Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 84, Ayat: 16-25)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - تعالى - : { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ } منهم من حمل قوله : { فَلاَ } على دفع منازعة وقعت فيما بين القوم ؛ على ما نذكر في سورة { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } [ البلد : 1 ] [ إن شاء الله ] ، وإنما القسم قوله - عز وجل - : { أُقْسِمُ } . ومنهم من جعل " لا " بحق الصلة . فإن كان على الوجه الأول ، لم يجز حذف " لا " من الكلام ؛ بل حقه أن يقرأ { فَلاَ أُقْسِمُ } . وإن كان بحق الصلة استقام حذفه ، كما قرأ بعض القراء : { فَلاَ أُقْسِمُ بِٱلشَّفَقِ } . ثم الشفق هو أثر النهار ، فجائز أن يكون القسم واقعا على النهار كله ، وإن كان ذكر طرفا منه . والثاني : أن الشفق يجتمع فيه أثر النهار - وهو النور الذي فيه - وأثر الشمس - وهو الحمرة التي تكون فيه - فيكون القسم واقعا على النهار بما فيه ، كما كان واقعا على الليل بما فيه ؛ لقوله : { وَٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } ؛ فيكون فيه حجة لقول أبي حنيفة [ - رضي الله عنه - ] : إن وقت العشاء لا يدخل حتى يغيب البياض ؛ لأن وقتها يدخل بغيبوبة الشفق ، والشفق وجدناه مشتملا على البياض والحمرة ، فما لم يتم الغيبوبة لم يهجم وقتها ؛ ألا ترى أن الصلاة التي تلي الغروب لا يدخل وقتها حتى يتم غروب الشمس ، فعلى ذلك الصلاة التي تلي غروب الشفق لا يدخل وقتها حتى يتم الغيبوبة . وقوله - عز وجل - : { ٱللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ } قال بعضهم : { وَسَقَ } ، أي : وما ساق وحمل معه من الظلمة والنجم والدابة ، وغير ذلك . والوسق : الحمل ، يقال : وسق بعير ، أي : حمل بعير . وقال بعضهم : وسق ، أي : جمع وساق كل شيء إلى مأواه من الطير والسباع ، فذكر النهار والليل ؛ لما فيهما من المنافع . وقوله : { وَٱلْقَمَرِ إِذَا ٱتَّسَقَ } فالاتساق : الاجتماع ، ومعناه : استوى ، وكمل ؛ إذ ذلك اجتماعه ، وذلك في ليالي البيض . وقال أبو بكر الأصم : معناه : أنه جُمع وسوي بعد أن كان كالعرجون القديم فيذكرهم قوته ؛ ليعلموا أنه قادر على بعثهم . وقوله - عز وجل - : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قرئ بنصب الباء ورفعها ، وكلا القراءتين في المعنى واحد ، وإن كان في الظاهر إحداهما للجمع والأخرى للوحدان ، وإحدى القراءتين بحرف الجمع ليذكر بالرفع ، فإن قوله : { لَتَرْكَبُنَّ } منصرف إلى كل إنسان في نفسه خاصة لا على الاقتصار على شخص واحد ؛ لما ليس في قوله - عز وجل - : { يٰأَيُّهَا ٱلإِنسَٰنُ إِنَّكَ كَادِحٌ } [ الإنشقاق : 6 ] إشارة إلى شخص بعينه ، ولكن المراد منه الجملة ؛ فثبت أن الخطاب منصرف إلى الجملة . ثم قوله : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قيل : حالا بعد حال . ثم جائز أن يصرف إلى دار الآخرة ، فكأنه قال : لتركبن حال الآخرة بعد حال الدنيا ؛ فيكون فيه تصريح القول على إيجاب البعث . ويحتمل أن يكون ذلك في الدنيا ، فينتقل إلى حال المضغة بعد كونه مضغة ، وإلى حال العلقة ، وإلى حال الطفولة ، إلى أن يبلغ أشده ، فلا يزال يركب حالة بعد حالة ؛ فيكون في تنقله من حال إلى حال إبانة أنه لم يرد من إنشائه أن تتغير عليه الأحوال فقط ، بل أريد به العاقبة التي بها صار إنشاء الخلق حكمة لا عبثا ؛ فيكون قوله : { لَتَرْكَبُنَّ } منصرفا إلى كل إنسان في نفسه خاصة ، لا على الاقتصار على شخص واحد ؛ لما ذكرنا . ومنهم من قال : إنما أراد بهذا الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ذكر عن ابن مسعود وابن عباس - رضي الله عنهما - لكن قال ابن مسعود - رضي الله عنه - : لتركبن يا محمد . وقال ابن عباس : لتركبن السماء حالا بعد حال . فإن كان التأويل على ما ذكره ابن مسعود ، ففيه بشارة له بإسلام قومه ، وإجابتهم له ؛ فيقول : إنهم سيطيعونك ويصيرون لك أنصارا بعد صدهم الناس عن الإيمان وجفوتهم إياك . ومن قال : لتركبن سماء بعد سماء ، فيقول : ذلك ليلة أسري به . والتأويل الأول أقرب ؛ لأن موقع القسم في قوله : { لَتَرْكَبُنَّ } ، والإسراء لم يكن يعرفه قومه حتى يكون في ذكره دفع الاشتباه عن أولئك القوم ، فأما ظهور الإسلام وعلو النبي على أعدائه فمما يشاهده الناس ؛ فيتحقق في الآخرة ما أخبر النبي - عليه السلام - عن الغيب ؛ فيكون تأكيدا لرسالته ؛ فلذلك قلنا : إن الحمل على المعنى الأول أحق ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } الأصل أن كل من اعتقد مذهبا فإنما يعتقده لحجة تقررت عنده ، أو شبهة اعترضت له ، ظنها حجة ، فأما أن يعتقده حراما ، فليس يفعله ، فقال الله تعالى في هؤلاء : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، أي : أي حجة لهم تمنعهم عن الإيمان بالله - تعالى - وبرسوله ، وتدعوهم إلى الشرك والتدين به . ثم قد ذكرنا أن ما خرج مخرج الاستفهام من الله - تعالى - فحقه أن ينظر ما يقتضي ذلك الكلام من الجواب أن لو كان من مستفهم ؛ فيحمل الأمر عليه ، وحق جواب هذا الكلام أن نقول : لا شيء يمنعه عن ذلك ؛ فقوله : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، أي : لا حجة لهم فيما اختاروا من الشرك ، وإنما يتدينون به تشهيا وتمنيا ؛ فيكون هذا على النفي في أن لا حجة لهم . أو كأنه يخاطب رسوله - عليه السلام - فيقول : سلهم لماذا لا يؤمنون ؟ وإذا سألهم لم يجدوا لأنفسهم حجة في الإعراض عن الإيمان ؛ فيرجع الأمر إلى ابتغاء الحجة أيضا . ثم المعتزلة احتجت علينا بهذه الآية في تثبيتهم القدرة قبل الفعل ، وزعمت أنه لو لم يكن أعطي قوة الإيمان ، لم يكن يعاتب على تركه ؛ لأنه لا عذر للعبد أعظم من أن يقول إذا قيل له : لم لا تؤمن ؟ فيقول : لأني لم أقدر عليه . ولأن قوله - تعالى - : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } حرف تعجيب ، ولو كانت القوة ممنوعة قبل الفعل ، لكان له أن يقول : إنما لم أؤمن ؛ لأني منعت عنه ؛ فيرتفع عنه التعجيب ؛ فدل أنه أعطي القوة ؛ فلم يبق له في التخلف عن الإيمان عذر . والجواب عن الفصل الأول : أن الكافر إنما لحقته كلفة الإيمان ؛ لأنه هو الذي ضيع القوة باختياره فعل الكفر ، وإنما ترتفع الكلفة إذا منعت عنه الطاقة ، فأما إذا كان هو الذي ضيعها ، فالكلفة عليه قائمة . والأصل أن القدرة في الصحيح السليم تحدث تباعا على قدر حرصه على العبادة وميله إليها . ثم العبد متى اشتغل بفعل صار مضيعا لضده من الأفعال ، لا أن كان ممنوعا من الفعل الذي هو ضد هذا ؛ فلذلك إذا آثر الكفر ، وأتى به ، فقد صار باختياره الكفر مضيعا لقوة الإيمان ، لا أن صار ممنوعا عنها ؛ لذلك لحقته كلفة الإيمان . وأما ما ذكر من أمر التعجيب فقد وصفنا وجه التعجيب في ذلك ، وهو أنهم لم يلزموا الكفر بحجة دعتهم إلى القول به ، والمرء إذا قلد مذهبا - قلده لا عن حجة وبرهان - تعجب الخلق باختيارهم الكفر لا عن حجة . ثم لو كان الأمر على ما ظنت المعتزلة : أن الله - تعالى - قد أعطاهم جميع أسباب الهداية ، ولم يُبْقِ في خزانته شيئا منعه عنهم ، لكان التعجب راجعا إليه ، لا إلى الذين لم يؤمنوا ، فيقول : ما لي لا أصل إلى هدايتهم ، ولم يَبْق عندي شيء به هدايتهم إلا وقد أعطيتهم ، لا أن يعجب الخلق من صنعهم ؛ فليس الذي اختاروه في القول سوى وصفهم رب العالمين بالعجز ، والعاجز لا يصلح أن يكون ربّاً ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ ٱلْقُرْآنُ لاَ يَسْجُدُونَ } منهم من صرف التأويل إلى سجود الصلاة ، والمراد منه عندنا : سجود التلاوة ، وهو سجود الاستسلام والخضوع على الشكر ؛ لما أكرم المرء [ به ] من الإيمان وهدى الله ؛ لأن سجود الصلاة يكون عند فعل الصلاة ، لا عند ذكر التلاوة . ثم في الآية دلالة وجوب السجدة على السامع ؛ لأنهم عوتبوا بتركهم السجود عندما يتلى عليهم ، وقرعوا به ، والتقريع يجري في ترك اللازم ، لا في ترك ما ليس عليه . ولأن المعنى الذي له وجب السجود على التالي قائم في السامع ؛ إذ التالي إنما لزمه السجود ؛ لما ذكر من آيات الله - تعالى - وقامت عليه من الحجج ؛ فلزمه أن ينقاد لها ويخضع ، والسامع قد قامت عليه الحجج ؛ فيلزمه أن يخضع لها . وقوله - عز وجل - : { بَلِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ } يحتمل وجهين : أحدهما : أنهم يكذبون رسوله محمدا عليه الصلاة والسلام ؛ فيحملهم ذلك على التكذيب بالقرآن ؛ لأنهم إذا كذبوا رسالته لم يصدقوه فيما يأتي من الأخبار ، لا أن يكون في الأخبار معنى يحملهم على التكذيب ؛ بل القرآن يحملهم على التصديق والإيمان لو أنعموا النظر فيه ، وبذلوا من أنفسهم الإنصاف . أو يكون معناه : أن الذين كفروا هم المكذبون ؛ فيكون الكفر منهم تكذيبا ، والتكذيب منهم كفرا . وقوله : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } يحتمل أوجها : أحدها : ما يضمرون من الكيد والمكر برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فالله أعلم بكيدهم ، لا يتهيأ لهم أن ينفذوا كيدهم فيه إلا ما كتب الله عليه ؛ فيكون فيه بشارة له بالنصر والتأييد . والثاني : { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } في قلوبهم من التصديق ، ويظهرون من التكذيب بألسنتهم ، وإنما يوعون من التكذيب بألسنتهم وقلوبهم معا ، وذلك أن البعض منهم كان قد أيقن برسالته ؛ فكان يصدقه بقلبه ، ويكذبه بلسانه على العناد منه والتمرد . ومنهم من لم يكن عرف صدقه بقلبه ؛ لما ترك الإنصاف من نفسه بإعراضه عن النظر في حجج الله - تعالى - فكان يكذبه بقلبه ولسانه جميعا . وقوله - عز وجل - : { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } البشارة إذا فسرت ، استقام حملها على الحزن والسرور جميعا ، وأما البشارة المطلقة إنما تستعمل في موضع إدخال الفرح والسرور في القلب . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ } جائز أن يكون هذا منصرفا إلى كل من آمن . وجائز أن يصرف إلى من آمن من الذين كانوا يوعون ما ذكرنا . وقوله : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } نذكره في سورة " وَالِتّينِ وَالزَّيْتُونِ " ، إن شاء الله تعالى .