Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 85, Ayat: 1-11)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } ، فقوله : { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } على القسم ، وكذلك ما ذكر عقيبه . ثم اختلف في موضع القسم في هذه السورة : فمنهم من ذكر أن القسم لمكان قوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } . ومنهم من يقول : القسم موضعه على قوله : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [ البروج : 12 ] ، وهو أشبه ؛ لأنه في موضع الاحتجاج على الكفرة . ولو حمل القسم على قوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } ، كان ذلك منصرفا إلى المؤمنين ، والمسلمون قد تيقنوا بصدق ما يأتي به الرسول من الأنباء ، والقسم يذكر على تأكيد ما يقصد إليه ؛ ليزال عنه الريب ، فإذا كان المسلمون غير مرتابين في نبئه استغنوا عن تأكيده بالقسم ؛ فلذلك قلنا : إن صرفه إلى قوله - تعالى - : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } [ البروج : 12 ] أليق ؛ فيكون فيه تحذير لمن كذب رسوله صلى الله عليه وسلم أن بطشه لمن كذب رسوله لشديد ، وقد علموا ذلك بما وصل إليهم من نبأ عاد ، وثمود ، وفرعون ، وغيرهم . وجائز أن يكون موضع القسم على قوله : { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } ، وذلك أن أهل مكة كانوا أهل تعذيب لمن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فكان في ذكر ما نزل بالمتقدمين من الفراعنة من العذاب ، وصبر أولئك المعذبين على دينهم ، وضنهم به ، وحسن ثناء الله - تعالى - عليهم تصبير لهم ، وتهوين على ما يلقون من العذاب ؛ لينالوا من حسن ثناء الله - تعالى - عليهم ما ناله من صبر من تقدمهم من السلف . وكذلك ذكر سحرة فرعون ، وأحسن الثناء عليهم بصبرهم على تعذيب فرعون ، فقالوا : { فَٱقْضِ مَآ أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَآ } [ طه : 72 ] ؛ ليكون ذلك عونا لهم على الصبر بما يلقون من الكفرة من التعذيب ، ثم أكد الأمر بالقسم ؛ لأنه لا كل مسلم يبتلى بتعذيبهم يبلغ يقينه مبلغا لا يعتريه الشك ، ولا يتخالجه شبهة في ذلك ؛ فأكد الأمر بالقسم ؛ لرفع الريب والإشكال . وقال - تعالى - : { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } [ آل عمران : 146 ] ، وفي بعض القراءات : { قتل معه ربيون كثير } ، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا ٱسْتَكَانُواْ } [ آل عمران : 146 ] ، فذكّر المؤمنين ما لقي السلف من الكفرة ، وابتلوا بقتل الرسل وثباتهم على الدين ؛ ليستعينوا به على ما يصيبهم في سبيل الله ، ولا ينقلبوا على أعقابهم إذا أخبروا بقتل الرسول . وفي ذكر هذه الأنباء دلالة أن قول الرسول - عليه السلام - لعمار رضي الله عنه : " إن عادوا فعد " حين أكره على إجراء كلمة الكفر على لسانه ، فأجرى وقلبه مطمئن بالإيمان - ليس على الأمر به والإيجاب عليه ، والتحصيل بطريق العزم ؛ بل معناه : إن عادوا فلك العود ؛ على سبيل الرخصة ؛ لأنه لو كان على الأمر ، لم يكن في ذكر نبأ أصحاب الأخدود وسحرة فرعون فائدة ، سوى أن يترك العمل بهما ، ومعلوم أن تلك الأنباء إنما ذكرت ؛ ليعمل بها لا ليترك بها العمل ؛ لذلك حمل قوله : " فعد " على الرخصة ، لا على الأمر به ، ويكون المراد من قوله - عليه السلام - أيضا : " من لم يقبل رخصنا كما يقبل عزائمنا فليس منا " ، أي : لم ير العمل به موسعا بل استنكره ، وأبى قبوله ، لا أن يكون فيه أمر بترك العزيمة وإيجاب العمل بالرخصة ، والله أعلم . ثم نرجع إلى قوله - تعالى - : { وَٱلسَّمَآءِ ذَاتِ ٱلْبُرُوجِ } . فقال بعضهم : هي البروج المعروفة ، وهي أطراف البناء ، وإذا بني بناء اتخذ على طرفه برج ؛ ليشدد بناؤه به . ومنهم من قال : البروج : القصور . ومنهم من قال : البروج : النجوم ؛ لقوله : { جَعَلْنَا فِي ٱلسَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ } [ الحجر : 16 ] ، وزينة السماء هي الكواكب بقوله : { بِزِينَةٍ ٱلْكَوَاكِبِ * وَحِفْظاً مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } [ الصافات : 6 - 7 ] . ومنهم من قال : هي مجاري الشمس والقمر والكواكب ، فمنازلها هي البروج . ثم ذكر السماء بالبروج ؛ ليعرف حدثها ودخولها تحت تدبير الغير ؛ إذ ذكرها بالمنافع المجعولة فيها ؛ ليعلم الخلق أنها سخرت للمنافع ؛ فيعرفوا بها حدثها ؛ إذ المسخر لمنافع الغير داخل تحت قدرة من سخره ، والمقدور محدث ، وهم لم يشهدوا بدأها ؛ ليعرفوا به حدثها ، ولا كل أحد يعرف حدثية الشيء ؛ لكونه محدودا في نفسه إذا لم يشاهدوا بدأه ، فذكرها حيث ذكرها بما فيها من المنافع المجعولة للخلق ؛ إذ ذلك أظهر وجوه الدلالة على الحدثية ؛ ليعلموا بها حدثها ؛ ألا ترى إن إبراهيم - عليه السلام - احتج على قومه بنفي الإلهية عن الكواكب بأفولها ؛ إذ ذلك أظهر وجوه الحدثية ، ولم يحتج عليهم بانتقالها من موضع إلى موضع ، ولا بكونها محدودة في نفسها ؛ بل احتج عليهم بما ذكرنا ؛ ليتحقق عندهم حدوثها ودخولها تحت سلطان الغير . وقوله : { وَٱلْيَوْمِ ٱلْمَوْعُودِ } قيل : هو يوم القيامة ؛ فسمي : موعودا ؛ لما وعد من جميع الأولين والآخرين في ذلك اليوم ، ثم أقسم بذلك اليوم وإن كانوا منكرين له ؛ لما قرره عليهم بالحجج ، وألزمهم القول به . وقيل : اليوم الموعود ، هو كل يوم يأتي ، فيأتي بما وعد فيه من الرزق وغيره ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } اختلف في تأويله : فمنهم من قال : الشاهد هو الله تعالى ، والمشهود هوالخلق ، واستدل على ذلك بقوله : { كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ المائدة : 117 ] . وقيل : الشاهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمشهود أمته ؛ قال الله - تعالى - : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَىٰ هَـٰؤُلآءِ } [ النحل : 89 ] . ومنهم من يقول : الشاهد هو الكاتبان اللذان يكتبان على بني آدم أعمالهم ، والمشهود هو الإنسان الذي يكتب عليه . ومنهم من يقول : الشاهد والمشهود هو الإنسان نفسه ؛ أي : جعل عليه من نفسه شهودا بقوله : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ النور : 24 ] . ومنهم من يقول : الشاهد يوم الجمعة ، والمشهود يوم عرفة ؛ فسمي يوم الجمعة شاهدا ؛ لأنه هو الذي يشهدهم ويأتيهم ، وسمي يوم عرفة : مشهودا ؛ لأن عرفة اسم مكان ، والناس يأتونها ويشهدونها ، ولا يأتيهم ؛ فعظم شأن عرفة لما يعظمها أهل الأديان كلها ، وعظم يوم الجمعة ؛ لأنه يوم عيد المسلمين ، ولكل أهل دين يوم يعظمونه ، فأكرم الله - تعالى - المؤمنين بهذا اليوم ؛ ليعظموه مكان اليوم الذي يعظمه غيرهم من أهل الأديان ، فأقسم بهما . وقوله - عز وجل - : { قُتِلَ أَصْحَابُ ٱلأُخْدُودِ } اختلف في تأويله : فمنهم من صرفه إلى المعَذَّبين . ومنهم من صرفه إلى المعَذِّبين . فمن صرف إلى المعذِّبين حمل قوله : { قُتِلَ } على اللعن ؛ أي : لعنوا ؛ كقوله تعالى : { قُتِلَ ٱلْخَرَّاصُونَ } [ الذاريات : 10 ] ، أي : لعنوا . ومن صرفه [ إلى ] الذين عذبوا ، حمله على القتل المعروف . ثم اختلف في قصة أولئك الذين عذبوا ؛ فإن كان القسم في الكفرة ، فما ينبغي أن يفسر على وجه من ذلك ما لم يتواتر فيه الخبر عن المصطفى عليه الصلاة والسلام ، بل حقه أن يقتصر على ما جاء به الكتاب ؛ لأن هذه الأنباء حجة لرسالة نبيه - عليه السلام - لأنهم وجدوها موافقة للأنباء المذكورة في كتبهم ، وقد علموا أنه لم يصل إلى تعرفها إلا بالله تعالى ؛ إذ لم يروه يختلف إلى من عنده علم الأنباء ؛ ليصل إلى معرفتها بهم ، فإذا فسرت على وجه أمكن أن يقع فيها زيادة أو نقصان على ما ذكر في الكتاب ؛ فيجدوا به موضع الطعن والقدح ؛ لذلك لم يسع أن يزاد على القدر الذي جرى ذكره في الكتاب إلا من الوجه الذي ذكرنا . وإن كان القسم في المؤمنين ، وسع القول بحمل التأويلات التي ذكرها أصحاب التفسير ؛ لارتفاع المعنى الذي ذكرنا في الكفرة ، والله أعلم . [ ثم في ذكر هذه الأنباء ] تقرير رسالته ونبوته - عليه السلام - عند الكفرة ؛ لما ذكرنا أنه لم يختلف ، إلى من عنده علم هذه الأنباء ؛ ليعلم بها ، فإذا أنبأهم [ بها ] على وجهها ، تيقنوا أنه بالله تعالى علم . وفيه تصبير لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتخفيف الأمر عليه ؛ لأنه يخبره أن قومك ليسوا بأول من آذوك وعاندوك ، بل لم يزل سلفهم تلك عادتهم بأهل الإسلام . وفائدة أخرى : ما ذكرنا أن في ذكره بعض ما يستعين به من ابتلي بأذى الكفرة . وفيه أن أولئك الكفرة بلغ من ضنهم بدينهم ما يقاتلون عليه من أظهر مخالفتهم في الدين ؛ ليعلموا أن القتال لمكان الدين ليس بأمر شاق خارج من الطباع ؛ بل الطباع جبلت على القتال مع من عاداهم في الدين ؛ فيكون فيه ترغيب للمسلمين على القتال مع الكفرة إذا امتحنوا به ، والله أعلم . وقوله : { ٱلنَّارِ ذَاتِ ٱلْوَقُودِ } منهم من جعل الوقود من ألقي فيها من المؤمنين . ومنهم من جعل الوقود صفة تلك النار التي عذبوا بها . وقوله - عز وجل - : { إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ } ، أي : عظماؤهم وكبراؤهم جلوس عند الأخدود ؛ ففيه أن أتباعهم هم الذين كانوا يتولون إلقاء المؤمنين في النار ، وكبراؤهم جلوس هنالك . وقوله - عز وجل - : { وَهُمْ عَلَىٰ مَا يَفْعَلُونَ بِٱلْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ } ، يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون الشهود هم العظماء والفراعنة . أو يكون منصرفا إلى الأتباع ، وهو أن الأتباع كانوا يلقون المؤمنين في النار ، ويشهدون أنهم على الضلال ، وأنهم ورؤساؤهم على الهدى والحق ، وهو كما قال في موضع آخر : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَٰؤُلاءِ أَهْدَىٰ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَبِيلاً } [ النساء : 51 ] . وقوله - عز وجل - : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بِٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } : ذكر { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } ليعلم أنه لا يلحقه ذل بما يحل من الذل بأوليائه وأهل طاعته ، ولا في حمده قصور بقهر أوليائه ، خلافا لما عليه ملوك الدنيا ، وذلك أن ملوك الدنيا إذا حل بأولياء واحد منهم ذل ، كان الذل حالا فيه أيضا ، وإذا قهر بعض أتباعه فترك نصرهم وهو قادر على نصرهم واستنقاذهم لم يحمد ذلك منه ، ولحقته المذمة ؛ وذلك لأن الملك إنما استفاد العز بأتباعه وأنصاره ، فإذا استذل أتباعه ، زال ما به نال العز ؛ فلحقه الذل ، ونال الحمد - أيضا - بالإحسان إلى مملكته ، فإذا ترك نصرهم وهو ممكن من ذلك ، فقد ترك إحسانه إليهم ؛ فصار به غير ممدوح ولا محمود ، والله - تعالى - استحق العز والحمد بذاته لا بأحد من خلائقه ؛ فلم يكن في إذلال أوليائه ما يوجب النقص في وصف الحمد ، ولا ما يوجب قصورا في العز . والثاني : [ أن ] الدنيا وما فيها أنشئت للإهلاك ، ولعل الإهلاك بما ذكر أيسر عليهم من هلاكهم حتف أنفهم ، وكان في ذلك النوع من الهلاك نيل درجة الشهداء ، وهي التي ذكرها الله - تعالى - في قوله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ … } [ آل عمران : 169 ] ، ولا ينال تلك الدرجة بموتهم حتف أنفهم ، فهذا أبلغ نصرا منه إياهم . ثم للجزاء والعقاب دار أخرى فيها يظهر تعزيز الأولياء وقمع الأعداء ؛ فلم يكن [ في ] ترك النصر في الدنيا ما يوجب وهنا ولا ذلا ، وأما ملوك الدنيا إذا تركوا نصرهم وقت ملكهم لأوليائهم ، لم يتوقع منهم النصر بعد ذلك ؛ إذ ليست في أيديهم إلا المنافع الحاضرة ؛ لذلك لحقتهم المذمة بترك النصر ، والله أعلم . ثم ليس في إهلاك أولئك القوم الذين آمنوا واقتدارهم عليهم إيهام أنهم كانوا على الحق والصواب ، وأن المؤمنين كانوا على الخطأ ؛ لأن الإهلاك إنما يصير آية إذا كان على خلاف المعتاد ، وإهلاكهم لم يكن كذلك ؛ لأن عددهم كان كثيرا ، وكان في المؤمنين قلة ، وإهلاك الكثير للقليل غير مستبعد ؛ بل هو أمر معتاد ، وغلبة الفئة القليلة الفئة الكثيرة هي التي تخرج من حد الاعتياد ؛ فيكون فيها آية : أن الفئة القليلة على الحق والأخرى على الباطل ، وذلك نحو غلبة رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بمن معه من المسلمين مع قلة أعدادهم وضعفهم في أنفسهم ، وكثرة أتباع الكفرة وقوتهم وجلادتهم في أنفسهم ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ } ، أي : لم يكن من المؤمنين بمكانهم جرم لينتقم منهم بالإحراق سوى أن آمنوا بالله تعالى . وقيل : ما عابوا عليهم ، وما أنكروا منهم سوى أن آمنوا بالله تعالى ، وفي هذا تبيين سفههم وعتوهم ؛ لأنهم علموا أن ما لهم من النعم كلها من الله تعالى ، وكان الذي يحق عليهم أن يؤمنوا بالله - تعالى - ويشكروه بما خولهم من النعم ، ويدعوا غيرهم إلى الإيمان به ، لا أن يقتلوا ويعذبوا من آمن به . ثم قوله - عز وجل - : { ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَمِيدِ } العزيز : هو الذي لا وجود له ، أو هو عزيز لا يلحقه ذل ؛ فيكون العز مقابل الذل . وقال أهل التفسير : العزيز : المنيع ، والعزيز هو الذي لا يعجزه شيء ، وهو الحميد المستوجب للحمد من كل أحد بذاته . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِي لَهُ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ … } [ الآية ] . ذكر هذا ؛ ليعلم أنه لا يدخل في ملكه قصور بقتل أوليائه وأنصار دينه ؛ لأن الخلق كلهم عبيد لله - تعالى - وإماؤه ، والسيد إذا قتل بعض مماليكه بعضا ، لم يلحق السيد بذلك ذل ولا نقص ، وإنما يدخل عليه الذل إذا قتلهم غير مماليكه ، فإذا كان الخلق بأجمعهم عبيداً لله - تعالى - لم يكن في قتل بعض بعضا نقص يدخل في ملكه . وقوله : { وَٱللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ، أي : يحفظ عليهم أعمالهم ؛ فيجازيهم بها ، لا يعزب عنه شيء . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ فَتَنُواْ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَٱلْمُؤْمِنَاتِ } الفتنة : المحنة ، وهي مأخوذة من فتن الذهب إذا أذابه ؛ لأنه يذيبه ؛ ليميز به بين ما خبث منه وبين ما صفا ، وبين الذهب وبين ما ليس بذهب ؛ فاستعملت في موضع المحنة ؛ لأن المحنة هي الابتلاء ؛ ليتبين بها الصادق من الكاذب ، والمحق من المبطل ، وذلك يكون بالأمر والنهي ؛ فسمي الأمر والنهي من الله - تعالى - امتحانا لهذا ، وإن كان الله - تعالى - لا يخفى عليه شيء . ثم وجه فتنتهم : أنهم اتخذوا الأخاديد وأوقدوا فيها النيران ؛ ليلقوا فيها من ثبت على الإيمان ودام عليه ، ويتركوا إلقاء من رجع عن دينه ، فقيل : فتنوا ؛ لهذا . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } : فيه أنهم لو تابوا لكان يعفى عنهم ، ولا يعاقبون مع عظم جرمهم بربهم في ذات الله - تعالى - فيكون فيه إظهار كرمه وعطفه على خلقه . وقوله - عز وجل - : { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ } : منهم من صرف قوله : { وَلَهُمْ عَذَابُ ٱلْحَرِيقِ } إلى الدنيا ، فقال بأن تلك النار التي عذبوا بها المؤمنين سلطت عليهم حتى أحرقتهم . وجائز أن يكون ذلك في جهنم أيضا ؛ فيكون فيه إخبار [ بأن ] نار جهنم تدوم عليهم بالإحراق ، ولا تفتر عنهم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } : منهم من صرف هذا الخطاب إلى الذين عذبوا من المؤمنين . ومنهم من صرفه إلى المعذبين ، وهو أنهم لو آمنوا مع عظم جرمهم وإساءتهم بأولياء الله - تعالى - لكان يعفو عنهم ، وتسعهم رحمته . وقوله - عز وجل - : { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } فقوله : { مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ } يحتمل وجهين : أحدهما : من تحت أهلها . والثاني : من تحت أشجارها . والجنة : اسم للمكان الذي فيه الأشجار الملتفة ؛ فيخبر أن الماء يجري من تحت ما به صار جنة وهي الأشجار ، وليس يراد بقوله : تحت الجنة ، أي : تحت تربتها ؛ لأن تحتها تكون قناة أو بئرا ، وليس بهما كثير نزهة . وقوله : { ذَلِكَ ٱلْفَوْزُ ٱلْكَبِيرُ } الفائز هو الذي يظفر بما يأمل ، وينجو عما يخاف ، ويحذر ، ووصف أنه كبير ؛ لأنه ليس لما أنعم زوال ولا انقطاع .