Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 89, Ayat: 15-30)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ * وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَهَانَنِ * كَلاَّ } الإشكال أن يقول قائل : قول ذلك الإنسان : { رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } ، و { رَبِّيۤ أَهَانَنِ } خرج موافقا لما قاله الرب تعالى ؛ لأنه قال : { فَأَمَّا ٱلإِنسَانُ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } ؛ فخرج قوله : { رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } على الموافقة لما قال ، وكذا قول هذا الإنسان حيث ابتلي بنقيضه : { رَبِّيۤ أَهَانَنِ } ، خرج موافقا لما قال : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ } ، فإذا كان الأول إكراما كان الذي يضاده إهانة ؛ ألا ترى أن الله - تعالى - سمى المال : خيرا ، والفقر : شرا ، وسمى المطيع : محسنا ، والعاصي : مسيئا ، فكذا إذا استقام القول بالإكرام عندما ينعم عليه ويكرم ، استقام القول بالإهانة إذا ضيق عليه الرزق ولم يكرم ، وإذا كان هكذا فكيف رد عليه مقالته بقوله : { كَلاَّ } ، وهو في ذلك صادق . ولكن نحن نقول : إن الرد بقوله : { كَلاَّ } لم يقع على نفس القول ، ولا انصرف إليه ، وإنما انصرف إلى ما أراده بقوله ؛ لأن القائل بهذا كافر بالله تعالى وباليوم الآخر ، وكان يقول : لا بعث ولا جزاء ، وإنما يجازون بأعمالهم في هذه الدنيا ، فمن أحسن أحسن له ، ومن أساء أهين ؛ فيكون قوله : { كَلاَّ } ، أي : ليس الأمر كما صوره في نفسه ؛ بل الدنيا دار عمل ، وللجزاء بالكفر والإيمان دار أخرى ، وهذا كقوله : { إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] ، وهم لم يكونوا كاذبين في شهادتهم ومقالتهم ، بل كانوا صادقين أنه رسول [ الله ] ، وإن الله - تعالى - يعلم أنه رسوله ، ولكنهم كانوا اعتقدوا تكذيبه في قلوبهم ؛ فكانوا يظهرون خلاف ما أضمروا في أنفسهم ؛ فإلى ما أضمروا انصرف التكذيب ، لا إلى نفس القول ؛ كذا هذا . ولأن أهل الكفر كانوا أصنافا : فمنهم من كان يرى إذا بسط عليه النعيم في الدنيا وأكرم فإنما بسط عليه لما استوجبه بفعله ، وإذا ضيق عليه وابتلي بالشدة فإنما ضيق عليه بإساءته وبما كسبت يداه . ومنهم من كان يظن أنه من الله - تعالى - بمنزلة ، وأنه مستوجب للإنعام ، وأنه إذا بلي بضيق العيش وأصابته شدة ، أصابه ذلك من عند محمد عليه الصلاة والسلام ؛ فيتشاءمون به ؛ ألا ترى إلى قوله : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـٰذِهِ مِنْ عِندِكَ } [ النساء : 78 ] ؛ وعلى هذا كان ظن فرعون [ وقومه ] ؛ قال الله - تعالى - : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ ٱلْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـٰذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَىٰ وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] . فقوله : { فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ } ، أي : أكرمه في نفسه بأن أصح جسمه ، أو جعله رئيس قومه ، { وَنَعَّمَهُ } ، أي : بسط الدنيا عليه : { فَيَقُولُ رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } ؛ فكان ينظر بذلك . وقوله : { وَأَمَّآ إِذَا مَا ٱبْتَلاَهُ } أي : إذا اختبره ؛ فضيق عليه رزقه ، فيقول : { رَبِّيۤ أَهَانَنِ } ؛ فكان يظهر بذلك الجزع والله - تعالى - اختبره بالنعم ؛ ليستأدي منه الشكر بما أنعم ، وابتلاه بضيق العيش ؛ ليصبر ، لا ليجزع ؛ فلا شكر [ هذه النعم ] بل بطر ، ولا صبر على الشدائد ؛ بل جزع ؛ فجائز أن يكون المراد بقوله : { كَلاَّ } ، منصرفا إلى هذا ردا لاعتقادهم وصنيعهم ، وهو أنه لم يكرم ولم ينعم ليبطر به ، ولا ضيق عليه رزقه ليجزع ، بل إنما أنعم ليشكر ، وقدر عليه رزقه ليصبر ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { بَل لاَّ تُكْرِمُونَ ٱلْيَتِيمَ } جائز أنهم كانوا لا يكرمونه ويهينونه مع ذلك ؛ لأن إكرام اليتيم ليس بواجب ، أما إهانته فحرام . وجائز ألا يثبت الإهانة منهم مع نفي الإكرام ؛ لأن الإيجاب إذا ذكر في مضادة الإيجاب اقتضى ذلك إثبات المقابلة وإذا ذكر الإيجاب في مضادة النفي ، أمكن أن تثبت فيه المقابلة ، وأمكن ألا تثبت ؛ ألا ترى : أنه إذا قيل : فلان جائر ، كان فيه إثبات المقابلة وهي نفي العدل ؛ لأن [ في ] قوله : " جائر " إثبات الجور ؛ فكان في ذكره نفي العدالة ، وفيه إثبات المقابلة ، وإذا قلت : ليس بعدل ، لم يكن فيه تحقيق لإثبات المقابلة وهو الجور ، بل يجوز أن يكون جائراً ، ويجوز ألا يكون ، وقد يراد بالنفي إثبات المقابلة أيضا ؛ قال الله تعالى : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ } [ البقرة : 16 ] ؛ فكان في نفي الربح إثبات المقابلة في أنها خسرت . ثم إكرام اليتيم هاهنا يحتمل أوجها ثلاثة : أحدها : أن يكرمه في أن يحفظ عليه ماله حتى لا يضيعه ، ويكرمه في نفسه ، وهو أن يتعاهد أحواله عن أن يدخل فيها خلل . والوجه الثاني : أن يكرمه ؛ فيعلمه آداب الشريعة ، ويرشده إليها . والوجه الثالث : أن يكرمه ؛ فيبذل له من ماله قدر حاجته إليه ، ويصطنع إليه المعروف ؛ فيكون التعيير هاهنا في إهانة اليتيم أن يترك الإكرام الذي هو من باب حفظ ماله ؛ فيكون تضييعا ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَلاَ تَحَآضُّونَ عَلَىٰ طَعَامِ ٱلْمِسْكِينِ } ، أي : لا يحثون غيرهم على إطعام المساكين . وجائز أن يحضوا ولا يتولوا بأنفسهم الإطعام . ويحتمل ألا يتولوا ذلك بأنفسهم ، ويحضوا غيرهم . ففي هذه الآية ترغيب للمسلمين بإكرام اليتيم وتعاهد ماله ، وتبيين أن عليهم أن يطعموا بأنفسهم ، وأن يحثوا الأغنياء بإطعام المساكين ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً } فاللم : الجمع ؛ يقال : لم المال ؛ إذا جمع ؛ فكأنه يقول : يجمعون ما لم يرثوه بأنفسهم - وذلك نصيب الأيتام - إلى ما يرثون من أنصبائهم ، فيأكلونه جميعا . وقال بعضهم : { وَتَأْكُلُونَ ٱلتُّرَاثَ أَكْلاً لَّمّاً } ؛ ، أي : شديدا . وقوله - عز وجل - : { وَتُحِبُّونَ ٱلْمَالَ حُبّاً جَمّاً } قال أبو بكر : أي : تحبونه حبا وفيا وافرا ليس فيه قصور ؛ فيكون فيه إخبار عن غاية حبهم الدنيا وشدة حرصهم عليها . وجائز أن يكون على التقديم والتأخير ، وهو أنهم يحبون المال الجم حبا ؛ أي : المال الكثير . وقوله : { كَلاَّ } ؛ ردع وتنبيه : فمنهم من رد هذا الردع إلى قوله : { رَبِّيۤ أَكْرَمَنِ } ، و { رَبِّيۤ أَهَانَنِ } ، فكأنه يقول : كلا ليست هذه الدار دار جزاء ؛ فيكون الإهانة والإكرام بحق الجزاء ، وإنما هي دار محنة وابتلاء . ومنهم من حمله على الابتداء ، فقال : { كَلاَّ إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ دَكّاً دَكّاً } بمعنى حقا ، يخبر عن ندمه في [ تركه الإكرام لليتيم ] ، وترك إطعام المسكين والحض عليه : { إِذَا دُكَّتِ ٱلأَرْضُ } أي : دقت وكسرت ، وذلك يوم الحساب والبعث . وقوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ وَٱلْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً } يحتمل أوجها : أحدها : أن يكون معناه : وجاء ربك بالملك ؛ إذ يجوز أن تستعمل الواو مكان الباء ؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { قَالُواْ يَامُوسَىۤ إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ } [ المائدة : 24 ] ، ومعناه : بربك ، وإذا حصل على هذا ارتفعت الشبهة ، واتضح الأمر ؛ لأنه لو كان قال : وجاء ربك بالملك ، لكان لا ينصرف وهم أحد إلى الانتقال من مكان إلى مكان ، وقال - تعالى - : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِّنَ ٱلْغَمَامِ } [ البقرة : 210 ] ، ومعناه - والله أعلم - : بظلل من الغمام ؛ لأنه قال في موضع آخر : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ بِٱلْغَمَامِ } [ الفرقان : 25 ] ؛ فثبت أن معناه ما ذكرنا وإذا ثبت هذا ارتفع الريب والإشكال . ومنهم من ذكر أن معنى قوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ } ، وقوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ ٱللَّهُ } [ البقرة : 210 ] ، أي : أمر الله ؛ دليله ما ذكر في سورة النحل قوله : { هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ ٱلْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } [ النحل : 33 ] ، فذكر مكان قوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ } : { أَمْرُ رَبَّكَ } . ويحتمل أن يكون قوله : { وَجَآءَ رَبُّكَ } ، أي : جاء وعده ووعيده ، فنسب المجيء إلى الله تعالى ، وإن لم يكن ذلك وصفا له ؛ لأنه يجوز أن تنسب آثار الأفعال إلى الله - تعالى - نسبة حقيقة الفعل وإن لم يوصف به ، كما قال الله - تعالى - : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] فأضيف النفخ إليه وإن لم يوصف بأنه نافخ ، وقال : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ ٱلنَّفْسَ بِٱلنَّفْسِ } [ المائدة : 45 ] ، فأضيفت الكتابة إليه وإن لم يوصف بأنه كاتب ؛ لما أن ما ظهر من آثار فعله ، ويقال : المطر رحمة الله ؛ أي : من آثار رحمته ، لا أن يكون المطر صفة له ، ويقال : الصلاة أمر الله ، والزكاة أمر الله ، أي : بأمر الله نصلي ، وبأمره نزكي ، لا أن يكونا وصفين له . ووجه آخر : أن يكون معنى قوله - تعالى - : { وَجَآءَ رَبُّكَ } ، أي : جاء الوقت الذي به صار إنشاء هذا العالم حكمة ؛ إذ لولا البعث للجزاء ، لكان إنشاء هذا العالم ثم الإهلاك خارجا مخرج العبث ؛ لما وصفناه من قبل ؛ لقوله : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] ؛ فثبت أن خلقه إنما صار حكمة بالبعث ، وقال [ الله ] تعالى : { لِّمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [ غافر : 16 ] وقد كان الملك له قبل ذلك اليوم ، ولكن ملكه لكل أحد يتبين في ذلك الوقت ، وقال : { وَبَرَزُواْ لِلَّهِ جَمِيعاً } [ إبراهيم : 21 ] وقد كان كل شيء له بارزاً ، ولكن معناه : أنه أتى الوقت الذي له برز الخلائق . ثم الأصل في كل ما أضيف إلى الله - تعالى - أن ينظر إلى ما يليق أن يوصل بالمضاف إليه ، فتصله به وتجعله مضمرا فيه ، قال الله - تعالى - : { مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلاَثَةٍ إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ } [ المجادلة : 7 ] ، ولم يفهم إثبات الحضور ، وكان معناه : أن علمه محيط بهم ، وهو مطلع عليهم . وقال : { فَأَتَاهُمُ ٱللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } [ الحشر : 2 ] [ و ] لم يفهم به الانتقال ؛ بل كان معناه : أنه جاءهم بأسه ، وجاء لأوليائه نصره . وقال : { قَدْ مَكَرَ ٱلَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى ٱللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِّنَ ٱلْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ ٱلسَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ } [ النحل : 26 ] ، ولم يفهم بهذا الإتيان ما فهم من الإتيان الذي يضاف إلى الخلق . وقال [ الله ] تعالى : { إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرْكُمْ } [ محمد : 7 ] ، وكان معناه : إن تنصروا دين الله ؛ لا أن الله - تعالى - يلحقه ضعف يحتاج إلى من يقويه . وقال [ الله ] تعالى : { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمران : 28 ] ، وكان معناه : أنه يحذركم عذابه ؛ لا أن أريد به تحقيق النفس . ومثل هذا في القرآن أكثر من أن يحصى ؛ فثبت أن محل الإضافات ما ذكرنا ؛ فلذلك حمل على الوعد والوعيد ، أو على الوقت الذي به صار خلق العالم حكمة ، أو على ما صلح فيه من الإضمار . ومما يدل على أنه لا يفهم بالمجيء معنى واحد ، بل يقتضي معاني : أن المجيء إذا أضيف إلى الأعراض ، فهم به غير الذي يفهم به إذا أضيف إلى الأجسام ؛ فإنه إذا أضيف إلى الأعراض أريد به الظهور ؛ قال الله تعالى : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ ٱللَّهِ } [ النصر : 1 ] ومعناه : إذا ظهر نصره ، ولم يرد به الانتقال ، ولو كان مضافا إلى الجسم ، فهم منه الانتقال من موضع إلى موضع . وقال الله تعالى : { وَقُلْ جَآءَ ٱلْحَقُّ وَزَهَقَ ٱلْبَاطِلُ } [ الإسراء : 81 ] ، ومعناه : ظهر الحق ، واضمحل الباطل ، لا أن يكون الحق في مكان ، فنقل عنه إلى غيره ؛ فثبت أن المجيء إذا أضيف إلى شيء وجب أن يوصل به ما يليق به ؛ لا أن يفهم به كله معنى واحد . وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال - حكاية عن الله تعالى - : " من تقرب إلي شبرا تقربت إليه ذراعا ، ومن تقرب إلي ذراعا ، تقربت إليه باعا ، ومن أتاني ساعيا أتيته هرولة " ولم يفهم من هذا التقرب ما يفهم منه إذا أضيف إلى الخلق ، وكان معناه : من تقرب إلي بالطاعة والعبادة تقربت إليه بالتوفيق والنصر أو بالإحسان والإنعام . وقال موسى - عليه السلام - : " يا رب أقريب أنت فأناجيك أو بعيد فأناديك ؟ ! " ، ولم يرد به المكان ؛ وإنما أراد بقوله : أراض أنت عني فأناجيك ، أو ساخط علي فأناديك في أن أعلن بالبكاء والتضرع ؟ ! ثم الأصل في المجيء المضاف إلى الله - تعالى - أن يتوقف فيه ؛ ولا يقطع الحكم على شيء ؛ لما ذكرنا أن المجيء ليس يراد به وجه واحد ؛ لأنه إذا أضيف إلى الأعراض أريد به غير الذي يراد به إذا أضيف إلى الأجسام والأشخاص ، [ والله أعلم ] . والله تعالى لا يوصف بالجسمية حتى يفهم من مجيئه ما يفهم من مجيء الأجسام ، ولا يوصف بالعرض ؛ ليراد به ما يراد من مجيء الأعراض ؛ فحقه الوقف في تفسيره مع اعتقاد ما ثبت بالتنزيل من غير تشبيه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } . قيل فيه من أوجه : أحدها : أنها ظهرت وبرزت لأهلها ، على ما قال في آية أخرى : { وَبُرِّزَتِ ٱلْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ } [ الشعراء : 91 ] ، لا أنها كانت في مكان فنقلت عنه ، وقد يراد بالمجيء الظهور ، قال الله - تعالى - : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } [ التوبة : 128 ] ، ومعناه : ظهر لكم ، لا أن كان في مكان آخر فجيء به إليهم . وقال بعضهم : جيء بأهلها إليها - أي : إلى جهنم - فيكون حقيقة المجيء من الأهل ، ثم نسب إليها ؛ لأنهم إذا أتوها فقد أتتهم هي ، وهو كقوله : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } [ مريم : 61 ] ؛ فنسب الإتيان إلى الذي يأتيه الوعد ؛ فيكون الوعد هو الذي يأتي أهله . وقال بعضهم : { وَجِيۤءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } ، أي : يجيء زفرتها وشهيقها وتغيظها على أهلها ، لا أن تغير عن مكانها . ومنهم من حمله على حقيقة المجيء ؛ فذكر أنه يؤتى بها ولها سبعون ألف زمام ، على كل زمام سبعون ألف ملك ، والله أعلم بذلك . وقوله - عز وجل - : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ } يحتمل أن يتذكر إشفاق الأنبياء - عليهم السلام - ونصحهم لهم ؛ فيعلم أنه كان فيما توهم بهم من الظنون الفاسدة مبطلا ؛ فيكون تذكره ذلك تصديقا منه للرسل ، عليهم [ السلام ] . { وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } ، أي : لا ينفعه تصديقه إياهم ، إذ لم يصدقهم في الدنيا . أو يتذكر في أن يتلهف على ما فرط في جنب الله من التقصير في حقوقه ، والتضييع الذي سبق منه حيث لم يشكر نعمه ، ولم يوجه إليه العبادة ؛ فيكون تلهفه ذلك إيمانا ، ولكن لا ينفعه تلهفه في ذلك الوقت ؛ لأن تلك الدار ليست بدار امتحان ، بل هي دار جزاء ، والذي يحمله على التصديق مشاهدته الجزاء والحساب ، وعند المشاهدة ترتفع المحنة ، ويكون إيمانه ذلك ضروريا لا حقيقة ؛ فلذلك لا ينفعه ، وإنما ينفعه الطاعة وقت ملكه نفسه ، فأما إذا خرج ملك نفسه من يده ، لم يقع له بالإيمان جدوى . وقال بعضهم : { يَتَذَكَّرُ ٱلإِنسَانُ } ، أي : يتعظ ، { وَأَنَّىٰ لَهُ ٱلذِّكْرَىٰ } ، أي : أنى له الانتفاع بالموعظة . ثم في هذا التذكير بيان لطف من الله تعالى بعظته حتى يتذكر ، وإلا فالإنسان يذهب عليه ما قد كتبه في وقت إذا أتى عليه حين ، حتى لو أراد أن يتذكر وقت كتابته لم يقدر عليه ، ثم الله - تعالى - يذكره في الآخرة جميع ما سبق منه في الدنيا فيتذكر ذلك ؛ فيقول : { يٰلَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } ، أي : يا ليتني قدمت لنفسي حياة تسلم لي ، أو حياة تبقى لي لذتها ، فهذا هو تلهفه وتذكره في ذلك اليوم ، يتلهف على ما فاته من الخيرات ، ويندم على ارتكابه المعاصي وكفرانه نعم الله تعالى . ومعنى قولنا : حياة تسلم لي ؛ فأتلذذ بها : هو أن الكافر ، وإن كانت له حياة في الظاهر ، فإنما حياته للتعذيب ، فتلك له في الحقيقة ليست بحياة ، بل هي إهلاك ؛ ألا ترى أن الإنسان إذا أخذ في النزع فهو في ذلك الوقت حي بعد ، لكن حياته للإهلاك ، فليست هي في الحقيقة حياة لكنها إهلاك فعلى ذلك الوقت حي بعد ، لكن حياته للإهلاك ، فليست هي في الحقيقة حياة لكنها إهلاك فعلى ذلك حياة المخلد في النار . وقوله - عز وجل - : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } : قرئت هذه الآية على نصب الذال والثاء ، وعلى الخفض فيهما : فمن قرأهما على الخفض فهو يحتمل وجهين : أحدهما : أن العذاب في الدنيا وإن اشتد من الملوك على الإنسان ، فهو لا يبلغ عذاب الله تعالى لأعدائه في الآخرة وإن خف . أو { لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } ، أي : لا ينبغي لأحد في الدنيا أن يعذب أحدا بعذاب الله - تعالى - وهو النار ، كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يعذب أحد بعذاب الله تعالى " وإن كان على النصب ، فهو يحتمل وجهين أيضا : أحدهما : أن يكون التأويل منصرفا إلى صنف من الكفرة ، وهم الذين بلغوا في الكفر أعلى مراتبه ؛ فلا يعذب من دونهم بعذابهم . والثاني : ألا يعذب أحد مكان أحد كما يفعله ملوك الدنيا في أنهم يعذبون الوالد مكان الولد ، ويعذبون من يتصل بالذين استوجبوا العذاب . وقوله - عز وجل - : { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ } : فالمطمئنة : هي الساكنة التي لا ترتاب ، ولا تضطرب ؛ فتكون طمأنينتها بوعد الله ووعيده ، وأمره ونهيه ، وتوحيده . ثم يجوز أن يكون هذا في أمر الدنيا ؛ فيكون قوله - عز وجل - : { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ } ، أي : ارجعي إلى ما أمرك ربك { رَاضِيَةً } بوعد الله ووعيده ؛ فتكون راضية بالذي وعد لها في الآخرة جزاء لكدحها وسعيها في الدنيا ، { مَّرْضِيَّةً } عند الله تعالى . { فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي } ، أي : مع عبادي الصالحين . { وَٱدْخُلِي جَنَّتِي } ، أي : ادخلي فيما يستوجب به الجنة . وجائز أن يكون هذا في الآخرة ، وهو : أن يقال للنفس التي اطمأنت في الدنيا بوعد الله ووعيده ، وعملت بطاعته : { ٱرْجِعِي إِلَىٰ رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَٱدْخُلِي فِي عِبَادِي * وَٱدْخُلِي جَنَّتِي } . وقيل : { يٰأَيَّتُهَا ٱلنَّفْسُ ٱلْمُطْمَئِنَّةُ } بالدنيا { ٱرْجِعِي } إلى طلب الآخرة ، وما أعد الله تعالى لأوليائه فيها . وقيل : { ٱلْمُطْمَئِنَّةُ } على عباده ، { ٱرْجِعِي } إلى طاعة الله تعالى ؛ فإنك إذا فعلت ذلك ، رضي الله تعالى عنك ، ورضيت بعطاء الله تعالى وثوابه إياك في الآخرة ، والله أعلم [ بالصواب ، وإليه المرجع والمآب ] .