Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 82, Ayat: 6-12)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } يحتمل : عن ربك ؛ فيكون تأويله : أي شيء غرك عن ربك الكريم ؛ حتى اغتررت به ؟ ! واغتراره عن ربه الإعراض عن طاعته وعبادته ، وقد تستعمل الباء في موضع " عن " ؛ قال الله - تعالى - : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ ٱللَّهِ } [ الإنسان : 6 ] ، ومعناها : يشرب عنها ، لا أن يشربوا فيها كرعا ، أو تجعل العين آنية لهم . ثم وجه الجواب للمغتر بالله - تعالى - في قوله - عز وجل - : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } هو أن كرمه دعا الإنسان إلى ركوب المعاصي ؛ لأنه لم يأخذه بالعقوبة وقت جريرته ، فتجاوزه عنه أو تأخيره العقوبة ، حَمَله على الاغترار ؛ إذ ظن أنه يعفى عنه أبدا كذلك ؛ فأقدم عليها ، وإلا لو حلت به العقوبة وقت ارتكابه المعصية ، لكان لا يتعاطى المعاصي ، ولا يرتكبها ، فعذره أن يقول : الذي حملني على الإغفال والاغترار كرمك أو حمقي ، كما قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - حين تلا هذه الآية : " الحمق يا رب " . أو يكون قوله : { مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } أي : أي شيء غرك حتى ادعيت على الله تعالى أنه أمرك باتباع آبائك ؟ ! أو تشهد عليه إذا ارتكبت الفحشاء أن الله تعالى أمرك به ؛ على ما قال : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا وَٱللَّهُ أَمَرَنَا } [ الأعراف : 28 ] ، ألم أبعث إليك الرسول ؟ ! ألم أنزل إليك الكتاب فتبين لك ما أمرت به عما نهيت عنه ؟ ! . وقيل : نزلت الآية في شأن كلدة ؛ حيث ضرب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فلم يعاقبه الله - تعالى - فأسلم حمزة حمية لقومه ؛ فَهَمَّ كلدة أن يضربه ثانية ، فنزلت الآية : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ ٱلْكَرِيمِ } حيث لم يهلكك عند تناولك رسول الله صلى الله عليه وسلم . لكن لو كانت الآية فيه فكل الناس في معنى الخطاب على السواء ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } ففي ذكر هذا تعريف المنة ؛ ليستأدي منه الشكر . وفيه ذكر قوته وسلطانه حيث قدر على تسويته في تلك الظلمات الثلاث التي لا ينتهي إليها تدبير البشر ، ولا يجري عليها سلطانهم ؛ ليهابوه ويحذروا مخالفته . وفيه ذكر حكمته وعلمه ؛ ليعلموا أنهم لم يخلقوا عبثا ولا سدى ؛ لأن الذي بلغت حكمته ما ذكر من إنشائه في تلك الظلمات الثلاث من وجوه لا يعرفها الخلق ، لا يجوز أن يخرج خلقه عبثا باطلا ؛ بل خلقهم ليأمرهم وينهاهم ، ويرسل إليهم الرسل ، وينزل عليهم الكتب ؛ فيلزمهم اتباعها ، ويعاقبهم إذا أعرضوا عنها ، وتركوا اتباعها ، وسنذكر وجه التسوية في قوله : { ٱلَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ } [ الأعلى : 2 ] : أنه سواه على ما توجبه الحكمة . أو سواه بما به مصالحه . أو سواه من وجه الدلالة على معرفة الصانع . أو سواه فيما خلق له من اليدين ، والرجلين ، والسمع ، والبصر . وقوله : { فَعَدَلَكَ } أي : سواك . ووجه التسوية : أن [ جعل له يدين ] مستويتين ، ولم يجعل إحداهما أطول من الأخرى ، وكذلك سوى بين رجليه . وقرئ بالتخفيف والتشديد . قال أبو عبيد : معنى قوله : { فَعَدَلَكَ } بالتخفيف ، أي : أمالك ، وليس في ذكره كثير حكمة ، واختار التشديد فيه . وليس كما ذكر ، بل في ذكر هذا من الأعجوبة ما في ذكر الآخر ؛ فقوله : { عدلك } ، أي : صرفك من حال إلى حال ، ووجه صرفه - والله أعلم - : أنه كان في الأصل ماء مهينا في صلب الأب ، فصرف ذلك الماء إلى رحم الأم ، ثم أنشأه نطفة ، ثم صرفها إلى العلقة ، وإلى المضغة إلى أن أنشأه خلقا سويا . أو صرفه على ما عليه من الحال من الصحة إلى السقم ، ومن السقم إلى البرء ؛ فيكون في ذكر هذا تعريف المنة والقدرة والحكمة ، كما في الأول ، ففيه أعظم الفوائد . وقوله - عز وجل - : { فِيۤ أَيِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } : منهم من جعل { مَّا } هاهنا صلة زائدة ، ومعناه : في أي صورة شاء ركبك . ومنهم من جعل { مَّا } هاهنا بمعنى الذي . ثم قوله : { شَآءَ رَكَّبَكَ } يحتمل أن يكون هذا عبارة عما تقدم من الأوقات ، وهو أنه قد شاء تركيبك على الصورة التي أنت عليها ، لا على صورة البهائم وغيرها ؛ فيكون [ في ] ذكره تذكير المنن والنعم ؛ ليستأدي منه الشكر . ووجه التذكير أنه أنشأه على صورة يرضاها ، ولا يتمنى أن يكون بغير هذه الصورة من الجواهر ، وأنشأه على صورة يعرف المحاسن والمساوئ ، ويعرف الحكمة والسفة ، ويميز بينهما ، ويميز بين المضار والمنافع ، وأنشأه على صورة سخر له السماوات والأرضين والأنعام ، كما قال الله تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ … } الآية [ الجاثية : 13 ] ، وقال - عز وجل - : { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي ءَادَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ … } الآية [ الإسراء : 70 ] ، ولم يسخره لغيره ؛ فثبت أن فيه تذكير النعم ؛ ليشكروه ، ويقوموا بحمده . وجائز أن يكون هذا على الاستئناف في أن يركبه على ما هو عليه ، [ على ] أي صورة شاء من الصور التي يستقذرها ؛ ويمسخه قردا أو خنزيرا ؛ لمكان ما يتعاطى من المعاصي ؛ فيكون في ذكره تذكير القدرة والقوة ؛ ليراقب الله - تعالى - ويهابه ؛ فيترك معاصيه ، ويتسارع إلى طاعته . وقوله - عز وجل - : { كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِٱلدِّينِ } فإن حملت قوله : { كَلاَّ } على التنبيه والردع فممكن أن يعطف على ما قبله وعلى ما بعده ، وكذلك إذا حملته على القسم بمعنى : حقا ؛ فإنه يستقيم عطفه على الأمرين جميعا . وقوله - عز وجل - : { بِٱلدِّينِ } يحتمل أن يكون أريد به دين الإسلام . والأصل : أن الدين إذا أطلق أريد به الدين الحق ، وهو الإسلام ، وكذلك الكتاب المطلق كتاب الله تعالى . ويجوز أن يكون أريد به : البعث والجزاء ، وسمي : يوم الدين ؛ لما ذكرنا أن الناس يدانون بأعمالهم . والحكمة فيه - والله أعلم - : أنهم قد أقروا بأن الله - تعالى - أحكم الحاكمين ، وتكذيبهم بيوم الدين يوجب أن يكون أسفه السفهاء ، لا أن يكون أحكم الحاكمين ؛ لأن الدنيا عواقبها الفناء والهلاك ، فهم إذا كذبوا بالبعث فقد زعموا : أنهم ما أنشئوا إلا للهلاك والفناء ، ومن بنى بناء ، ولم يقصد ببنائه سوى أن ينقضه ويهدمه ، فهو سفيه ، عابث في الفعل ؛ فلم يحصلوا من تكذيبهم إلا على نفي الحكمة من الصانع ، وتثبيت السفه لله تعالى ، تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا ، وهو قوله : { وَمَا خَلَقْنَا ٱلسَّمَآءَ وَٱلأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } [ ص : 27 ] ، وهم لم يكونوا يدعون أنهما خلقتا باطلا ، ولا كانوا يظنون ذلك ، ولكن الإنكار الذي وجد منهم بالبعث والجزاء يقتضي خلقهما باطلا ؛ فعلى ذلك إنكارهم بالبعث يزيل عنه القول بأنه أحكم الحاكمين ، ويثبت ما ذكرنا من السفه ، سبحانه وتعالى عما يصفون . وقوله - عز وجل - : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } ، وهم لم يكونوا يقبلون الأخبار ، ولا كانوا يؤمنون بها ، ثم أخبرهم أن عليهم حفاظا ؛ لأن الذي حملهم على الجهل تركهم الإنصاف من أنفسهم ، وإلا لو أنصفوا من أنفسهم ، لكان إعطاؤهم النصفة يوصلهم إلى تدارك الحق ومعرفة ما عليهم من الواجب . ثم قد ذكرنا أن المرء إذا كان عليه حافظٌ ، أداه ذلك [ إلى ] المراقبة ؛ فيرتدع عن تعاطي ما يؤخذ عليه : فنبهنا أن علينا حفاظا ؛ ليحتشم عنهم ، ولا يأتي من الأمور ما يسوءهم ، ووصف أنهم كرام ؛ ليصحبهم صحبة الكرام ، [ ومن صحبة الكرام أن يحترمهم ] ، ويتقي مخالفتهم ، ولا يتعاطى ما يسوءهم ، وذلك قوله : { كِرَاماً كَاتِبِينَ } . وفي ذكر الكرام فائدة أخرى ، وذلك أن قوله : { كِرَاماً كَاتِبِينَ } ، أي : كرام على الله تعالى ، والكريم على الله - تعالى - هو المتقي ؛ قال الله - تعالى - : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ ٱللَّهِ أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] ؛ فيكون فيه أمان لهم : أنهم لا يزيدون ، ولا ينقصون في الكتابة ، وإنما يكتبون [ على ] قدر أعمالهم ، كما ذكرنا من الفائدة في وصف جبريل - عليه السلام - بالقوة والأمانة . وقوله - عز وجل - : { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } فهو يحتمل وجهين : أحدهما : أنهم يعلمون ما نفعله قبل أن نفعل بما عرفهم الله - تعالى - فيكون في تعريفه إياهم إلزام الحجة عليهم ، ويكون الذي يكتبون امتحانا امتحنوا به ؛ إذ قد فوض إلى بعضهم أمر كتابة الأعمال ، وإلى البعض إرسال الأمطار ، ونحو ذلك . أو { يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } وقت فعلكم جهل الفعل من خير أو شر ؛ فيكون لفعل الخير آثار بها يعرفون أن الفاعل قصد به جهة الخير ، ويكون لفعل الشر آثار بها يعرفون ذلك أيضا . ثم عُذْر المسلمين في ترك المراقبة أقل من عذر المكذبين بالدين ؛ لأن المسلمين علموا أن عليهم حفاظا يحفظون عليهم أعمالهم ، ويكتبونها عليهم ، ثم هم مع ذلك يغفلون ، ولا يصحبونهم صحبة الكرام ، ويتركون التيقظ والتبصر ، والكفرة ينكرون أن يكون عليهم حفاظ ، ومن كان هذا حاله فالإغفال من مثله غير مستبعد .