Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 83, Ayat: 18-28)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ ٱلأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ } : ذكر الأبرار هاهنا مقابل الفجار في الأول ، ثم بين الفجار أنهم المكذبون بيوم الدين ، وذلك أول منازل الكفر ، فإذا أريد بالفجار : الكفار ، أريد بالأبرار : الذين آمنوا ؛ فلذلك قيل بأن الأبرار هم المؤمنون . والبر هو الذي يكثر منه تعاطي فعل البر ، فسمي : بارا ؛ إذا كثر منه [ البر ] ، والفاجر : هو الذي يكثر منه فعل الفجور ؛ فجائز أن يكون الوعيد في الذين بلغوا في الفجور غايته ، ويكون حكم من دونهم متروكا ذكره ؛ فيوصل إلى معرفة حكمه بالاستدلال ، ويكون الوعد في الذين أكثروا أفعال البر ، ويكون حكم من دونهم معروفا بغيره من الأدلة . وقوله - عز وجل - : { يَشْهَدُهُ ٱلْمُقَرَّبُونَ } : ذكر شهود المقربين في ذكر كتاب الأبرار ، ولم يذكر شهودهم عند ذكر كتاب الفجار ، فجائز أن يكون شهودهم على التعظيم لعمله ، والدعاء له ، وغير ذلك . وقيل : المقربون : هم مقربو أهل كل سماء . وقوله - تعالى - : { إِنَّ ٱلأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ } : البَرُّ هو الذي يبذل ما سئل عنه ، ويجيب إلى ما دعي إليه ، فإذا أجاب الله - تعالى - فيما دعاه إليه من التوحيد ، ووفى بأوامره ، وانتهى عن مناهيه ، فهو من الأبرار . ثم ما ذكرنا يكون بوجهين : أحدهما : بالاعتقاد ، وبتحقيقه بالفعل والمعاملة ، فهذا قد وفى بما طلب منه قولا وفعلا ؛ فيكون هذا ممن يقطع فيه القول باستيجاب الوعد المذكور للأبرار . والثاني : أن يقوم بوفاء ما طلب منه اعتقادا ، ولم يف ما اعتقده بفعله ، فالحكم في مثله الوقف ، ولا يقطع فيه القول باستيجاب الموعود ، بل لله - تعالى - أن يجازيه بما ضيع من حفظ حدوده بقدر ما وجد من التضييع ثم يلحقه بأهل كرامته ، وله أن يعفو عنه بفضله وسعة رحمته . والفجور : هو الميل ، والميل يكون بوجهين : أحدهما : بترك الاعتقاد والفعل جميعا . و [ الثاني : ] ميل في المعاملة ، وهو أن يخالف فعله عقده . فالذي وجد منه الميل على الوجهين جميعا ، يحل به ما أوعد لا محالة ، وأما الذي خالف فعله عقده فإنه يوقف فيه ، ولا يشهد أنه من جملة من يلحقهم الوعيد لا محالة . قد ذكرنا أن البر إذا ذكر على الانفراد أريد به ما يراد بالتقوى والبر جميعا ، وكذلك التقوى إذا أفرد اقتضى معنى البر ، وإذا قرنا جميعا أريد بالتقوى جهة ، وبالبر جهة ، وذلك أن التقوى : هي أن يتقي المهالك ، وذلك يكون بالإجابة إلى ما دعي إليه قولا وفعلا ، والانتهاء عما نهي عنه قولا وفعلا ، وهذا هو معنى البر أيضا ، فإذا ذُكرا معاً أريد بالتقوى الاجتناب عن المحارم ، وأريد بالبر إتيان المحاسن ، وكذلك الإيمان ، إذا [ ذكر ] بالانفراد أريد به ما يقتضي الإسلام من المعنى والإيمان جميعا ، وكذلك الإسلام يقتضي معنى الإيمان إذا ذكر بالانفراد ؛ لأن الإسلام هو أن يرى الأشياء كلها سالمة لله تعالى ، لا يجعل لأحد فيها شركا ، والإيمان أن يصدق الله - تعالى - بأنه رب كل شيء ، وإذا صدقت أنه رب كل شيء فقد جعلت [ ما يقتضيه ظاهره من جعل ] الأشياء كلها سالمة له ؛ فهذا معنى قوله : إنه يراد بالإيمان إذا ذكر بالانفراد ما يراد بالإسلام ، فإذا ذكرا معا أريد بالإسلام ما يقتضيه ظاهره من جعل الأشياء كلها سالمة [ له ] ، وأريد بالإيمان ما يقتضيه ظاهره ؛ كقوله : { إِنَّ ٱلْمُسْلِمِينَ وَٱلْمُسْلِمَاتِ وَٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ … } الآية [ الأحزاب : 35 ] . وكذلك الحكم في الخوف والرجاء إذا ذكر كل واحد من الحرفين مفردا ، اقتضى كل واحد منهما معنى الآخر ، وإذا ذكرا معا ، أريد بكل واحد منهما ما يقتضيه ظاهره ، ولم يصرف إلى ما يراد بالآخر . وقوله - عز وجل - : { لَفِي نَعِيمٍ } : جائز أن يكون هذا في الآخرة ، يصفهم أنهم أبدا في نعيم . وجائز أن يكونوا في نعيم في الدنيا والآخرة معا ؛ فيكونون في الدنيا في نعيم العقول دون نعيم الأبدان ، وذلك أنهم يطيعون العقل فيما يدعوهم إليه ؛ فيتنعمون بعقولهم ، ولكن الذي تدعوهم إليه عقولهم ما تأبى أنفسهم الإجابة له ، ويشتد عليها ذلك ، فهم في نعيم العقول لا في نعيم الأبدان ، ونعيم الآخرة نعيم البدن والعقل جميعا ، فتتنعم أنفسهم وعقولهم ، ولا يحملون ما تأبى أنفسهم احتماله ، قال الله - تعالى - : { وَٱلَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي ٱللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي ٱلدُّنْيَا حَسَنَةً } [ النحل : 41 ] ، وقال - تعالى - : { فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً … } الآية [ النحل : 97 ] ؛ فثبت أنهم في الدنيا وفي الآخرة لفي نعيم . وقوله - تعالى - : { عَلَى ٱلأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ } قد ذكرنا أن كل ما تتوق إليها الأنفس وتشتهي في الدنيا فعلى مثله جرت البشارة لأهل الجنة في الدنيا . وذكر أن أهل اليمن كان إذا شرف قدر أحدهم وعلت رتبته في الدنيا ، اتخذ لنفسه أريكة نسبت إليه ؛ فيقال : هذه أريكة فلان ، فجرت البشارة لأهلها بالأرائك ؛ لما يرغب إلى مثلها في الدنيا ، لا أن أرائكها شبيهة بالأرائك التي [ تتخذ ] في الدنيا ؛ لأن أرائك الجنة مطهرة من الآفات التي هي آثار الفناء ، لكنها ذكرت بهذا الاسم ؛ لما لا وجه للوصول إلى تعريفها بغير اسمها المعتاد فيما بين الخلق . والأريكة : هي السرير في الحجال . وقوله - عز وجل - : { يَنظُرُونَ } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يقع النظر في الحجل ، وذلك عند تلاقي الإخوان واجتماعهم على الشراب . والنظر الثاني يكون إلى مملكته ؛ فيكون ذلك خارجا من الحجال ؛ على ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم [ أنه قال ] : " إن الرجل من أهل الجنة ليرى جميع ما له بنظرة واحدة ، وأقل ما يعطى الرجل مثل سعة الدنيا وعرضها " فذلك النظر يجاوز عما في الحجال ؛ فيقع خارجا منها . وقوله - عز وجل - : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ ٱلنَّعِيمِ } ، أي : تعرف لو نظرت في وجوههم نضرة النعيم ، فجائز أن تكون النضرة منصرفة إلى نفس الخلقة ، وهو أنهم أنشئوا على خلقة لا تتغير ، ولا تفنى ، بل بهجة نضرة . أو تكون نضارتهم بما أنعموا من النعيم . ثم خصت الوجوه ؛ لأن النظر من بعض إلى بعض يكون إلى الوجوه ، لا إلى غيرها من الأعضاء ؛ فخصت الوجوه بالذكر لهذا ، لا أن تكون النضرة لها خاصة ؛ بل النضرة تشتمل سائر البدن . والثاني : أن السرور إذا اشتد في القلب أثر في الوجوه ، وكذلك الحزن يؤثر في الوجه إذا اعترى في القلب ؛ فيكون في ذكره نضرة الوجه إخبار عن غاية ما هم عليه من السرور . وقوله : { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ } قال بعضهم : الرحيق : هو الخمر الذي لا غش فيه ، وهو أن يكون مطهرا من الآفات . وقال بعضهم : هو شيء أعده الله - تعالى - لأوليائه ، لم يطلعهم على ما يتهيأ في الدنيا على ما قال : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } [ السجدة : 17 ] ، فهو شراب تقر به أعينهم مما أخفي لهم إلى الوقت الذي يشربونه . وقوله - عز وجل - : { مَّخْتُومٍ * خِتَامُهُ مِسْكٌ } جائز أن يكون راجعا إلى حال الإناء الذي فيه الرحيق ، وهو أنه مختوم لم تتناوله الأيدي ، وكذلك ترى المرء في الدنيا يختم نفيس شرابه الذي في الإناء بالفدام في الدنيا ، فيخبر أن ذلك الشراب في الإناء على الوجه الذي كانوا يؤثرونه في الدنيا ، وأخبر أن ختامه بأنفس شيء عرفوه في الدنيا ، وهو المسك ، ليس كالختام في الدنيا ؛ لأنهم يختمون أوانيهم في الدنيا بالشيء الرذل ، وبما لا قدر له عندهم . وجائز أن يكون منصرفا إلى الشاربين : أنهم لا يشربون أبداً ، بل يكون له ختم ولكن لا تنقطع لذة الشراب عنهم ؛ بل أبدا يجدون من ذلك ريح المسك . وقوله - عز وجل - : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ ٱلْمُتَنَافِسُونَ } جائز أن يكون أراد به الشراب الذي وصفه في قوله : { رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ … } الآية . والتنافس حرف يستعمل في الخيرات ؛ كأنه يقول : فليرغبوا في الشراب الذي هذا وصفه ، الذي [ لا ] غول فيه ولا هم ينزفون ، لا في الشراب الذي يذهب بالعقول ، ويضعف الأبدان ، ويتلف الأموال . أو فليتنافسوا في النعيم الذي وصف هاهنا ، لا في النعيم الذي ينقطع ولا يدوم ؛ فكأنه يقول : فليرغبوا فيما يعقب لهم النعيم الدائم والشراب الذي لا تنقطع لذته . وقيل : { خِتَامُهُ مِسْكٌ } : ما بقي في الكأس من البقية يكون ذلك مسكا . والتنافس إنما يكون في المسارعة في الخيرات ، وترك الاتباع للشهوات ، والانتهاء عن المعاصي ، وهو كقوله : { لِمِثْلِ هَـٰذَا فَلْيَعْمَلِ ٱلْعَامِلُونَ } [ الصافات : 61 ] ، أي : فليكن عملهم بما يثمر لهم ما ذكر من النعيم ، لا في الذي ينقطع ، وتكون عقباه النار . وقوله - عز وجل - : { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } ، قيل : التسنيم : شيء أعده الله - تعالى - لأوليائه ، لم يطلعهم عليه في الدنيا ، وهو من قرة الأعين التي لا تعلمها الأنفس ، فوصف مرة المزاج بالمسك ، ومرة بالكافور بقوله : { كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } [ الإنسان : 5 ] ، ومرة أخبر أنه ممزوج بالتسنيم ، ولم يبين ما التسنيم ، والسنام : اسم ما ارتفع من الشيء ؛ فيجوز أن يكون سمي : تسنيما ؛ لأنه ينحدر إليهم من الأعلى ، وأخبر أنه ممزوج بما إلى مثله ترغب الأنفس في الدنيا وتشتاق إليه ؛ ألا ترى أن الشراب في الدنيا إذا كان ممزوجا فهو في القلوب أوقع ، وتكون الأنفس إليه أرغب منه إذا كان غير ممزوج ، فرغبوا بمثله في الآخرة . وذكر بعض أهل التفسير أن المقربين يسقون من ذلك الشراب صرفا ، ويمزج لغيرهم . وقال الحسن : المزاج يكون للمقربين وغيرهم ، وجعل الممزوج منه أشرف ، على ما ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا ٱلْمُقَرَّبُونَ } . المقربون هم الذين يسارعون في الخيرات في الدنيا ، فتركوا منى الأنفس ، واتقوا المهالك والزلات ، فهم المقربون ، وأضاف التقريب إلى الغير ؛ لأنهم بغيرهم ما وفقوا لاكتساب الخيرات ، وعصموا عن ارتكاب المهالك والزلات ، لا بأنفسهم ؛ فنالوا فضل التقريب بما أجهدوا أنفسهم في الدنيا ؛ للأمور التي ذكرنا .