Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 82, Ayat: 13-19)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ * وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } : قد ذكرنا أن البر هو الذي ما طلب منه ، والذي طلب منه ما ذكر في قوله : { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ … } [ البقرة : 177 ] إلى قوله : { وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُتَّقُونَ } [ البقرة : 177 ] ، وفي هذه الآية دلالة على ما ذكرنا أن البر إذا ذكر دون التقوى ، اقتضى المعنى الذي يراد بالتقوى ؛ لأنه أخبر أن البر هو الإيمان بالله - تعالى - واليوم الآخر ، ثم ذكر أن الذي جمع بين هذه الأشياء ، فهو المتقي . ثم احتجت المعتزلة لقولهم بالتخليد في النار لمن ارتكب الكبيرة بقوله تعالى : { وَإِنَّ ٱلْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ } إلى قوله : { وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } ؛ لأن مرتكب الكبيرة فاجر ، وقد وصف الله - تعالى - : أن الفجار لفي جحيم ، ولا يغيب عنها ، وزعموا أنه [ ما ] لم يأت بالشرائط التي ذكر في قوله : { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } [ البقرة : 177 ] فهو غير داخل في قوله : { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } . والأصل عندنا ما ذكرنا : أن كل وعيد مذكور مقابل الوعد فهو في أهل التكذيب ؛ لما ذكر من التكذيب عند التفسير بقوله : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } [ المطففين : 7 ] إلى قوله : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المطففين : 10 ] ، وقال : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ ٱلنَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [ المؤمنون : 104 ] إلى قوله : { فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ المؤمنون : 105 ] ، وإذا كان كذلك ، لم يجب قطع القول بالتخليد في [ النار ] لمن ارتكب الكبيرة ، بل وجب القول بالوقف فيهم . ثم [ إن ] الله - تعالى - : جعل لأهل النار يوم البعث أعلاما ثلاثة ، بها يعرفون ، وتبين أنهم من أهل النار ، لم يجعل شيئا من تلك الأعلام في أهل السعادة : أحدها : اسوداد الوجوه بقوله : { وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] . والثاني : بما يدفع إليهم كتابهم بشمالهم ، ومن وراء ظهورهم ، ويدفع إلى أهل الجنة كتبهم بأيمانهم . والثالث : في أن تخف موازينهم ، وتثقل موازين أهل الحق . فهذا أعلام أهل الشقاء ، وفيما ذكر اسوداد الوجوه قرن به التكذيب بقوله : { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ ٱسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ ٱلْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } [ آل عمران : 106 ] ، وفيما ذكر دفع الكتاب بالشمال ومن وراء الظهور ، قال فيه : { فَاسْلُكُوهُ } [ الحاقة : 32 - 33 ] ، وقال : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَٰبَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } [ الإنشقاق : 10 ] إلى قوله - عز وجل - : { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ * بَلَىٰ … } الآية [ الإنشقاق : 15 ] وقال - تعالى - عندما ذكر خفة الميزان : { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ المؤمنون : 105 ] ، ولم يذكر عند ذكر شيء من هذه الأعلام غير المكذبين ، فثبت أن الوعيد في المكذبين لا في غيرهم ؛ لذلك لم يسع لنا أن نشرك أهل الكبائر مع أهل التكذيب في استيجاب العقاب ، وقطع القول بالتخليد ، بل وجب الوقف في حالهم والإرجاء في أمرهم . والثاني : ذكر في مواضع الإيمان بالله - تعالى - أدنى مراتب أهل الإيمان ، ووعد عليه الجنة ، فقال : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ أُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلصِّدِّيقُونَ } [ الحديد : 19 ] ، وقال في موضع آخر : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ ٱلسَّمَآءِ وَٱلأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ } [ الحديد : 21 ] ، وقال : { وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ بِٱللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ … } الآية [ النساء : 152 ] ، فذكر في هذه الآيات التي تلوناها أدنى منازل أهل الإيمان ، وذكر في موضع آخر أعلى مراتب أهل الإيمان ، ووعد عليها الجنة بقوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْاْ بِٱلْحَقِّ … } الآية [ العصر : 3 ] ، وقال : { وَلَـٰكِنَّ ٱلْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ … } الآية [ البقرة : 177 ] ؛ فجائز أن يكون ذكر الجميع على المبالغة لا على جعله شرطا ؛ فيجب القول باستيجاب الوعد بأدنى مراتبه ، على ما ذكر في الآيات الأخر . وجائز أن يكون الجميع فيما ذكر فيه الإيمان بالله ورسله مضمرا ، ويكون ذكَر طرفاً منه على الإيجاز ؛ ألا ترى أنه ذكر الكفر في بعض المواضع ، وأوعد عليه النار ، وذكر في بعض المواضع الكفر مع أسباب أخر ، وأوعد عليه النار بعد ذلك بقوله : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلنَّبِيِّينَ بِغَيْرِ ٱلْحَقِّ … } الآية [ البقرة : 61 ] ، وقال في موضع آخر : { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ ٱلْمِسْكِينَ … } الآية [ المدثر : 43 - 44 ] ، ثم لم يصر جميع ما ذكر من السيئات مع الكفر شرطا ، بل وجب القول بالتخليد لمن اقتصر على الكفر خاصة ؛ فثبث أن ليس في ذكر المبالغة دلالة جعل المبالغة شرطا ، بل جائز أن يستوجب الوعيد بدونه ؛ فلذلك لم يقطع القول في أصحاب الكبائر بالتخليد في النار ، ولا بأنهم مستوجبون للوعد ؛ بل قيل فيهم بالإرجاء . وقوله - عز وجل - : { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ ٱلدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } ، قال بعضهم : تأويله منصرف إلى أهل النار وأهل الجنة ؛ فأهل الجنة لا يغيبون عن الجنة ، ولا أهل النار عن النار . وقال بعضهم : أريد بها أهل النار خاصة : أنهم لا يغيبون عنها . وأنكر بعض الناس الخلود لأهل النار في النار ، ولأهل الجنة في الجنة ، وقالوا : لو لم يكن لنعيم الجنة انقضاء ، ولا لعذاب الآخرة انتهاء ، لكان يرتفع عن الله - تعالى - الوصف بأنه أول وآخر ؛ لأنهما يبقيان أبدا ؛ فلا يكون هو آخر ، وقد قال : { هُوَ ٱلأَوَّلُ وَٱلآخِرُ } [ الحديد : 3 ] ؛ فلا بد من أن يكون لهما انتهاء حتى يستقيم الوصف بأنه آخر . ولأنهما لو لم يوصفا بالانتهاء لكان علم الله - تعالى - غير محيط بنهايتهما ، فتكون النهاية مجاوزة لعلمه ، والله - سبحانه وتعالى - محيط بالأشياء وعالم بمبادئها ومناهيها ؛ فلا بد من القول بفنائهما حتى يكون علمه محيطا بهما . ولأنهم إنما استوجبوا الجزاء بأعمالهم ، وأهل النار استوجبوا العقاب بسيئاتهم ، فإذا كانت لسيئاتهم نهاية ، ولخيرات أولئك نهاية ، فكذلك يجب أن يكون للجزاء نهاية أيضا . والأصل عندنا : أن كل من اعتقد مذهبا فهو يعتقد التدين به أبدا ما بقي ، ولا يتركه . ثم العقاب جعل جزاء للكفر ، والثواب جعل جزاء للاتقاء عن المهالك بقوله : { وَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِيۤ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [ آل عمران : 131 ] ، وقال : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] ، فإذا ثبت أن كل واحد منهما جزاء للمذهب ، وكان الاعتقاد للأبد ؛ فكذلك جزاؤه يقع للأبد والدوام ، لا للزوال والانقطاع . والثاني : أن العلم بزوال النعيم مما ينغص النعمة على أربابها ، ويمرر عليهم لذاتها ، ويكدر عليهم ما صفا منها ، فإذا كان كذلك لم يتم لهم النعيم ، وأهل النار إذا تذكروا الخلاص من العذاب ، تلذذوا بها ، وهان عليهم العذاب ؛ فوجب القول بالخلود ؛ ليتم النعيم على أهله والعذاب على أهله . والجواب عن قوله : إنه يرتفع عنه الوصف ؛ لأنه أخبر : أن الله - تعالى - استوجب الوصف بأنه أول وآخر بذاته لا بغيره ، وغيره يصير أولاً وآخراً بغيره ، ثم ما من شيء إلا وله أول وآخر ، ثم لا يوجب ذلك إسقاط الأولية والآخرية عنه . وقوله بأن الله - عز وجل - لا يوصف بالإحاطة بالأشياء لو وجب القول بالخلود ، فنقول بأن العلم بما لا نهاية له هو أن يعلمه غير متناهٍ ، والعلم بالتناهي بما لا نهاية له يوجب الجهل لا العلم . والجواب عن الفصل الثالث : ما ذكرنا أنه يعتقد المذهب للأبد ، فكذلك الجزاء يتأبد ، ولا ينقطع . وقوله - عز وجل - : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ * ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ ٱلدِّينِ } ، قال بعضهم : إنك لم تكن تدري ، فدراك الله تعالى . وقال بعضهم : هذا على التعظيم لذلك اليوم ، والتهويل عنه . وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } ، وذلك اليوم يوم تُجرى فيه الشفاعات ، فيشفع الأنبياء لكثير من الخلق فَيُشْفَع لهم ، وإذا كان كذلك فقد ملكت نفس لنفس شيئا ، ولكن تأويله يخرج على أوجه ثلاثة : أحدها : أن الكفرة كانوا يتوادون فيما بينهم ؛ ليتناصر بعضهم بعضا في النوائب ، فقال : { لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } ؛ قال الله - تعالى - : { إِنَّمَا ٱتَّخَذْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ] . أو لا تملك نفس لنفس شيئا إلا بعد أن يؤذن لها ؛ كما قال - عز وجل - : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ ٱلرَّحْمَـٰنُ وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 38 ] ، وقد يُجرى التشفع في الدنيا لا بالاستئذان من أحد . أو يكون معناه : أن كل نفس سيتبين لها في ذلك اليوم أنها لم تكن تملك شيئا إلا بالتمليك . وقوله - عز وجل - : { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } ، أي : لا ينازع فيه ، وهو في كل وقت لله - تعالى - لكن الظلمة ينازعونه في هذه الدنيا . أو { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } ، أي : يتبين لكل أحد في ذلك اليوم بأن الأمر لله - عز وجل - في ذلك اليوم وقبل ذلك اليوم ، والله المستعان ، [ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ] .