Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 89, Ayat: 1-14)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَٱلْفَجْرِ * وَلَيالٍ عَشْرٍ } كان العرب من عادتهم أنهم إذا استحسنوا شيئا عظموه ، وإذا عظموه أقسموا به . ثم - إن الله - تعالى - جعل في الحج وأوقاته لطائف من الحكمة وعجائب من التدبير ، فمن لطيف حكمته وعجائب تدبيره أنه جعل المكان الذي يحج فيه مأمنا للخلق من وجه لا يعرف الخلائق المعنى الذي به وقع الأمن والإلف بين الخلق ؛ حتى رغبوا جميعا في الاجتماع هنالك مع تباغضهم وتعاديهم فيما بينهم من وجه لا يدرك معناه ، وجعل أهلها يتقلبون في البلاد آمنين ؛ حتى قال - عز وجل - لنبيه - عليه السلام - : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فِي ٱلْبِلاَدِ } [ آل عمران : 196 ] [ و ] سخر أهل الآفاق في حمل ما يقع لأهل مكة إليه حاجة من الميرة وغيرها ، وجعلهم بحيث يرغبون في الإتيان إليها مع عظم ما يلزمهم من المؤن في الإتيان إلى مكة للحج ؛ فثبت أن فيها معاني ولطائف هي خارجة عن قواهم وتدبيرهم ؛ فكان في ذكرها ما يوجب القول بالقدرة على البعث ، ويزيل عنهم الشبهة في أمرهم ؛ فأقسم لما عظم من شأنها لمكان أنها أوقات الحج ، فعامة أركان الحج تؤدى فيها ، وعادة العرب أنهم يقسمون بآبائهم وأجدادهم وأصنامهم ؛ لما هي معظمة عندهم ، وهذه الأشياء معظمة عندهم ؛ فجرى القسم بها ؛ جريا على عادتهم ، ويدخل في أوقاتها الشفع والوتر والفجر ، فقالوا : الشفع : يوم النحر ؛ لأنه اليوم العاشر من الشهر ، والوتر يوم عرفة ؛ لأنه اليوم التاسع . وجائز أن يكون أريد بالشفع والوتر والليل إذا يسر : العبادات جملة إذ ما من عبادة إلا وفيها شفع ووتر . وقوله - عز وجل - : { وَٱلَّيلِ إِذَا يَسْرِ } ، أي : يُسرى بها ، وفي ذلك كناية عن الجهاد والإغارة بالليل ، كما يذكر في قوله : { وَٱلْعَادِيَاتِ ضَبْحاً * فَٱلمُورِيَاتِ قَدْحاً * فَٱلْمُغِيرَاتِ صُبْحاً } [ العاديات : 1 - 3 ] ؛ فيكون هذا كله إشارة إلى جملة العبادات . ووجه القسم بالعبادات : أن الله - تعالى - عظم أمر العبادات في قلوب الخلائق ؛ حتى تراهم جميعا يستحسنونها ويعظمون أمرها ، وإنما يقع الاختلاف بينهم في ماهيتها - إلا أن يقع التمانع بينهم في أنفسها - فأقسم بها . وجائز أن يكون أريد بالوتر هو الله تعالى ، وأريد بالشفع الخلائق ؛ إذ خلقهم أزواجا ، والله تعالى هو الواحد بذاته ؛ فيكون القسم بذاته وبجميع الخلق . ويحتمل أنه أريد بالشفع والوتر [ الخلائق جملة ؛ إذ فيهم المعنيان جميعا : الشفع ، والوتر ؛ فيكون قسما بجميع الخلائق ] . وقوله - عز وجل - : { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } يحتمل أن يكون تأويله : أن وجه القسم بهذه الأشياء يعرفه ذوو الحجر ، وهم ذوو الألباب والحجا ، لا أن يعرفه الجهلة . قالوا : وموضع القسم على قوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } . وجائز أن يكون وقع التنازع فيما بينهم ، وكانوا يزعمون أن أوقات الحج ، وهي الليالي العشر ، والشفع والوتر ، ليس يقسم بها ؛ فقال : { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } ، أي : للعاقل إذا تدبر فيها عرف أن هذه الأوقات بالتي تحتمل أن يقسم بها أو هذه الأوقات بالتي تدلهم على القول بالبعث . وقيل : إنما أقسم بهذه الأيام ؛ لعظم قدر هذه الأيام وخطرها عندهم ؛ لما فيها من صلاح معايشهم ، ويكون لهم فيها سعة العيش : أما الفقراء بالهدايا والبدن ، وأما غيرهم بأنواع المكاسب والتجارات ؛ فإنهم كانوا يستعدون الأشياء ، ويهيئون من السنة إلى السنة للتجارة في هذه الأيام ؛ فأقسم الله - تعالى - بهذه الأيام لكونها معظمة عندهم . وقيل : إن موضع القسم غير مذكور في هذه السورة ؛ لأنه كان على أثر حادثة عندهم معروفة ، استغنى عن ذكرها ؛ لشهرتها عندهم ؛ فأقسم أنها لحق ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ ٱلْعِمَادِ * ٱلَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } في [ ذكر نبأ ] عاد وثمود وفرعون فوائد ثلاث : إحداها : في موضع التخويف لأهل مكة الذين كذبوا رسوله - عليه السلام - و [ هو ] أن أولئك القوم كانوا أكثر أموالا وأولادا وأعدادا ، وأكثر في القوة من هؤلاء الذين كذبوا محمدا [ عليه أفضل الصلوات ] ، فلم يغنهم ذلك كله من الله تعالى شيئا ؛ بل الله تعالى انتقم منهم لرسله - عليهم السلام - بما كذبوهم ، فما بال هؤلاء الذين كذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم لا يخافون مقته وحلول النقمة بهم بتكذيبهم رسوله ، وليسوا بأكثر من أولئك في العدد والمال والقوة ؟ ! وفائدة أخرى : أن أولئك كانوا يزعمون أنهم بالله - تعالى - أولى من محمد عليه الصلاة والسلام وأتباعه ؛ لما بسط لهم من النعيم ، وضيق على الرسول وأتباعه ؛ فبين أن الذين تقدمهم من مكذبي الرسل كانوا أرفع منهم في القوى والأموال والأولاد والأعداد ، وكانت رسلهم في ضيق من العيش ، ثم كانوا هم أولى بالله تعالى من المكذبين المفتخرين بكثرة الأعداد والقوى ؛ فبين لهم هذا ليعلموا أن ليس الأمر على ما ظنوا وحسبوا . والثالثة : أنهم كانوا يمتنعون عن الإيمان بالله تعالى وبرسوله ، وكانوا يقولون : { إِنَّا وَجَدْنَآ ءَابَآءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ ءَاثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] ؛ فيكون في ذكر هذا نفي التقليد لأولئك ؛ لأنه كان في آبائهم من أهلك بتكذيبهم الرسل ، وهم الفراعنة وأتباعهم ، وفيهم من نجا ، وهم الرسل وأتباعهم المصدقون لهم ، فما بالهم قلدوا المهلكين منهم دون الذين نجوا ؟ ! . ثم الآية لم تسق ؛ لتعرف نسب عاد وثمود وفرعون حتى نشتغل بتعرفه ، وإنما سيقت للأوجه التي ذكرنا ؛ فالاشتغال بتعرف أنسابهم وأحوالهم نوع من التكلف . وقوله : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ } فقوله : { أَلَمْ تَرَ } يحتمل وجهين : أحدهما : أي : قد رأيت ؛ أي : علمت ؛ كما يقال في الشاهد : ألم تر إلى ما فعل فلان ؛ أي : قد رأيت وعلمت ، فتخبره بصنيعه على جهة التشكي منه . ويحتمل أن يكون هذا ابتداء إعلام منه ، فيقول له : اعلم أن ربك فعل بعاد كذا . واختلفوا في قوله : { إِرَمَ } : فقال بعضهم : هو أبو عاد . وقال بعضهم : أبو القبيلة ؛ فنسبت إليه عاد ؛ كما يقال : هو من بكر بن وائل ، وإن لم يكن ابنه . وقال بعضهم : الإرم مساكن عاد . وقيل : هو اسم الذي بنى تلك الأماكن . وقوله - عز وجل - : { ذَاتِ ٱلْعِمَادِ } : قال بعضهم : ذات الأجساد الطوال ، أي : عاد ذات الأجساد الطوال ، كما ذكر في القصة . وقال بعضهم : ذات البناء المشيد المرفوع في السماء كالعمد الطوال ؛ فيرجع إلى الإرم على تأويل من جعله عبارة عن المساكن . وقال بعضهم : ذات العماد هي الخيام لها أطناب وعمد ، وكانوا أصحاب خيام وقباب ، وكانت مساكنهم مرفوعة بالعماد . وقوله - عز وجل - : { لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي ٱلْبِلاَدِ } : قال بعضهم : هذا وصف القوم بالشدة والقوة وعظم الخلقة ، وفضل البصر في الأمور ؛ كقوله - تعالى - : { وَزَادَكُمْ فِي ٱلْخَلْقِ بَصْطَةً } [ الأعراف : 69 ] ، وقال حكاية عنهم : { وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] وقال - تعالى - : { وَكَانُواْ مُسْتَبْصِرِينَ } [ العنكبوت : 38 ] فوصفهم بفضل البصر . وجائز أن يكون أريد بها المساكن التي بنوها أن ليس مثلها في البلاد . وقوله - عز وجل - : { وَثَمُودَ ٱلَّذِينَ جَابُواْ ٱلصَّخْرَ بِٱلْوَادِ } : قال بعضهم : اتخذوا من الصخور جوابي - أي : قصاعا - كما قال تعالى : { وَجِفَانٍ كَٱلْجَوَابِ } [ سبأ : 13 ] . وقال بعضهم : قطعوا في الصخور بيوتا ؛ كقوله : { يَنْحِتُونَ مِنَ ٱلْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ } [ الحجر : 82 ] ؛ فيكون في هذا إخبار عن قواهم وشدتهم . وقوله - عز وجل - : { وَفِرْعَوْنَ ذِى ٱلأَوْتَادِ } : قال بعضهم : سماه : ذا الأوتاد ، والوتد : الحبل . وقال بعضهم : سمي : ذا الأوتاد ؛ لأنه كانت له أوتاد نصبها لتعذيب من غضب عليه . وقال بعضهم : إنه كان نصب على الطرق أناسا ، على كل طريق إنسانا راصدا وحافظا . وقيل : أي : ذو قصور وبنيان مشيدة مرفوعة تشبه الجبال ؛ إذ هي أوتاد الأرض . وقوله - عز وجل - : { ٱلَّذِينَ طَغَوْاْ فِي ٱلْبِلاَدِ * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا ٱلْفَسَادَ } : طغيانهم في البلاد : تمردهم وعتوهم فيها . وقوله : { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } : قال بعضهم : عذبهم بسوطهم الذي كانوا به يعذبون الخلق ، ويضربونهم . وقال أبو بكر الأصم : إن السوط لون من العذاب ؛ فعذب عاداً بلون منه ، وعذب ثمود بلون منه ، وفرعون وأتباعه بلون منه . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } : قال أبو بكر الأصم : يرصد عذابه بأعدائه ينتظر به آجالهم ، ثم يوقع بهم العذاب إذا أتى الأجل . وعندنا : أنه يرصد عليهم [ ما عملوا ] ، فلا يشتد عليه ، ولا يعزب عنه شيء من علمهم ؛ بل يحفظ عليهم ما استتر منه وما ظهر . وقيل : أي : لا يجاوزه ظلم ظالم ، ولا يفوته هارب . ثم لم ينصرف وهم أحد في قوله - تعالى - : { إِنَّ رَبَّكَ لَبِٱلْمِرْصَادِ } إلى إتيان مكان ، فما بال بعض الناس انصرف وهمهم في قوله : { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَى ٱلْعَرْشِ ٱسْتَوَىٰ } [ طه : 5 ] على : جعل العرش مكانا له .