Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 83, Ayat: 1-17)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } : وجه تعييرهم بالتطفيف وإلحاق الوعيد بهم ؛ لمكانه وإن كانوا مستوجبين للوعيد ، وإن أوفوا المكيال ، ولم يطففوا فيه ؛ إذ كانوا جاحدين بالله تعالى ومكذبين بالبعث - : هو أن الكفرة لم يكونوا اعتقدوا الكفر بالله - تعالى - لتلذذ يقع لهم بنفس الكفر ، ولا التزموه على التحسين لهم إياه ، وإنما أعرضوا عن الإيمان لحبهم الرياسة ، ولمأكلة كانت لهم خافوا زوالها عنهم بالإسلام . أو زهدوا عنه ؛ لما يلزمهم بالإيمان مؤن ، واختاروا الكفر ؛ لئلا يلزمهم [ بالإيمان ] تحملها ؛ فكان الذي يحملهم على الصد عن الإيمان وترك النظر في آيات الله - تعالى - وحججه ما ذكرنا ؛ فعيروا بالأفعال الدنية التي كانوا يتعاطونها فيما بينهم من التطفيف والهمز واللمز وتركهم إيتاء الزكاة بقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ ٱلزَّكَاةَ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } [ فصلت : 7 ] ؛ لينقلعوا عنها ؛ فيحملهم ذلك على النظر في القرآن والتدبر فيه ، وهو كما ذكرنا في القتال أن فيه ما يحملهم على الإيمان ؛ لأنهم كانوا يتزهدون عنه لحبهم الدنيا ، فإذا قوتلوا ضاقت عليهم الدنيا ؛ فبعثهم ذلك على الإيمان بالله - تعالى - وعلى النظر في آياته . وذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تلا هذه الآية على أهل مكة تركوا التطفيف ؛ فلم يطففوا بعد ذلك . قال أهل اللغة : التطفيف : النقصان ، يقال : إناء طفان ؛ إذا كان غير مملوء . وقال الزجاج : يقال : شيء طفيف ، أي : يسير ، فسمي : مطففا ؛ لما يسرق منه شيئا فشيئا في كل مكيال . وفي هذه [ الآية ] دلالة أن حرمة الربا عامة على أهل الأديان . وفيه دلالة أن حرمة الربا ليست لمكان العاقدين ، وإنما هي حق على العاقدين لله - تعالى - وذلك أن الذي يكال له ، كان يأخذ ما يكال له على علم منه بتطفيف البائع ، ثم كان يرضى به ، ويتجاوز عن ذلك ، ومع ذلك لحقهم التعيير بالتطفيف ؛ فدل أن حرمته ليست لمكان العاقدين ، ولكنها من حق الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ إِذَا ٱكْتَالُواْ عَلَى ٱلنَّاسِ يَسْتَوْفُونَ } منهم من ذكر أن هذا على التقديم والتأخير ، ومعناه : ويل للمطففين على الناس إذا [ اكتالوا أو وزنوا ] ، وإذا اكتالوا استوفوا . ومنهم من قال بأن { عَلَى } هاهنا بمعنى " عن " ؛ فكأنه يقول : ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا عن الناس يستوفون . وقوله - عز وجل - : { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } منهم من حمل قوله : هم بعد ذكر الكيل والوزن على التأكيد والمبالغة ، فإن كان هذا على هذا ، فحقه الوقف على قوله : ( كالوا ) ، وعلى قوله : ( وزنوا ) . ومنهم من قال : معناه : وإذا كالوا لهم ، أو وزنوا لهم ؛ لأن الألف بينهما ليست بمثبتة في المصاحف ، وهو مستعمل : كلته ، وكلت له ، ؛ كقوله : وعدته ، ووعدت له ، فإن كان هذا معناه ، لم يستقم الوقف على قوله : ( كالوا ) و ( وزنوا ) ؛ لأن قوله : ( لهم ) ، تفسير لقوله : ( كالوا ) أو ( وزنوا ) ، ولا يجوز قطع التفسير عما له التفسير . وقوله - عز وجل - : { أَلا يَظُنُّ أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ … } [ الآية ] : قال أكثر أهل التفسير : { أَلا يَظُنُّ } : ألا يعلم ، وألا يتيقن . وقال أبو بكر الأصم : { أَلا يَظُنُّ } ، معناه : ألا يشك أولئك في البعث ، وهو محتمل لما ذكرنا ؛ لأن الشك يوجب الرهبة ، وارتفاعه يوجب الأمن ؛ ألا ترى أن المرء إذا أراد أن يسافر إلى مكان ، فأخبره إنسان أن في الطريق الذي يريد أن يسلك سراقا وقطاع الطريق ، فإنه يترهب لذلك ؛ فيستعد له بما يدفع عن نفسه ضرر قطاع الطريق وضرر السراق ، وإن لم يتيقن أن المخبر صادق في مقالته ، ولا يتيقن أن السراق يتمكنون من الإضرار به ، فكيف لا يشك هؤلاء بكون البعث بما يخبرهم النبي - عليه السلام - ويقيم عليه الحجج ، وهذا أقل منازل الأخبار أن تورث شكا . ثم الأصل أن حرف الشك يستعمل عند استواء طرفي الداعيين ، والظن يستعمل عند اختلاف طرفي الداعيين ، وهو أن تغلب إحدى الدلالتين على الأخرى ؛ لذلك يستقيم الحكم والقول بأكثر الظن ، ولا يستقيم بأكثر الشك . ثم الظن يتولد من البحث عن الأمر والنظر فيه ، وإذا تدبر فيه ، فهو لا يزال يرتقي في الظن درجة فدرجة ؛ حتى ينتهي نهايته بلوغ اليقين ودرك الصواب ؛ فلذلك حمل أهل التفسير تأويل الظن هاهنا على اليقين والعلم ؛ إذ ذلك نهاية الظن . وحمله أبو بكر على الشك ؛ لما لا ترتفع الشبهة كلها فيما كان طريق معرفته الاجتهاد . ومثال الظن منا الخوف الذي ذكرنا أنه قد يستعمل في موضع العلم ؛ لأن الخوف إذا بلغ غايته صار علما ؛ كالذي يهدد بالقتل ، أو بقطع عضو ؛ ليشرب الخمر [ أنه يباح ] له الشرب ، ويجعل كالمتيقن أنه يفعل به لا محالة لو امتنع عن الشرب ؛ لبلوغ الخوف نهايته وإن لم يكن في الحقيقة متيقنا ؛ لما يجوز أن يحصل به ما يمنعه عن القتل ؛ فعلى ذلك الحكم في الظن . وقوله - عز وجل - : { أُوْلَـٰئِكَ أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ } للحساب الذي يحصل عليهم ؛ فلا يجدون منه مخرجا ؛ فيتخلصون من العذاب ، ليس على ما يحصل عليه الحساب في الدنيا يجد لنفسه الخلاص ووجه المخرج عنه . وقوله - عز وجل - : { لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } ، سماه : عظيما ؛ لما ذكرنا من دوام عذابه ودوام عقابه . وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } ، أي : لحكمه . أو لحسابه . أو لوعده ووعيده . أو يقومون له مستسلمين خاضعين بجملتهم ، وإن كان البعض منهم وجد منه الامتناع عن الاستسلام في الدنيا ، فإن الظلمة ينازعونه ويدعون لأنفسهم أشياء ، وينكرونها له ، فأما يوم القيامة فإنهم جميعا يقرون له وينقادون لحكمه وقضائه ؛ لذلك خصه بقيام الناس له . وقوله - عز وجل - : { كَلاَّ } قال الحسن وأبو بكر : حقا ؛ أي : بعثهم حق ؛ فيبعثون . وقال الزجاج : { كَلاَّ } : حرف ردع وتنبيه ، أي : ليس الأمر على ما ظنوا : أنهم لا يبعثون ؛ بل يبعثون ويجازون بأعمالهم ؛ فيكون في هذا إيجاب القول بالبعث من طريق الاستدلال . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ كِتَابَ ٱلْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ } اختلف في السجين : فمنهم من جعله اسم موضع ، وأشار إليه فقال : هو صخرة تحت الأرض السابعة يوضع كتاب الفجار تحته إلى يوم القيامة . ولكن ليس بنا إلى معرفة ذلك الموضع حاجة ؛ لأن الذين امتحنوا بجعله في ذلك الموضع قد عرفوه ، وهم الملائكة . ومنهم من زعم أنه حرف مذكور في كتب الأولين ، فذكر ذلك في القرآن ، فجائز أن يكون المقصود يتحقق بدون الإشارة إليه . وجائز أن يكون السجين الموضع الذي أعد للكافر في الآخرة للعذاب ، لكن أول ما يرد إليه عمله الذي أثبت في كتابه ، ثم تلحق به الروح ، ثم يتبعهما جسده في الآخرة على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، والآخرة سجن الكافر وجنة المؤمن " ، فيرد كتابه إلى ذلك السجن ، ويرد كتاب الأبرار إلى الجنة التي أعدت له ، ثم تتبعه روحه ، ثم جسده ؛ فذلك قوله : { إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } [ المطففين : 18 ] . ومنهم من قال : [ هو ] على التمثيل ليس على تحقيق المكان في العليين ؛ وذلك لأن السجن هو مكان أهل الخبث في الدنيا ، فمثلت أعمالهم بذلك ؛ لخبثها وقبحها ، ومثلت أعمال الأبرار بما ذكر من العليين ، وذلك مكان أهل الشرف وأولي القدر ؛ فيكون ذلك كناية عن طيب أعمالهم . وقال الكسائي : السجين : مشتق من السجن ؛ كقولك : رجل فسيق ، وشريب ، وسكيت . ثم ذكر كتاب الفجار ، والفجور يكون بالكفر وبغيره ، فهذا اسم يقع به الاشتراك بين أهل الكفر وأهل الإسلام ، لكنه ألحق عند التفسير بما يوجب صرف الوعيد إلى الكفار بقوله : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ، وكذلك نجد هذا الشرط ملحقا بالتفسير في جميع ما جرى به الوعيد بالاسم الذي يقع به الاشتراك ؛ من نحو الفسق ، وترك الصلاة ، بقوله - تعالى - : { قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ ٱلْمُصَلِّينَ } [ المدثر : 43 ] ، وفيما جرى من الوعيد في الذي لا يؤتي الزكاة ؛ فكان في ذكر التفسير على تقييده بالتكذيب قطع الشهادة وإيجاب العذاب على المكذبين ، وفي ذكر الاسم الذي يقع به الاشتراك إيجاب الخوف على المسلمين الذين شركوا في ذلك الاسم ، فترك قطع الشهادة عليهم بالوعيد ؛ لما لم يذكروا عند التفسير . وقوله - عز وجل - : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } فهو تعظيم ذلك اليوم ، ووصفه بنهاية الشدة ، أو على الامتنان على نبيه صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يعلم ذلك حين أطلعه الله عليه ، وهكذا تأويل قوله : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } [ المطففين : 19 ] . وقوله : { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } ، أي : الكتاب الذي في السجين مرقوم ، والمرقوم ، قالوا : مكتوب ومثبت . والرقم عندنا : هو الإعلام ، يقال : رقم الثوب ؛ إذا أعلمه ؛ فجائز أن يكون علمه هو أن يختم ؛ فيكون فيه إخبار أنه لا يزاد على قدر ما عمل ، ولا ينقص منها ، وهو كما ذكرنا من الفائدة ، فيما وصف جبريل - عليه السلام - بالقوة والأمانة بقوله : { ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي ٱلْعَرْشِ مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ } [ التكوير : 20 - 21 ] ، فوصف بالأمانة ؛ ليؤمن الخلق عن خيانته في الكتاب وتغييره ، ووصفه بالقوة ؛ ليعلم أن غيره لا يتهيأ له أن ينتزع منه ما أرسل على يده ، فيغيره ، فكذلك وصفه بالختم والأعلام ؛ ليؤمن من الزيادة فيه والنقصان . وقوله - عز وجل - : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ، أي : للمكذبين بجميع ما يحق عليهم تصديقه ، وذلك يكون بالإيمان بالله تعالى ، وبآياته ، ورسله ، وبالبعث . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ ٱلدِّينِ } : الدين اسم لشيئين : اسم للجزاء ، واسم للاستسلام والخضوع ؛ فسمي : يوم الدين ؛ لما يدانون بأعمالهم ، أو لما يستسلمون لله - تعالى - في ذلك اليوم ويخضعون له ، وفي تكذيبهم بيوم الدين تكذيب لقدرة الله تعالى وتكذيب رسله ؛ لأن الرسل كانوا يدعونهم إلى الإيمان بيوم الدين ؛ فكانوا يكذبونهم بتكذيبهم بذلك اليوم ؛ فيكون تأويله منصرفا إلى ما ذكرنا من تكذيبهم بجميع ما يحق عليهم التصديق به . وقوله - عز وجل - : { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } : المعتدي هو الذي يتعدى حدود الله تعالى ، والأثيم : الذي يتأثم بربه ؛ فيكون مجاوزاً به عن الحدود ، والتأثم بربه هو الذي يحمله على التكذيب ، وإلا لو قام بحفظ حدوده ، ولم يأثم بربه ، لكان لا يكذب بيوم الدين . أو يكون فيه إخبار أن المكذب به معتد أثيم . وقوله - عز وجل - : { إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } : قال : { أَسَاطِيرُ ٱلأَوَّلِينَ } : أباطيل الأولين . وقال أبو عبيدة : الأساطير : هي التي لا أصل لها . ومعناه عندنا : ما سطره الأولون ، أي : كتبه ، فالسطر : الكتابة ؛ فيخبرون أنها ليست من عند الله تعالى ، بل مما كتبها الأولون الذين لا نظام لهم ، ولم يكن يقولون هذا في كل ما يتلو عليهم ؛ ولكنهم كانوا يعارضونه بهذا عندما كان يتلو عليهم من نبأ الأولين ، وكانوا ينسبونه إلى السحر إذا أتاهم بالآيات المعجزات . وقوله - عز وجل - : { بَلْ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } ، قيل : الرين : الستر والغطاء . وقيل : الرين : الصدأ ؛ فالله - تعالى - سمى الإيمان الذي هو في النهاية من الخيرات : نوراً ، وسمى الكفر الذي هو في النهاية من الشرور : ظلمة ، فإذا كان الإيمان منورا للقلب ، والكفر مظلما ، فإذا اشتغل بالأسباب الداعية إلى الكفر شيئا بعد شيء من الآثام ، فكل سبب من ذلك يعمل في إظلام القلب حتى تتم الظلمة ؛ على ما روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن هذه الآية ، فقال : " هو العبد يذنب الذنب ، فتنكت في قلبه نكتة سوداء ، فإن تاب منها صفا قلبه ، وإن لم يتب ، وعاد فأذنب ، نكتت في قلبه نكتة سوداء ، وإن عاد نكتت في قلبه حتى يسود القلب أجمع ؛ فذلك الرين " ، ومن يرد الله أن يهديه يشرح صدره شيئا فشيئا بأسباب تتقدم الإيمان حتى يحمله ذلك على الإيمان ؛ فذلك تمام الانشراح . وعلى هذا يخرج تأويل ما روي عن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن الإيمان يبدأ نقطة بيضاء في القلب ، كلما ازداد عظما ، ازداد ذلك البياض ، فإذا استكمل الإيمان ابيض القلب كله . ومعنى قوله : " يبدأ نقطة بيضاء " إلى قوله : " حتى يستكمل الإيمان " ، عندنا بالأسباب الداعية إلى الإيمان ، فلا يزال ينشرح منه شيء فشيء حتى يؤمن ، لا أن يكون الإيمان ذا أجزاء ، ولكن للإيمان مقدمات ؛ فينشرح شيء فشيء بكل مقدمة منه حتى يفضي به إلى الإيمان . ثم إن الله - تعالى - سمى السواتر عن الإيمان بأسام ، مرة قال : { طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ } [ النحل : 108 ] ، ومرة قال : { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً … } الآية [ الإسراء : 46 ] ، ومرة : { أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } [ محمد : 24 ] ، فكأن الذين وصفوا بالقفل على قلوبهم هم الذين انتهوا في الكفر غايته حتى لا يطمع منهم الإيمان ، وهم المتمردون المعتقدون للتكذيب ، وهم الرؤساء منهم والأئمة . ومنهم من هو مطبوع على قلبه ، وهم الذين اعتقدوا الكفر لا عن تمرد وعناد ، ولكن لما لم تَلُحْ لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان . وذكر الزجاج أن أول منازل الستر : الغبن ، وهو الستر الرقيق كالسحاب الرقيق في السماء ، يعمل في غشاء القلب غشاء السحاب الرقيق بلون السماء ، ثم إذا ازداد سمي : رينا ثم يرتقي إلى الطبع إلى أن يصير كالقفل على القلب ، وفي هذا دليل على أن لله تعالى تدبيراً وصنعا في أفعال العباد ؛ لأنه أنشأ للكفر ظلمة في القلب حتى تمنعه تلك الظلمة عن درك الخيرات ونور الإيمان ؛ إذ كل من اعتقد الكفر فهو ليس يعتقده ؛ ليمنعه عن درك الأنوار ، وإذا لم يوجد منه هذا ، ثبت أنه صار كذلك بتدبير الله - تعالى - وصنعه ؛ إذ لا يجوز أن تحدث الظلمة في القلب إلا بمحدث لها ، وإذا انتفى الصنع من الكافر ثبت أنه بتدبير الله - تعالى - ما صار كذلك ، وأنه أنشأه مظلما ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } ، اختلف في قوله : { يَوْمَئِذٍ } . فذكر أبو بكر الأصم : أن هذا في الدنيا ، يقول : إنهم حجبوا عن عبادة ربهم بما عبدوا غير الله تعالى ؛ فصارت عبادتهم غير الله حجابا من عبادته . وذكر أهل التفسير : أن هذا في الآخرة . ثم منهم من يقول : إنهم حجبوا عن لقاء ربهم ، وأوجبوا بهذا القول الرؤية للمؤمنين . ومنهم من يقول : هم محجوبون ، أي : عن كرامته التي أعدها لأوليائه ، وعن رحمته ، فعوقبوا بالحجب عن ذلك ؛ جزاء لصنيعهم ؛ لأنهم في الدنيا ضيعوا نعم الله - تعالى - فلم يقبلوها بالشكر ، ولم يؤمنوا برسوله الذي بعثه رحمة للعالمين ؛ فأبلسوا من رحمته وكرامته في الآخرة ؛ عقوبة لهم ومجازاة ، وهو كقوله تعالى : { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] ، أي : جعلهم كالشيء المنسي الذي لا يعبأ به ؛ فعلى ما وجد منهم من المعاملة لآياته وحججه بتركهم الالتفات إليها عوملوا بمثله في الآخرة . وقال في آية أخرى : { قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِيۤ أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } [ طه : 125 ] . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ ٱلْجَحِيمِ } : من صرف الحجب إلى الدنيا ، فهو يقول : ثم إنهم يصلون الجحيم بعدما عبدوا غير الله تعالى ، وحجبوا عن عبادته . ومن صرف التأويل إلى أمر الآخرة ، فهو يقول : إنهم يصلون الجحيم بعدما يظهر فيهم من أثر الحجاب من سواد الوجوه وإعطاء الكتاب بشمالهم ومن وراء ظهورهم . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ يُقَالُ هَـٰذَا ٱلَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } تأويله : أنهم يعرفون أنهم يصلونها بتكذيبهم بها ، وحجبوا عن الله - تعالى - بتكذيبهم بذلك اليوم ، وإلا لو آمنوا وأقروا أن النار حق والبعث حق ، لم يكونوا يصلونها ؛ فيعرفون حتى يقروا بذلك بقوله : { فَٱعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ ٱلسَّعِيرِ } [ الملك : 11 ] .