Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 88, Ayat: 17-26)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ … } إلى قوله : { وَإِلَى ٱلأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ } : خص الإبل بالذكر من بين جملة الدواب ، وخص السماء والجبال والأرض بالذكر ، وتخصيصها يكون لأحد وجهين : أحدهما : أن الإبل كانت من أخص دواب أهل مكة ، عليها كانوا يسافرون ، وعليها كانوا ينقلون ما احتاجوا إليه ، وهي أيضا - أعني : مكة - منشأة بين الجبال ، فكانت لا تفارقهم الجبال ، وكانت السماء من فوقهم والأرض من تحتهم ؛ فخصت هذه الأشياء بالذكر ؛ ليعتبروا بها ، ويتدبروا . ويحتمل وجها آخر : وهو أن المنافع المجعولة في الدواب كلها تجتمع في الإبل ؛ لأن منافع الدواب أن ينتفع بطهرها وبضرعها وبصوفها وبلحمها ونسلها ، فكل ذلك يوجد في الإبل ؛ فصارت الإبل كالأنعام تصلح للمنافع المتخذة في الدواب والبركات المعقودة فيها ، وكذلك عظم [ المنافع و ] البركات المعقودة فيها متصلة بالسماء ؛ ففيها جعلت أرزاقهم ، وفيها عين الشمس التي بها مصالح الأغذية وتراها مزينة بزينة الكواكب ، فهي - أيضا - كالأم في المنافع ، وكذلك الأرض كالأم في المنافع ؛ إذ فيها مأوى الخلق ، وقدر فيها أقوات الخلق وأرزاقهم ، ومنها يخرج ما يتخذون منه اللباس . ثم بالجبال قوام الأرض ، ولولاها لكانت الأرض تميد بأهلها ؛ فخصت هذه الأشياء بالذكر ؛ لما ذكرنا . ثم قوله : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ } يحتمل وجهين : أحدهما : على الأمر ؛ أي : فلينظروا . والثاني : أن يكون على سؤال تقدم منهم لأمر اشتبه عليهم ؛ فنزلت هذه الآية : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ … } إلى آخر الآيات ؛ أي : لو نظروا في هذه الأشياء لكان نظرهم فيها وتفكرهم بها ينزع عنهم الإشكال ، ويوضح لهم ما اشتبه عليهم . وذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : لما ذكر الله - تعالى - ما ذكر من نعيم الجنة عجبت قريش ، وقالت : يا محمد ، ائتنا بآية أن ما تقوله حق ؛ فأنزل الله - تعالى - : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى ٱلإِبْلِ كَيْفَ خُلِقَتْ } . ثم النظر في رفع السماوات والتفكر في خلقها بغير عمد ترونها والنظر والاعتبار في خلق الإبل ونصب الجبال وسطح الأرض ، وهو البسط - مما يوجب القول بالبعث ، ويدعو إلى وحدانية الرب تعالى ، وإلى القول بإثبات الرسالة ، وذلك أن الذي كان يحملهم على إنكار البعث هو أنهم كانوا يقدرون الأشياء بقوى أنفسهم ؛ فكانوا يظنون أن القوة لا تبلغ هذا ؛ إذ إحياء الموتى خارج عن وسعهم ، فلو نظروا ، وتفكروا في خلق السماوات والأرض ، لعلموا أن قوة الله غير مقدرة بقوى الخلق ، وذلك أن السماوات خلقت ورفعت في الهواء بغير عمد ، وأقرت كذلك ، لا تنحدر عن موضعها ، ولا تتصعد ، ولو أراد أحد أن يقر في الهواء ريشة حتى لا تسقط ولا تتصعد لم يقدر عليه ؛ فيكون في ذلك تنبيه أن قدرته قدرة ذاتية ليست بمستفادة ، وكذلك الجبال ترونها مع شموخها وارتفاعها وصلابتها زينت بالمياه والأشجار الملتفة من وجه لو تفكر فيه الخلائق فاستفرغوا مجهودهم ؛ ليعلموا من أي موضع يجتمع الماء ؟ وكيف ينبع ؟ وكيف تنبت الأشجار من بين الأحجار - لم يصلوا إلى معرفته ؛ فيعلموا أن علمه ليس بالذي يحاط به ، فيكون في ذكر هذا إنباء أنه لا يخفى عليه أمر ، ولا يعجزه شيء ، بل العالم كله تحت تدبيره يفعل بهم ما يشاء ، ويحكم ما يريد ، وأن الذي قدر على خلق هذا لقادر على إحيائهم وبعثهم للجزاء . وفي خلق هذه الأشياء ما يدعوهم إلى الوحدانية ؛ لأن الله - تعالى - جعل منافع الأرض متصلة بمنافع السماء ؛ فالقطر ينزل من السماء إلى الأرض الغبراء المتهشمة ؛ فينبت لهم من ألوان النبات رزقا لهم ولأنعامهم ، فلو كان مدبر السماء غير مدبر الأرض ، لكان يمنع منافع السماء عن خلق مدبر الأرض ، فلو تفكروا فيها ، لكان يزول عنهم الإشكال ؛ فلا يدعون مع الله إلها آخر ، ولا يقولون : { أَجَعَلَ ٱلآلِهَةَ إِلَـٰهاً وَاحِداً } [ ص : 5 ] . وقولنا : إن فيه إثبات الرسالة ، وذلك أنهم بما أنعموا من النعم التي ذكرناها لا بد أن يستأدي منهم الشكر ، ولا يعرف شكر كل شيء على الإشارة إليه بم يكون ؟ فلا بد من رسول يطلعهم على ذلك . فإن قيل : كيف أمروا بالنظر في كيفية خلق هذه الأشياء ، وهم لو نظروا آخر الأبد ؛ ليعرفوا كيف خلقت هذه الأشياء ، لم يهتدوا إلى ذلك الوجه ؟ فجوابه : أنهم لو تداركوا ذلك الوجه وفهموه ، لكان النظر فيها لا يرفع عنهم الإشكال ؛ إذ يقدرونه بأفعال الخلق التي يهتدى إليها ؛ فارتفاع التدارك ، وخروجه عن أوهامهم هو الذي يوضح لهم المشكل ، ويزيل عنهم الشبه ؛ إذ به عرفوا أنه حاصل بقدرة من لا تقدر قوته بقدرتهم ، وأنه خلافهم من جميع الوجوه ، والله الموفق . وقوله - عز وجل - : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } : في هذه الآية - والله أعلم - أمر من الله تعالى لرسوله عليه السلام ألا يجازيهم بصنيعهم إذا استقبلوه بما يكره من أذى يوجد منهم واستخفاف يجيء منهم ؛ فيقول : ذكرهم بالله تعالى ، وذكرهم عظيم نعمه وذكرهم كيف هلك مكذبو الرسل ، وكيف نجا من صدقهم وعظم أمرهم ولا تقهرهم ، ولا تجازهم بصنيعهم ، وكل ذلك إلى الله تعالى . وقوله - عز وجل - : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } ، قال بعضهم بمسلط . وقال بعضهم : لست بجبار . فإن أريد به الوجه الأول فهو مما يحتمله ، ويجوز أن يسلط عليهم في أن يؤذن بقتالهم ، وأسرهم وقهرهم ببذل الجزية ؛ ولهذا قيل : إن هذا كان قبل نزول سورة براءة . وإن كان تأويله : لست بجبار عليهم ؛ على ما روي عن مجاهد ؛ فهذا الوجه مما لا يرد عليه النسخ ، ولا يجوز أن يصير جبارا عليهم ، ولا يكون قوله : { إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ } استثناء ، ويكون معناه : لكن من تولى وكفر فيعذبه الله العذاب الأكبر ، أي : من أعرض عن طاعة الله تعالى وكفر بوحدانية الله تعالى وبكتبه ورسله ، [ فيعذبه الله العذاب ] الأكبر . وعلى التأويل الذي قيل : إن المسيطر هو المسلط بالسيف والأسر والقهر بالجزية التي هي صغار عليهم - يكون قوله تعالى : { تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ } على الاستثناء ، أي : من أعرض عن طاعة الله تعالى ، وكفر بوحدانيه الله فسيسلط عليهم بالسيف ، والأسر ، وأخذ الجزية . وقيل : { إِلاَّ مَن تَوَلَّىٰ وَكَفَرَ } ، أي : أعرض ، ولزم الإعراض ؛ فيكون مسيطرا عليهم . أو تولى وقت التذكير فسينتصر عليه ، وبالله النجاة . وفي هذه الآية بشارة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالظفر على الذين تولوا عن طاعة الله تعالى وكفروا به . وفيه آية رسالته ؛ لأنه قال هذا في وقت ضعفه ، وقلة أنصاره ، وكان الأمر كما قال ؛ إذ نصره الله - تعالى - بالرعب مسيرة شهرين ، وفتحت له الفتوح ؛ ليعلم أنه بالله - تعالى - علم . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } ، أي : مرجعهم . وقوله : { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } ، أي : من الحكمة أن نحاسبهم ، وإذا كانت الحكمة توجب حسابهم وتعذيبهم ، كان عليه أن يحاسبهم لما في تركه ترك الحكمة ، وفي تركها سفه ، تعالى الله عن ذلك ، وبالله النجاة ، ومنه التوفيق .