بإرسال الرسول إليهم بقوله : { وَأَقْسَمُواْ بِٱللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أَهْدَىٰ مِنْ إِحْدَى ٱلأُمَمِ } [ فاطر : 42 ] ، فثبت أنه قد سبق منهم السؤال بإرسال الرسول وإنزال الكتاب عليه ، لكن تأويله ما ذكرنا . ثم في هذه الآية دلالة أن كل من شاء الله تعالى منه الاستقامة توجد منه الاستقامة ، ولا يجوز أن يشاء من أحد استقامته ولا يستقيم ، كما قالت المعتزلة ؛ لأن الله - تعالى - مَنَّ على من استقام بمشيئة استقامته ، فلو لم توجد الاستقامة من كل من شاء منه الاستقامة ، لم يكن للامتنان معنى ؛ لأن الاستقامة وغير الاستقامة تكون به ، لا بالله تعالى ، والله المستعان ، [ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ] .