Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 86, Ayat: 1-10)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَٱلسَّمَآءِ وَٱلطَّارِقِ } : إن الله - جل وعلا - عظم قدر السماء في أعين الخلق ؛ لما جعلها معدن رزقهم ومسكن أولي القدر من خلقه ، وهم الملائكة ، وفيها خلق الجنة ، وخلقها بغير عمد ترى ، فأقسم بها ؛ لما عظم من شأنها ، وجعل مصالح الأغذية بزينتها ، وهي الشمس والقمر ، وأقسم بالنجم الثاقب ، وهو المتلألئ من النجوم المضيء الذي يثقب الشيطان ، [ أي : يخرقه ] ، ولما فيها - أيضا - من عظيم البركات ، وبركاتها أنها جعلت بحيث يهتدى بها في البر والبحر ، ويوصل بها إلى لطائف التدبير إلى أن ظن بعض الناس أن الأنجم السبعة هي المدبرات ، وبها ما منع الشياطين عن الصعود إلى السماء لينتفي بها التلبيس عن الوحي ؛ لأنهم لو لم يحفظوا عنها ، لكانوا إذا وقفوا على أخبارها أسرعوا بحملها إلى الكهنة ؛ فيؤدي ذلك إلى التلبيس . ومن عظيم قدرها أنها تقطع في الليلة الواحدة مسيرة ألف شهر ، فأقسم بها أيضا . ويجوز أن يكون هذا من الله - تعالى - تعليما لرسوله - عليه السلام - بأن يقسم به دون أن يكون ذلك قسما منه تعالى ؛ لأنهم لم يكونوا يرتابون في ألوهيته وربوبيته وصدق أخباره ؛ فيزال عنهم الريب بالقسم ، وإنما كانوا يرتابون في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ، فعلمه القسم بما ذكر ؛ ليؤكد أمره ؛ فيحملهم ذلك على النظر في أمره . ويجوز أن يكون القسم بعين هذه الأشياء ؛ لكونها معظمة عند الكفرة ، وليس للمسلمين أن يقسموا بها فيما بينهم . أو يكون القسم بهذه الأشياء هو القسم بخالقها ؛ فكأنه أمره بالقسم بخالق هذه الأشياء على الإضمار ، والله أعلم . واختلف في تأويل { وَٱلطَّارِقِ } : فقال بعضهم : ما يجيء به الليل ؛ يقال : طرقته بالليل ؛ إذا أتيته . وقال الزجاج : { وَٱلطَّارِقِ } : هو الساكن ؛ يقال : أطرق في الكلام مليا ؛ إذا وقف ، وسكن . وقال بعضهم : هو النجم يطرق بالليل ، ويخفى بالنهار ، وهو النجم الثاقب ، ذكره تفسيرا للطارق . وقوله - عز وجل - : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } ، اختلف في قوله : { إِن } : قال بعضهم : أريد به هاهنا : " ما " . وقوله : { لَّمَّا } صلة في الكلام ، فمعناه : ما كل نفس عليها حافظ ، وإنما الحافظ على بعض دون بعض . والثاني : أن يكون الحافظ على بعض ما في النفس دون بعض ، وذلك البعض هو الذي يظهره ، فأما الذي يخفيه فإنه لا يشهده كاتباه . ومنهم من حمل [ قوله تعالى ] { لَّمَّا } على الاستثناء ، فقال : معناه : ما من نفس إلا عليها حافظ . قال الزجاج : حرف { لَّمَّا } استعمل في موضع الاستثناء ، يقال في اللغة : " أقسمت عليك لما فعلت كذا " : أي : إلا فعلت كذا . فإن كان معناه ما ذكروا ، ففيه إلزام التيقظ والتبصر ، والنفس من طبعها : أنه إذا سلط عليها من يراقبها ويحفظها ، احتشمت من وقتها وخافته ، وتكون متيقظة ، ولا ترتكب من الأمور إلا ما تعلم أنه لا يلحقها التبعة فيه من الحفاظ ؛ فسلط عليه الملكان - أيضا - ليكون متيقظا في كل قول وفعل ، فلا يقبل إلا على ما فيه نفع العاجل والآجل . وسمى الله - تعالى - الملكين : { كِرَاماً كَاتِبِينَ } [ الانفطار : 11 ] ، ومن صحب المكرم من الخلائق احتشم منه ، وتوقى عن إتيان ما يُستحْيا من مثله ، ومن أراد أن يكتب إلى أحد كتابا ، لم يثبت في كتابه شيئا يؤخذ عليه ، ويذم به ، بل يحكم الأمر ، ويصلحه غاية ما يحتمله الوسع ؛ فكان في ذكر الحفاظ على الأنفس إلزام التيقظ والتبصر من الوجوه التي ذكرنا . وقوله : عز وجل - : { حَافِظٌ } : قال بعضهم : يحفظ عليها رزقها حتى تستوفيه ؛ فإن كان على هذا ، فالحفظ يكون لها لا عليها . وقال بعضهم : يحفظ عليها عملها خيرها وشرها . وقوله - عز وجل - : { فَلْيَنظُرِ ٱلإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } : الأصل أن إمعان النظر فيما خلق منه الإنسان مما يوصل المنكرين للبعث والمنكرين للرسالة إلى القول بهما ، وذلك أن النطفة التي خلق منها الإنسان لو رئيت موضوعة على طبق ، ثم رام أحد أن يعرف وأن ينتزع منها المعنى الذي به صلح أن ينشأ منها العلقة والمضغة وخلق منها الإنسان - لم يدرك ، ولو اجتمع الإنس والجن على أن يركبوا عليها جارحة من جوارح الإنسان ، لم يتهيأ لهم تركيبها ، أو تعرّف المعنى الذي صلح أن ينشأ منه السمع والبصر ، لم يوقفوا عليه ؛ فتبين أن الذي بلغت قدرته هذا لا يخفى عليه أمر ، ولا يعجزه شيء ، وتبين لهم حكمته ، وإذا عرفوا حكمته أداهم ذلك إلى القول بالبعث ؛ لأنه لولا البعث وإلا كان يخرج إنشاء الخلق عبثا باطلا ؛ فيخرج عن أن يكون حكيما ، ولزمهم أن يصدقوا الرسل بجميع ما أخبرتهم به . وفيه دلالة خلق الشيء لا من شيء ؛ إذ لا يجوز أن يكون الإنسان بكليته في النطفة مستجنا ، فظهر ؛ لأنه لا يسع في الشيء الواحد ما لا يحصى ذلك من الأضعاف ، ولا يجوز أن يكون ذلك عمل النطفة - أيضا - لأنها موات ، لا يحتمل أن تصير كذلك إلا بتدبير مدبر عليم ، فيكون فيما ذكرنا إيجاب القول بحدوث العالم . ولأنها لو صارت مضغة وعلقة وخلقا سويا بطبعها ، لكانت لا تخلو نطفة إلا وهي تنتقل إلى ما ذكرنا ؛ ألا ترى أن النار لما كان من طبعها الإحراق ، والثلج إذ كان من طبعه التبريد ، لم يجز أن ينتقل واحد منهما عن طبعه الذي أنشئ عليه . ثم قد وجدنا نطفا تخلو عن هذه المعاني التي ذكرنا ؛ فثبت أنها نقلت إلى ما ذكرنا بتدبير مدبر حكيم ، لا بطبعها . ثم الأعجوبة فيما فيه خلق الإنسان ليست بأقل من الأعجوبة مما منه خلق ، وذلك أن الإنسان خلق في الظلمات على ما أراد الله تعالى ، وصوره كيف شاء ، ولو أراد أحد أن يعلم علم ذلك ، أو يصور مثله في حالة العيان لم يملك ، وجعل ذلك المكان فيما ينمو فيه الولد ، ويغذو فيه خصوصا من بين سائر الأماكن ، ولو أراد حكماء الإنس والجن أن يعرفوا الوجه الذي به صلح ذلك المكان للنماء والغذاء ، وأعملوا فيه فنون العلم ، لم يعرفوا ، فمن تفكر فيما ذكرنا ، علم أن قدرته ذاتية لا يلحقها فناء ولا عجز ، وعلم أن علمه ذاتي ليس بمكتسب ؛ فيتوهم خفاء الأمور عليه . وقوله - عز وجل - : { مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } يعني : النطفة التي يدفقها الرجل في الرحم ، والدافق : معناه : مدفوق ؛ أي : يدفق به ؛ كقولك : " ليل نائم " ، أي : ينام فيه ، و " هم ناصب " ، أي : ينصب به . وقال الزجاج : { مَّآءٍ دَافِقٍ } أي : ذي اندفاق . وقوله - عز وجل - : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } اختلف في تأويله : فمنهم من يقول : بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وهي الأضلاع الثمانية : أربع عن يمينها ، وأربع عن يسارها . وقال بعضهم : { وَٱلتَّرَآئِبِ } هي الأطراف . وقال بعضهم : { وَٱلتَّرَآئِبِ } موضع القلادة منها . وقال بعضهم : { وَٱلتَّرَآئِبِ } ما دون التراقي وفوق الصدر . ثم من الناس من صرف تأويلها إلى الرجل خاصة ، فقال : قوله : { مِن بَيْنِ ٱلصُّلْبِ وَٱلتَّرَآئِبِ } أريد به : صلب الرجل وترائبه ، وزعم أن الماء الذي يكون منه الولد ليس معدنه الصلب خاصة ؛ بل يجتمع من أطرافه كلها . ومن حمله على المعاني الأخر صرف الأمر إليهما جميعا ، وهو أن الماء الذي يخلق منه الولد يكون منهما جميعا . و [ كذلك ] ذكر أبو بكر الأصم أن { ٱلصُّلْبِ } كناية عن الرجل ، { وَٱلتَّرَآئِبِ } كناية عن المرأة ؛ فيكون هذا اسما لهما مأخوذا عن أصل ما يكون منهما ؛ ألا ترى إلى قوله تعالى : { وَحَلَٰئِلُ أَبْنَائِكُمُ ٱلَّذِينَ مِنْ أَصْلَٰبِكُمْ … } الآية [ النساء : 23 ] ، فأضاف الأبناء إلى الأصلاب . وفي إخراج الماء من بين الصلب والترائب لطف من الله تعالى ؛ لأنه لو اجتهد الخلائق باستخراجه من بين ما ذكر بحيلهم وقواهم ووضعه في الرحم ، لم يقدروا عليه ، ثم الله بلطفه وضع هذه الشهوة فيما بين الخلق ، واستخرج بها الماء من بين الصلب والترائب ، لا أن يكون أحد يملك إخراجها بالأسباب والحيل ، كما وضع فيهم شهوة الأكل والشراب ، [ فمتى ما أكلوا وشربوا ، وقرَّا قرارهما ، ظهر من قوة الطعام والشراب ] في كل جارحة من جوارح الأكل باللطف ، لا أن يكون ذلك العمل بالأكل والشرب خاصة ، وكذلك يرى الإنسان إذا سقى أصل شجرة ظهرت منفعة السقي في أغصانها وأوراقها وأثمارها ، ولو أراد أحد أن يعرف أنه لأي معنى صلح أن يكون الماء بالمحل الذي ذكرنا ؟ وأراد أن يستخرج المعنى المجعول في الطعام من القوة التي ذكرنا - لم يتدارك ذلك ؛ فيكون فيما ذكرنا أبلغ حجة على الثنوية ؛ لأنهم ينكرون خلق الأشياء لا عن أشياء ، وزعموا أنا لم نشاهد كون الشيء لا من شيء ، والشاهد دليل الغائب ؛ فلزم ذلك في الذي غاب عنا ، فمن قدر على تصوير الولد في تلك الظلمات ، وفي الأماكن الضيقة وقدر أن يجعل في الماء والطعام المعاني التي يعجز الخلق عن استدراكها - لقادر على إنشاء الخلق لا من شيء ؛ إذ الأعجوبة فيما ذكرنا ليست بدون الأعجوبة عن إنشاء شيء لا من شيء . وقوله - عز وجل - : { إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } قال بعضهم : إنه على رده إلى صلب أبيه لقادر . وقال بعضهم : إنه على بعثه لقادر ؛ هذا أشبه التأويلين ؛ لأن الآية في موضع الاحتجاج على الكفرة ولم يذكر عن أحد التنازع في نفي الرد إلى الصلب وإنكاره حتى يدفع المنازعة بهذا ، وكانوا أهل إنكار بالبعث ؛ فاحتج عليهم [ بابتداء الخلقة ، وكذلك أكثر ما جرى به الاحتجاج في إثبات البعث في القرآن ، إنما احتج عليهم ] بالابتداء . وإن كان التأويل على رده إلى صلب أبيه ، فوجه الرد هو أن يرد من حالة الشيب إلى حالة الشباب ، ثم من حالة الكبر إلى حالة الصغر ، ثم إلى حالة الطفولة ، ثم يرد مضغة ، ثم يرد علقة ، ثم نطفة ، ثم ترد النطفة إلى صلب أبيه ؛ [ لا أن ] يوصف الله - تعالى - بالقدرة على رده وهو على حاله نسمة عظيمة إلى صلب أبيه مع ضيق ذلك المكان . ولأن هذا محال ، والله تعالى لا يوصف بالقدرة على المحال ، وليس فيما لا يوصف بالقدرة على المحال نفي القدرة عنه في الأزل ، وبهذا يجاب من سأل فقال : أيقدر الله - تعالى - على إدخال الدنيا في بيضة ؟ فيقال [ له ] : إن أردت إدخالها في البيضة بأن يصغر الدنيا ويضيقها حتى يجعلها أضيق من البيضة ، أو يوسع البيضة حتى تسع الدنيا - فهو على ذلك قادر . وإن أردت أنه قادر على إدخالها فيها على إبقاء البيضة بحالها وبقاء الدنيا بحالها ، فهذا محال ؛ لما فيه من انقلاب البعض كلا ، والكل بعضا ؛ فكذلك يوصف الله - تعالى - [ بالقدرة ] على رد النسمة إلى الصلب بالوجه الذي ذكرنا ، لا أن يردها على ما هي عليه إلى الصلب ؛ لما في ذلك من الإحالة ، وكذلك إذا سألنا عن حركات أهل الجنة والسكون هل لهما غاية . ؟ . فنقول : لا . فإن قالوا : هل يعلم الله - تعالى - غايتها وعددها . فنقول له : يعلمها غير منقطعة ، لا أن يعلمها منقطعة ، ولم يكن في قولنا : إنه لم يعلمه منقطعا إثبات الجهل ولا نفي العلم عنه ؛ بل الجهل إنما يتحقق إذا وصف بالعلم بالانقطاع فيما لا ينقطع ، فكذلك ليس في نفي الوصف بالقدرة على المحال إثبات عجزه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { يَوْمَ تُبْلَىٰ ٱلسَّرَآئِرُ } ، أي : يظهر ما كان أخفى منها ؛ فجائز أن يكون الإظهار منصرفا إلى التي لم يطلع عليها الملائكة ؛ فتكتبها عليه ، فيذكره الله - تعالى - تلك السرائر كيف شاء ، فيقررها عليه ، أو تنطق جوارحه بها كقوله - تعالى - : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ … } الآية [ النور : 24 ] . أو يكون إظهار القراءة ما عليه ؛ فيظهر ذلك للخلق ، وإن كان قد أسرها عنهم في الدنيا ، ثم سمى ذلك : ابتلاء ؛ لأن الابتلاء هو الاختبار ، وإنما يكون الابتلاء بالسؤال ، أو بالأمر والنهي ، فسمى ما يسأل عنه في الآخرة : ابتلاء . وقوله - عز وجل - : { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } يحتمل وجهين : أحدهما : أن ليست له قوة في كتمان ذلك على نفسه ، ولا له قوة نفي العذاب عن نفسه لو كتم . أو ما له من قوة يمتنع بها ، ولا ناصر يمنعه عن نزول العذاب به . ووجهه : أن الكفار كانوا يفتخرون بقواهم وكثرة أنصارهم في الدنيا فكانوا يظنون أنهم لو أريدوا بالتعذيب ، دفعوا ذلك بأنصارهم ، وبما لهم من القوى ؛ فيخبر الله - تعالى - أن قواهم وكثرة أنصارهم لا تنفعهم في الآخرة ، ولا تدفع عنهم بأس الله تعالى ، وكانوا يعبدون الأصنام ؛ لتقربهم إلى الله - تعالى - وتنصرهم من العذاب ؛ كما قال : { وَٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ آلِهَةً لَّعَلَّهُمْ يُنصَرُونَ } [ يس : 74 ] ؛ فبين أنها لا تغني عنهم من الله - تعالى - شيئا .