Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 9, Ayat: 103-105)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } اختلف في هذه الصدقة التي أمر الله رسوله بأخذها من أموالهم : قال بعضهم : هي صدقة فريضة ، ثم اختلف فيها أية فريضة هي ؟ فقال بعضهم : فريضة زكاة الأموال . وقال بعضهم : هي فريضة كفارة المآثم ، وذلك أن أولئك الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ندموا على تخلفهم ، فلما رجع رسول الله جاءوا بأموالهم فقالوا له : تصدق بأموالنا عنا ؛ فإن أموالنا هي التي خلفتنا عنك ، فأمر الله رسوله أن يأخذ منهم ذلك ويتصدق به كفارة لما ارتكبوا . ومن قال : هي فريضة زكاة المال ؛ لما روي عن أبي أمامة [ قال ] : " إن ثعلبة بن حاطب أتى رسول الله فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالاً ، قال رسول الله : " ويحك يا ثعلبة ! قليل تؤدي شكره ، خير من كثير لا تطيقه " ، ثم جاء فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالاً ، قال : " ويحك يا ثعلبة ! أما [ ترضى أن تكون مثل ] رسول الله لو سألت الله أن يسيل الجبال علي ذهباً لسالت " ، ثم أتاه فقال : يا رسول الله ، ادع الله أن يرزقني مالاً ، فوالله لو أتاني مالاً لأوتين كل ذي حق حقه . فدعا له فقال : " اللهم ارزق ثعلبة مالاً " ثلاث مرات ، وذكر أنه اتخذ غنماً ، فنمت كما ينمو الدود حتى ضاقت عليه أزقة المدينة ، فتنحى بها ، وكان يصلي الصلوات كلها مع رسول الله ويخرج إليها ، ثم ضاقت عليه [ بها ] مراعي المدينة فتنحى بها فكان يصلي الظهر والعصر مع رسول الله ثم يتبعها ، ثم تنحى بها ، فكان يصلي الجمعة مع رسول الله ثم يتبعها ، ثم بلغ أمره إلى أن ترك الجمعة والجماعات ، فتنحى بها ويتلقى الركبان فيسألهم عن الخبر وعما أنزل على رسول الله [ فأنزل الله ] : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً … } الآية ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم على الصدقة رجلين فكتب لهما فرائض [ الصدقة ] ، وأمرهما أن يسعيا في الناس ويأخذا صدقاتهم ، وأن يمرّا بثعلبة ورجل من بني سليم فيأخذا صدقاتهما ، فخرجا بصدقات الناس ، فمرا بالسلمى فأقراه كتاب رسول الله فأطاع بالصدقة ، ومرّا بثعلبة فأقراه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : والله ما أدري ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية ، فإذا فرغتما فمرا بي حتى أرى رأيي ، فلما فرغا من الناس مرّا به [ فقال لهما مثل ] مقالته الأولى ، وقال : انطلقا فإني سألقى رسول الله ، فأنزل الله : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ ٱللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ … } إلى قوله : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً } " إلى هذا ذهب عامة أهل التأويل أنها نزلت في شأن ثعلبة . ومنهم من قال ما ذكرنا أنها نزلت في شأن أهل تبوك الذين تخلفوا عن رسول الله . ومنهم من قال : الصدقة التي أمر الله رسوله أن يأخذها من أموالهم هي صدقة تطوع وتبرع ، وهو ما ذكر أن رسول الله كان يحث الناس على الإنفاق في غزوة تبوك ، فجاء عبد الرحمن بن عوف بكذا ، وفلان بكذا ، فأخذهم منهم ، وفيه نزل قوله : { ٱلَّذِينَ يَلْمِزُونَ ٱلْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ } [ التوبة : 79 ] . ومنهم من قال : هو في كل صدقة تطوع ، قلَت الصدقة أو كثرت ، أمر رسوله أن يأخذ من أموالهم ما رأى لا يأخذ الكل ؛ لأن أخذ الكل يحوجهم ويشغلهم عن جميع الطاعات والعبادات ، ولكن أمر أن يأخذ قدراً منها وطائفة ، مقدار ما يكفر ما ارتكبوا من المآثم . وقوله : { تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } . إن كانت صدقة الزكاة ، فهي تطهر آثامهم وتزكي أخلاقهم حتى يتيسر عليهم إخراج الصدقة وأداؤها إلى أهلها ، وإن كان صدقة كفارة لمن تخلف عن غزوة تبوك ، فهي تكفر آثامهم التي لحقتهم بذلك { وَتُزَكِّيهِمْ } . قيل : وتصلحهم ، وهو ظاهر . وإن كانت صدقة تطوع فهي مما يطهرهم أيضاً ، ويزكيهم ؛ لما ينفي عنهم البخل ، ويؤدي إلى الجود والكرم ؛ ألا ترى أنه مدح من أعطى ، وذم من بخل ومنع بقوله : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ … } [ الليل : 5 ] الآية { وَأَمَّا مَن بَخِلَ … } [ الليل : 8 ] الآية . وقوله : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَٰوتَك سَكَنٌ لَّهُمْ } . قال بعضهم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى أحد بصدقة دعا له ويستغفر ، وكان لا يستغفر لأهل النفاق ، وكانت قلوبهم تسكن وتطمئن باستغفار النبي ؛ لما علموا بذلك أنهم ليسوا من أهل النفاق ؛ هذا يحتمل . ويحتمل وجهاً آخر : وهو أن الله أمر رسوله أن يستغفر لهم ويصلي عليهم ، ثم لا يحتمل أن يأمره بذلك فلا يفعل ، أو يفعل فلا يجيبه ، [ فكانت قلوبهم تسكن ] وتطمئن باستغفار النبي لهم لما قبلت توبتهم ، وكفرت سيئاتهم ، والله أعلم . { وَٱللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . قد ذكرنا هذا غير مرة . وفي قوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ } دلالة أن الصدقة إذا وقعت في يد المتولي والعامل عليها سقطت عن أربابها ، وإن لم تقع في أيدي الفقراء ولم تصل إليهم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يحل له الصدقة ، ثم أخبر أنه إذا أخذها منهم كانت طهارة لهم وتزكية . وفيه استدلال لمحمد بن الحسن في الوقف ؛ أن الوقف إذا وقف وأخرجه من يده وجعله في يد آخر ممن لا حق له في ذلك كان جائزاً ، وكان وقفاً صحيحاً . ومن الناس من استدل بهذه الآية على أن للإمام أن يطالب بزكاة الأموال ، وكذلك مضت السنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعث المصدقين إلى أحياء العرب والبلدان والآفاق لأخذ صدقات الأنعام والمواشي في مواضعها ، وعلى ذلك فعل الأئمة من بعد : أبو بكر ، وعمر ، والأئمة الراشدون ، وظهر العمل بذلك من بعدهم إلى هذا الوقت ، حتى قال أبو بكر لما امتنعت العرب من إعطائه الزكاة : والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حاربتهم عليها . فذلك يؤيد ما ذكرنا من مطالبة الإمام أصحاب الأنعام والمواشي بزكاة أنعامهم ومواشيهم . وقد بين الله تعالى وجوب ذلك بياناً شافياً بقوله : { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ } [ التوبة : 60 ] الآية ، فجعل للعاملين عليها حقّاً ، فلو لم يكن على الإمام أن يطالب بصدقات الأنعام في أماكنها ، وكان أداء ذلك إلى أرباب الأموال ؛ ما كان لذكر العاملين وجه ، ولم يبلغنا أن النبي بعث في مطالبة المسلمين بزكاة الورق وأموال التجارة ، ولكن الناس كانوا يعطون ذلك ، ومن حمله منهم إلى الأئمة يقبلون ما يحمل إليهم منه ، ولا يسألون أحداً عن مبلغ ملكه ، ولا يطالبون به إلا ما كان من توجيه عمر العشار في الأطراف ، وكان ذلك منه عندنا - والله أعلم - للتخفيف عمن بعد عن داره ، وشق عليه أن يحمل صدقته إلى إمامه ، فجعل في [ كل ] طرف من الأطراف عاشراً لتجار أهل الحرب والذمة ، وأمره أن يأخذ من تجار المسلمين ما يدفعونه إليه ، وكان ذلك من عمر تخفيفاً على المسلمين ؛ لأنه ليس على الإمام مطالبة أرباب الأموال بأموال العين وأموال التجارة بأداء الزكاة سوى المواشي والأنعام ، فإن مطالبة ذلك إلى الأئمة إلا أن يأتي أحد منهم الإمام بشيء من ذلك ، فيقبله منه ولا يتعدى ما جرت به السنة إلى غيره ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ } . يحتمل قوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ } ، أي : قد علموا أن الله يقبل توبة من تاب . ويحتمل على الأمر ، أي : اعلموا أن الله هو يقبل التوبة عن عباده . [ و ] يحتمل قوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ } أي : قد علموا { أَنَّ ٱللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ ٱلتَّوْبَةَ } ممن تاب . { وَيَأْخُذُ ٱلصَّدَقَاتِ } ، قيل : يقبل . ويشبه إضافة الأخذ إلى نفسه إضافته إلى رسوله بقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] ، وذلك كثير في القرآن . وقوله - عز وجل - : { وَأَنَّ ٱللَّهَ هُوَ ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ } قال أبو بكر الأصم : التواب هو صفة العافي ، وهو اسم للتائب . والتواب عندنا : هو الموفق للتوبة . ثم الكافر إذا أسلم وتاب لم يلزم مع التوبة كفارة أخرى سوى التوبة ، وإن كان ارتكب مساوئ وفواحش سوى الشرك والكفر ، والمسلم إذا ارتكب مساوئ لزمته التوبة والكفارة جميعاً ؛ وذلك لأن المسلم لما أسلم اعتقد حفظ ما لزمه من الشرائع ، فإذا ارتكب ما ذكرنا خرج [ عن ] شرائعه وأدخل نقصاناً فيما اعتقد حفظه ، فإذا ترك حفظه وأدخل فيه النقصان ، لزمته الكفارة يجبر بها النقصان الذي أدخل فيه ، وأما الكافر فليس عليه شيء من الشرائع ، إنما عليه أن يتوب عن الشرك ويأتي بالإيمان ؛ لذلك افترقا . وقوله - عز وجل - : { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } اختلف فيه : قال بعضهم : ذلك في الذين كانوا تخلفوا عن تبوك ، ثم ندموا وتابوا عن ذلك ، فتاب الله عليهم ؛ يقول : اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون ، أي : إن عدتم إلى ما عنه تبتم - وهو التخلف - يطلع الله رسوله والمؤمنون على ذلك { وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } [ أي : تردون إلى ما أعد لكم في عالم الغيب والشهادة ] . وقال بعضهم : الآية في المنافقين ؛ يقول : [ اعملوا ] فيما تستأنفون ؛ فإن الله يطلع رسوله والمؤمنين على نفاقكم فتفتضحون ، حيث يطلعون على سرائركم . { وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ ٱلْغَيْبِ وَٱلشَّهَادَةِ } . أي : تردون إلى ما أعد لكم [ في ] عالم الغيب والشهادة . { فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . أي : يجزيكم جزاء ما كنتم تعملون ؛ يخرج ذلك على الوعيد . وذكر في بعض الأخبار " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم شهد جنازة والمؤمنون - أيضاً - شهدوها ، فأثنى عليها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وجبت " ، فقيل : يا رسول الله ، ما وجبت ؟ قال : " الملائكة شهداء الله في السماء وأنتم شهداء الله في الأرض ، فإذا شهدتم وجبت " . ثم [ قرأ ] قوله : { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } . فإن ثبت هذا ففيه دلالة جواز حجة الإجماع ؛ لأنه قال : " الملائكة شهداء الله في السماء ، وأنتم شهداء الله في الأرض [ فإذا شهدتم وجبت ] " ، فإذا شهدوا على شر فهو شر ، وإذا شهدوا على خير فهو خير ، فعلى ذلك إذا شهدوا على حكم يلزم العمل به . وقوله : { وَقُلِ ٱعْمَلُواْ فَسَيَرَى ٱللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ } . ليس على الأمر أن يقول لهم جميعاً : اعملوا كذا ، ولكن [ أن ] كل من بلغته هذه الآية يتفكر فيها ويتدبر ، فلا يقدم [ على عمل ] لا يستحسنه أن يكون رسول الله والمؤمنون بحضرته فإذا خلا به لا يعمله ، وكذلك قوله : { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ ثُمَّ ٱنْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَٰقِبَةُ ٱلْمُكَذِّبِينَ } [ الأنعام : 11 ] ، ليس على الأمر بالسير على الأرض ، ولكن على الأمر بالتفكر والتدبر فيما نزل بهم بالتكذيب ، وكذلك قوله : { قُلْ هُوَ ٱللَّهُ أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1 ] ، ليس على الأمر أن يقول لهم ذلك ، ولكن يتفكر كل فيه أنه واحد .