Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 87, Ayat: 6-13)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ } ، أي : سنحفظ عليك ما أوحينا إليك من القرآن فلا تنسى ، وفي حفظه - عليه السلام - ما يوحى إليه دلالة رسالته ؛ لأنه لم يكن يعرف الكتابة ، ولا كان يتلو الكتب ، ثم كان يقرأ جميع ما يلقى إليه بمرة واحدة ، مع ما كان مأمورا ألا يحرك لسانه بشيء مما يوحى إليه إلى أن يقضى إليه الوحي ، ومن كانت حالته ما ذكرنا ، تعذر عليه حفظ ما يلقى إليه بمرات وإن كان ذلك لسانه ، فكيف يضبطه بمرة واحدة ؛ فكان حفظه بالمرة الواحدة نوعا من آيات نبوته . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } قال بعضهم : تأويله : إلا ما شاء الله من ذلك ؛ فإنه ينسيك ما أراد أن ينسيكه . ولكن ما أرى هذا التأويل صحيحا ، وذلك أن الذي أوحي إليه آية نبوته ؛ فرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ ، ثم أنسي ، فلمن طعن في رسالته أن يستقرئه تلك الآية ، ولا يتهيأ له أن يقرأها إذا كان قد أنسي ؛ فيجد في ذلك موضع الطعن عليه . وقد روي في بعض الأخبار أنه أنسي ، ولكنها من أخبار الآحاد ؛ فلا يجوز قطع الحكم بها ؛ لأن خبر الآحاد يوجب علم العمل ، ولا يوجب علم الشهادة ، وهي في موضع الشهادة هاهنا ، ولكن تأويله عندنا - والله أعلم - يخرج على أوجه ثلاثة : أحدها : أن الأنبياء - عليهم السلام - لم يكونوا آمنين على أنفسهم بالعصمة عن الزلات التي لديها يخاف زوال ما أنعموا به وإن ظهرت عصمتهم اليوم عندنا ؛ ألا ترى إلى قصة إبراهيم - عليه السلام - عند محاجة قومه قال : { أَتُحَٰجُّوۤنِّي فِي ٱللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي } [ الأنعام : 80 ] ، وقال : { وَٱجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ ٱلأَصْنَامَ } [ إبراهيم : 35 ] ، فخاف زوال ما أكرم به ، وخشي أن يبتلى بما أبتلي به أهل المعاصي حتى فزع إلى الدعاء ، وقال في قصة شعيب - عليه السلام - : { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ رَبُّنَا } [ الأعراف : 89 ] ، وقال في قصة يوسف - عليه السلام - : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ ٱلْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [ يوسف : 76 ] ؛ فثبت أنه لم يتبين لهم حقيقة العصمة عن الوقوع في الزلات التي تزيل النعم ، فكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمن عما يعقب الإنساء ؛ بل قيل له : { سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَىٰ * إِلاَّ مَا شَآءَ ٱللَّهُ } ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ؛ فثبت أنهم كانوا على خوف ووجل عن ارتكاب ما يسلب به الوحي وينسي . أو يكون الاستثناء راجعا إلى إنساء حكمه ، وهو أن ينسخ حكمه حتى يترك فيصير كالمنسي ؛ كقوله : { نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] ، أي : جعلهم كالشيء المنسي بما آيسهم من رحمته ، لا أن يكون هناك حقيقة نسيان ، فكذلك ما نسخ حكمه وترك ، صار كالمنسي ، وإن لم يكن فيه حقيقة نسيان ؛ فيكون النسيان منصرفا إلى حكم التلاوة ، لا إلى عينها . أو يكون - عليه السلام - يذهب خاطره عن [ بعض ما يوحى إليه ؛ إذا اشتغل فكره في أشياء أخر ؛ فيصير الذي ذهب عن ] وهمه كأنه نسيه وإن كان يعود ذلك إليه عند إحضاره ذهنه ، كما ترى المرء في الشاهد يذهب عن وهمه جميع ما في فاتحة الكتاب من الحروف إذا أعمل رؤيته في أشياء أخر ؛ حتى يصير كالناسي لها وإن كان يعود إلى تذكرها إذا رام أن يقرأها . فعلى هذه التأويلات يستقيم أن يوجه إليه الاستثناء ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّهُ يَعْلَمُ ٱلْجَهْرَ وَمَا يَخْفَىٰ } ، أي : ما يجهر بعض لبعض من الخلائق ، أو ما يسر بعض عن بعض . أو يعلم ما تطلع عليه الملائكة من أعمالهم ، ويعلم ما يعزب عنهم ، فعلمه فيما أسر العبد كعلمه فيما أظهر وجهر به ؛ فذكرهم هذا ؛ ليكونوا متيقظين ؛ فلا يخافون ، ولا يجهرون إلا بالذي يحق عليهم ؛ إذ الله - تعالى - حفيظ عليهم . وقوله - عز وجل - : { وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَىٰ } قالوا : ونسيرك للخير ولعمل أهل الجنة ، فسميت أعمال الخير : يسرى ؛ لأنها تعقب ذلك ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ } : ظاهر هذا يقتضي ألا يذكر إلا من نفعته الذكرى ، ولكن تخصيص الحكم في حال بوصف لا يوجب قطع ذلك الحكم فيما كان الحال بخلاف ذلك الوصف ؛ بل يلزمه أن يذكر من نفعه ومن لا ينفعه ؛ قال الله - تعالى - : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ } الآية [ الغاشية : 21 ] ، أمر بالتذكير على الإطلاق . ثم قوله - تعالى - : { إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ } يحتمل وجهين : أحدهما : أن ذكر فقد نفعت الذكرى ، وهو كقوله تعالى : { وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 108 ] ، ومعناه : قد كان وعد ربنا مفعولا . وقد نفعت الذكرى ؛ لأنه بتذكيره أسلم من أسلم منهم ، وبه فازوا ، وبه نالوا الدرجات العلا ، وقال تعالى : { وَذَكِّرْ فَإِنَّ ٱلذِّكْرَىٰ تَنفَعُ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [ الذاريات : 55 ] . أو يكون قوله - عز وجل - : { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ ٱلذِّكْرَىٰ } فسيأتي على أقوام [ حالة ] لا تنفعهم الذكرى لديها ، وتلك حالة المعاينة لبأس الله وعذابه . وقوله - عز وجل - : { سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَىٰ } ، أي : يتعظ بها من يخشى الله تعالى أو المعاد ، قال الله - تعالى - : { وَٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلأَخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ } [ الأنعام : 92 ] ، أي : بالقرآن ، وذلك أن الذي يحملهم على الإيمان بالآخرة إيمانهم بهذا الكتاب ؛ لأن في القرآن تذكيراً للآخرة ، وأمرا بالاستعداد لها ؛ فلذلك خشيته تحمله على الاتعاظ بالذكرى والانتفاع بها ، والخشية هي الخوف اللازم في القلوب . وقوله - عز وجل - : { وَيَتَجَنَّبُهَا ٱلأَشْقَى * ٱلَّذِى يَصْلَى ٱلنَّارَ ٱلْكُبْرَىٰ } : أضاف التجنب هاهنا إلى الأشقى ، وهو الشقي ، وفيما ذكر الأتقى أضاف التجنب إلى نفسه بقوله : { وَسَيُجَنَّبُهَا ٱلأَتْقَى * ٱلَّذِى يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّىٰ } [ الليل : 17 - 18 ] ؛ فيكون في هذا دلالة الإذن بإضافة الخيرات إلى الله - تعالى - وفي الأول دلالة منع إضافة الشرور إليه ؛ وهذا لأن إضافة الخيرات إلى الله تعالى تخرج مخرج الشكر له ، وهو حقيق بأن تشكر نعمه ، وليس في إضافة الشرور إلى آخر شكر له ؛ فلم يصح أن تضاف إليه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } ، أي : لا تنقضي عنه أفعال الموت ، وهي آلامها وأوجاعها ، [ بل ] يبقى في آلامها أبداً ؛ قال الله - تعالى - : { وَيَأْتِيهِ ٱلْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ } [ إبراهيم : 17 ] ، أي : لا يقضى عليه حتى يتخلص من أوجاعها . { وَلاَ يَحْيَا } ، فالحياة التي ينتفع بها في الدنيا هي التي ترتفع عنها آلام الموت ، وأوجاعه ، فقوله : { وَلاَ يَحْيَا } ، أي : لا يرتفع عنه ألم الموت . أو يكون قوله : { لاَ يَمُوتُ } فيستريح { وَلاَ يَحْيَا } حياة يتلذذ بها .