Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 107-110)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } . عن ابن عباس - رضي الله عنه - أن المنافقين اتخذوا مسجداً ، فلما فرغوا منه جاءوا إلى نبي الله وهو يتجهز لغزوة تبوك ، فقالوا : يا رسول الله ، بنينا مسجداً لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة ، [ و ] إنا نحب يا رسول الله أن تأتينا فتصلي فيه ، قال رسول الله : " إنا على سفر وحال شغل ، ولو قدمنا من سفرنا أتيناكم فصلينا لكم فيه إن شاء الله " ، فأنزل الله على رسوله : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً … } الآية ؛ أخبر فيه أنهم لم يقصدوا ببناء مسجدهم ذلك ما ذكروا : إنا بنينا [ مسجداً ] لذي العلة والحاجة ، والليلة المطيرة ، والإشفاق على الدين ، وحفظ الصلاة بالجماعة ، ولكن يقصدون به ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين . وقوله : { ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } . يكون قوله : { وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } تفسيراً لقوله : { ضِرَاراً } يقصدون ببناء المسجد الذي بنوا ريبة أن يفرقوا بين المؤمنين وبين رسول الله ، حتى إذا جاءهم العدو وجدهم متفرقين ، فيكون أيسر وأهون عليهم في الكسر عليهم ، والظفر بهم من أن كانوا مجموعين . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لن يغلب اثنا عشر ألفاً كلمتهم واحدة " . وقوله : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَٱذْكُرُواْ نِعْمَتَ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ } [ آل عمران : 103 ] جعل الاجتماع في الدين نعمة ، ونهاهم عن التفرق وهم كانوا يقصدون قصد التفريق بينهم ؛ لما ذكرنا ، أو كانوا يقصدون بذلك أن يفرقوا بين ضعفة من المؤمنين وبين رسول الله ، فيلبسوا عليهم الدين ؛ لأنهم كانوا أهل لسان وجدل ، وذلك كله كفر على ما ذكر . وفيه دلالة إثبات رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه معلوم أنهم أسرّوا وأضمروا فيما بينهم الضرار والكفر والتفريق بين المؤمنين ، فأطلع الله نبيه على ما أسرّوا ؛ ليعلم أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى . وقوله - عز وجل - : { وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } . أي : بنوا ذلك المسجد إرصاداً لمن حارب الله ورسوله . قال عامة أهل التأويل : هو أبو عامر ؛ ذكر أن أبا عامر حارب رسول الله ، ثم فرّ منه ، فقال للمنافقين : ابنوا مسجداً واستعدوا ، فإني ذاهب إلى قيصر بالشام ، [ فآتي بجند فنخرج محمداً وأصحابه من المدينة . فذهب إلى قيصر بالشام ] ، فبنوا مسجداً إرصاداً لمن حارب الله ورسوله ، يعني : أبا عامر . قال القتبي : ضراراً ، أي : مضارة ، وإرصاداً ، أي : ترقباً بالعداوة . وقال أبو عوسجة : { ضِرَاراً } ، أي : مضارة ، { وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } ، أي : وقوفاً وانتظار الفرصة لمن حارب الله على المؤمنين . وقوله - عز وجل - : { وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا } . أي : حلفوا ما أردنا باتخاذ المسجد . { إِلاَّ ٱلْحُسْنَىٰ } والخير . { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } . فيه ما ذكرنا من الدلالة على إثبات [ رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ] . وقوله - عز وجل - : { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } . قيل : لا تصل فيه ؛ لأنهم سألوه أن يصلي فيه . وقيل : { لاَ تَقُمْ } ، اي : لا تأته ، ولا تدخل ؛ وهو واحد . { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } . قال بعضهم : هو مسجد قُباء . وقال بعضهم : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم . روي عن أبي سعيد الخدري قال : " اختصم - أو قال : اختصمنا - [ في ] المسجد الذي أسس على التقوى ؛ فقال النبي صلى الله عليه سلم : " هو مسجدي هذا " " . وعن أبي بن كعب قال : " إن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى فقال : " هو مسجدي هذا " " . وظاهر ما ذكر " أن يكون مسجد قباء ؛ لأنه ذكر لما نزل قوله : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَٱللَّهُ يُحِبُّ ٱلْمُطَّهِّرِينَ } ، قال لأهل قباء : " إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور ، فماذا تصنعون ؟ " قالوا : نغسل عنا أثر الغائط والبول " . وفي بعض الأخبار " قالوا : يا رسول الله ، إنا نجد مكتوباً علينا في التوراة الاستنجاء بالماء ، فلا ندعه ، فقال : " لا تدعوه " " . وقوله - عز وجل - : { فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ } . يحتمل : أي : فيه رجال يؤثرون التطهر بالإيمان والتوحيد ، والصلاة فيه ، وكل مسجد هذا فيه فهو مؤسس على التقوى ، أي : تقوى الشرك والخلاف لأمر الله ومناهيه . أو يقول : فيه رجال يحبون ، أي : يؤثرون التطهر بالتقوى والأعمال الصالحة على غيرها من الأعمال التي تنجسهم . ويحتمل ما ذكر أهل التأويل من التطهير من الأقدار والأنجاس ؛ كأنه قال : فيه رجال يؤثرون الإبلاغ في التطهير من الأقذار والأنجاس التي تصيبهم . وقوله - عز وجل - : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ } . أي : على الطاعة لله والإخلاص له . { وَرِضْوَانٍ } . له وطلب مرضاته . { خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } . أي : بني للاختلاف والتفريق بين المؤمنين والكفر بالله ؛ هذا المثل مقابلة مكان بمكان ؛ يقول : من بنى بناء على قرار من الأرض مما يقر به وينتفع به خير ممن بنى بناء على المكان الذي لا يقر ، ويؤدي إلى الهلاك ، ولا ينتفع به ، والأول مقابلة فعل بفعل ، وهو قوله : { وَٱلَّذِينَ ٱتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ } كالذي بنى الضد من ذلك ، أي : ليسا بسواء ، ثم قال : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى ٱلتَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } هذا مقابلة فعل بفعل ؛ يقول : الذين بنوا المسجد على الطاعة لله ، والإخلاص له ، وطلب مرضاته ، والاجتماع فيه خير ممن بنى للكفر بالله ، والتفريق بين المؤمنين ، وضراراً بهم ؛ هذا مقابلة فعل بفعل . وقوله : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ تَقْوَىٰ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } . هذا مقابلة مكان بمكان ؛ لما ذكرنا . وقوله : { أُسِّسَ } . أصل الأس والأسس والتأسيس واحد . وقوله - عز وجل - : { شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } . قال أبو عوسجة : { شَفَا جُرُفٍ } قال : شفاه : فمه ، والجمع : أشفاء ، وجرف : أرض يسيل فيها السيل حتى يحفرها ، والجِرَفة جمع . وقوله : { هَارٍ } قال : الهار : الهش الذي ليس بصلب ، ويقال : انهار ينهار ، أي : انهدم ، ويقال : رجل هار ، أي : ضعيف ، وهي أرض هشة ، أي : رخوة ، سريعة الانهدام ، والهش : الرخو . وقال القتبي : { شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [ أي حرف جرف هار ] والجرف : ما ينجرف بالسيول [ من ] الأودية ، والهائر : الساقط ، ومنه يقال : تهور البناء : إذا سقط وانهار . وقال أبو عبيدة : { عَلَىٰ شَفَا جُرُفٍ } الشفا : هو الشفير ، والجرف : ما ينجرف من السيول من الأودية ، وهار ، يريد : هائر . وقوله - عز وجل - : { فَٱنْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ } . قال بعضهم : خسف الله مسجدهم في نار جهنم . وفي حرف ابن مسعود : ( فخر من قواعده في نار جهنم ) وقال : حفرت فيه بقعة فرؤي منها دخان سطع ، وقال : يهوي ببنائهم الذي بنوا في نار ، ولا ندري كيف هو ؟ وما معناه ؟ . وقوله - عز وجل - : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ ٱلَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } . قال بعضهم : { بَنَوْاْ رِيبَةً } ، أي : حسرة وندامة . وقال بعضهم : ريبة : أي شكّاً وريباً . ومن قال : حسرة وندامة ، فهو على وجهين : الأول : يحتمل : أنهم تابوا وندموا على ما صنعوا . والثاني : يحتمل : حسرة وندامة ؛ لما افتضحوا بما صنعوا ، وبما أرادوا بقوله : { وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } . ومن قال : شكّاً ونفاقاً { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } إلى الممات ، أي : هم على الشك والنفاق إلى الموت ، وهو كقوله : { فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَىٰ يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ } [ التوبة : 77 ] . وأصل الريبة : التهمة ؛ يقال : فلان مريب : إذا كانت به تهمة . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ } . هذا - أيضاً - على وجهين : أحدهما : على التمثيل أن الخوف والحزن إذا بلغ غايته ؛ يقال : فلان متقطع القلب .