Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 1-5)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } قال بعضهم من أهل التأويل : ذلك في قوم كان بينهم وبين رسول الله عهد على غير مدة مبينة ، فأمر بنقض العهد المرسل وجعله في أربعة الأشهر التي ذكر في قوله : { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } . وقال بعضهم : هي في قوم كان لهم عهد دون أربعة أشهر ، فأمر بإتمام أربعة أشهر ؛ [ و ] دليله قوله : { فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } . وقال أبو بكر الكيساني : الآية في قوم كانت عادتهم نقض العهد ونكثه ؛ كقوله : { ٱلَّذِينَ عَاهَدْتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ } [ الأنفال : 56 ] فأمر [ أن يعطي العهد أربعة أشهر التي ذكر في الآية ثم الحرب بعد ذلك . وقال بعضهم : لما نزل قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } بعث رسول الله ] عليّاً إلى الموسم ليقرأه على الناس ، فقرأ عليهم : { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } من العهد غير أربعة أشهر { إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } . على ما ذكرنا حمل هؤلاء كلهم قوله : { بَرَآءَةٌ } على النقض . وعندنا يحتمل غير هذا ، وهو أن قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } في إمضاء العهد ووفائه ، والبراءة هي الوفاء ، وإتمامه ليس على النقض ؛ [ لأنه قال : إلى الذين عاهدتم من المشركين والبراءة إليهم هي الأمان والعهد إليهم ، ولو كان على النقض لقال : " من الذين عاهدتم من المشركين " فدل أنه هو إتمام إعطاء العهد إليهم ] وإمضاؤه إليهم ، [ ويؤيد هذا ] ما قال بعض أهل الأدب : إن البراءة هي الأمان ؛ يقال : كتبت له براءة ، أي : أماناً ؛ هذا الذي ذكرنا أشبه مما قالوا ، أعني : أهل التأويل . وقوله - عز وجل - : { فَسِيحُواْ فِي ٱلأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } . أي : سيروا واذهبوا في الأرض { أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } أي : في مدة العهد . وقوله - عز وجل - : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ } . أي : اعلموا أن المؤمنين وإن أعطوا لكم العهد في وقت فإنكم غير معجزي الله وأولياءه ، ولا فائتين عنكم في تلك المدة . { وَأَنَّ ٱللَّهَ مُخْزِي ٱلْكَافِرِينَ } الخزي : هو العذاب الفاضح الذي يفضحهم ويظهر عليهم . ويحتمل أن يكون ذلك العذاب والإخزاء الذي ذكر في الآخرة . وقوله - عز وجل - : { وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلنَّاسِ يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ } . قال القتبي : { وَأَذَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } ، أي : إعلام ، ومنه أذان الصلاة ، وهو الإعلام ؛ يقال : آذنتهم إيذاناً . وكذلك قال أبو عوسجة . وقوله - عز وجل - : { أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } يكون في قوله : { أَنَّ ٱللَّهَ بَرِيۤءٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ } دلالة ما قال أهل التأويل من النقض ؛ لأن قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } يكون فيه انقضاء العهد وإتمامه إلى المدة التي ذكر ، ويكون ما روي في الخبر [ وذكر ] في القصة " أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لما نزل { بَرَآءَةٌ } بعث أبا بكر على حج الناس ، يقيم للمؤمنين حجهم ، وبعث معه بـ { بَرَآءَةٌ } السورة ، ثم أتبعه علي بن أبي طالب ، فأدركه فأخذها منه ، ورجع أبو بكر إلى النبي ، فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : بأبي أنت وأمي ، نزل في شيء ؟ قال : " لا ، ولكن لا يبلغ غيري أو رجل مني ، أما ترضى يا أبا بكر أنت صاحبي في الغار ، وأنت أخي في الإسلام ، وأنت ترد على الحوض يوم القيامة ؟ ! " قال : بلى يا رسول الله " . فمضى أبو بكر على الناس ، ومضى علي بن أبي طالب بالبراءة ، فقام على بالموسم ، فقرأ على الناس : { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ } : من العهد ، غير أربعة أشهر ؛ فإنهم يسيحون فيها . ثم قوله : { يَوْمَ ٱلْحَجِّ ٱلأَكْبَرِ } . قال عامة أهل التأويل : هو يوم النحر ؛ لأن فيه ذكر طواف البيت وحج البيت . وقال بعضهم : هو يوم عرفة ؛ لأنه هو الذي يوقف فيه بعرفة ، وبه يتم الحج على ما روي في الخبر : [ " الحج عرفة ، ومن أدرك عرفة بليل وصلي معنا بجمع ، فقد تم حجه وقضى تفثه ، بإدراكه يتم الحج ] وبفوته يفوت " . وعن الحسن أنه سئل فقيل [ له ] : ما الحج الأكبر ؟ فقال : سنة حج المسلمون والمشركون جميعاً ، اجتمعوا بمكة ، وفي ذلك اليوم كان لليهود عيد ، وللنصارى عيد ، لم يكن قبله ولا بعده ، فسماه الله الحج الأكبر . قال أبو بكر الأصم : لا يحتمل أن يسمي الله عيد النصارى واليهود يوم الحج الأكبر ، وهو يوم نزول السخط عليهم واللعنة ، ولكن جائز أن يسمى بذلك ؛ لاجتماع الخلائق فيه من كل نوع ؛ على ما سمي يوم الحشر يوماً [ عظيما ] ؛ كقوله : { لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [ المطففين : 5 - 6 ] . وقوله : { فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } . أي : إن تبتم عما كنتم عليه فهو خير لكم ؛ لأنهم يأمنون من الرعب الذي كان في قلوبهم ، ويكون ذلك الخوف والرعب في قلوب المشركين ؛ على ما روي في الخبر أنه قال : " نصرت بالرعب مسيرة شهر " . وقوله - عز وجل - : { وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } : عما ذكرنا ، { فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ } أي : غير فائتين من نقمة الله وعذابه . ويحتمل قوله : { فَإِن تُبْتُمْ } عن نقض العهد فهو خير لكم [ في الدنيا ] ، والأول : فإن تبتم وأسلمتم فهو خير لكم في الدنيا والآخرة . وروي في بعض الأخبار عن علي - رضي الله عنه - " أنه سئل : بأي شيء بعثت ؟ قال : بأربع : لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ومن كان بينه وبين النبي - عليه السلام - عهد فعهده أربعة أشهر ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ولا يدخل الحرم مشرك بعد هذا " . وفي بعض الأخبار : ولا يحج المشرك بعد عامه هذا ، وكذلك قال في الآية الأخرى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَـٰذَا } ، ففيه دلالة إثبات رسالة محمد ؛ لأنه قال في ملأ من الناس بالموسم : لا يحج مشرك بعد هذا ، مع كثرة أولئك وقوتهم ، وقلة المؤمنين وضعفهم ، ثم لم يتجاسر بعد ذلك النداء أحد أن يدخل مكة للحج وغيره ، دل أن ذلك أن كله كان بالله - تعالى - لا بهم . ثم من الناس من استدل بالخبر الذي روي أنه بعث أبا بكر الصديق على الحج وبعث معه ببراءة ، ثم أتبعه عليّاً ، فأدركه فأخذها منه ، ورجع أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : هل نزل في شيء ؟ قال : " لا ، ولكن لا يبلغ عني غيري أو رجل مني " - على أن عليّاً هو المستحق للخلافة ، وهو الأحق بها دون أبي بكر ؛ حيث قال : " لا يبلغ عني غيري أو رجل مني " . لكن يحتمل أنه وَلَّى ذلك عليّاً ؛ لما كان من عادة العرب أنهم إذا عاهدوا عهداً أنه لا ينقض ذلك عليهم إلا من هو من قومهم ، فولى ذلك عليّاً ؛ لئلا يكون لهم الاحتجاج عليه فيقولون : لم ينقض علينا العهد . أو أن يقال : ولى عليّاً أمر الحرب ، وهو كان أبصر وأقوى بأمر الحرب من أبي بكر ، وولى أبا بكر إقامة الحج والمناسك ، فكان أبو بكر هو المولى أمر العبادات ، وعلي أمر الحروب ، والحاجة إلى الخلافة لإقامة العبادات . أو أن يقال : إن أبا بكر كان أمير الموسم ، وعليّاً كان مناديه ، فالأمير في شاهدنا أجل قدراً وأعظم منزلة من المنادي ، وأمر عليّاً ذلك ؛ لما أن ذلك كان أقبل وأسمع من غيره من الأمير نفسه ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } " قال بعضهم : هذا صلة قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } . أمر بإتمام العهد للذين لم ينقضوا المسلمين ، ولا ظاهروا عليهم أحداً ، وأما الذين كانت عادتهم نقض العهد ونكثه فإنه لا يتم لهم ، ولكن ينقض ، وكذلك تأولوا قوله : { بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } : النقض . ويحتمل أن يكون صلة قوله : { وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ، ويكون العذاب الأليم هو القتل والأسر ؛ كأنه يقول : وبشر الذين كفروا بالقتل والأسر { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً } . ثم يحتمل قوله : { لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً } أي : لم يخونوكم شيئاً ما داموا في العهد ، { وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً } أي : لم يعاونوا ولا أطلعوا أحداً من المشركين عليكم ، { فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } ؛ كقوله : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَٱنْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَىٰ سَوَآءٍ } [ الأنفال : 58 ] أمر بالنبذ إليهم عند خوف الخيانة ، وأمر بالإتمام إذا لم يخونوا ولم يظاهروا عليهم أحداً . ودل قوله : { وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } على أن قوله : { وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي ٱللَّهِ } أي : غير معجزي أولياء الله في عذاب الدنيا ؛ لأنهم جميعاً سواء في عذاب الآخرة ، مشتركون فيه . وقوله : { إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } قال بعضهم : مدة القوم أربعة أشهر بعد يوم النحر لعشر مضين من ربيع الآخر لمن كان له عهد ، ومن لا عهد له إلى انسلاخ المحرم ، خمسون ليلة . وقال بعضهم : إلا الذين عاهدتم من المشركين بالحديبية فلم يبرأ الله ورسوله من عهدهم من الأشهر الأربع [ ثم لم ينقصوكم في الأشهر الأربع ] ، { وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً } أي : لم يعينوا على قتالكم أحداً من المشركين ، أي : [ إن ] لم يفعلوا ذلك { فَأَتِمُّوۤاْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَىٰ مُدَّتِهِمْ } وهو الأربعة الأشهر { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } : الذين اتقوا المعاصي والشرك . وقوله - عز وجل - : { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ } قال بعضهم : الأشهر الحرم وهي أشهر العهد والأمان ، فإذا انسلخ تلك الأشهر ومضت ، { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } . وقال بعضهم : الأشهر الحرم هي الأشهر التي خلقها الله وجعلها حراماً ؛ كقوله : { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ ٱثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ ٱللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } [ التوبة : 36 ] . وقوله - عز وجل - : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } . قال بعضهم : حيث وجدتموهم وخذوهم في الأماكن كلها ؛ لأن " حيث " إنما يترجم عن مكان ، [ و ] أمر بقتلهم في الأماكن كلها ؛ لأنه لم يخص مكاناً دون مكان . وقال آخرون : هو في الأماكن كلها إلا مكان الحرم ، دليله ما ذكر في السورة التي ذكر فيها البقرة ، وهو قوله : { وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم } [ البقرة : 191 ] ، وقال : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } [ البقرة : 191 ] أمرهم بقتالهم في الأماكن كلها إلا المسجد الحرام . وأمكن أن يكون أنهم يقتلون إلا أن يدخلوا الحرم ، فإذا دخلوا الحرم وقد نهوا عن الدخول فيه والحج هنالك ، على ما روي أن عليّاً نادى بالموسم : ألا لا يحجن بعد العام مشرك - فإذا دخلوا يقتلون ، ويكون دخولهم فيه بعد النهي كابتداء مقاتلتهم إيانا ، فإذا قاتلونا عند المسجد الحرام قاتلناهم ؛ كقوله : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ حَتَّىٰ يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَٱقْتُلُوهُمْ } [ البقرة : 191 ] والله أعلم . وقوله : { وَخُذُوهُمْ } قيل : ائْسِروهم . وقوله : { وَٱحْصُرُوهُمْ } قيل : احبسوهم ، { وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } ، والمرصد : الطريق ؛ كأنه أمر بقوله : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ } بقتلهم إذا قدروا عليهم ، وأمكن لهم ذلك ، والأسر عند الإمكان والحبس إذا دخلوا الحصن ، وحفظ المراصد عند غير الإمكان ؛ لئلا يغروا ، ويقال : أرصدت له ، أي : انتظرت أن أجد فرصتي ، ويقال : ترصدته ، أي : انتظرته . وقال بعضهم : قوله : { كُلَّ مَرْصَدٍ } أي : كل طريق يرصدونكم ؛ كأنه أمر بذلك ؛ ليضيق عليهم الأمر ؛ ليضجروا وينقادوا . وفيه دليل النهي عما يحمل إلى دار الحرب من أنواع الثياب والأمتعة وما ينتفعون به ؛ لأنه أمر بالحصر وحفظ الطرق والمراصد ؛ ليضيق عليهم الأمر ويشتد ، فينقادوا ، وفيما يحملون إليهم توسيع عليهم . وقوله : { وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } يحتمل أن يكون قوله : { وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ } أي : أقيموا عليهم الحجج والبراهين ؛ ليضطروا إلى قبول ذلك ، فإذا انقادوا لكم وإلا فاقتلوهم حيث وجدتموهم . وقوله - عز وجل - : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } : [ قال بعضهم أمر الله في أول الآية بقتل المشركين ، فقال : { فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } وقال : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } ] فوجب بظاهر الآية أن نقاتل من آمن ولم يقم الصلاة ولم يؤت الزكاة ؛ لأن الله - تعالى - إنما رفع القتل عنهم بالإيمان وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، فإذا لم يأتوا بذلك فالقتل واجب عليهم ، وكذلك فعل أبو بكر الصديق لما ارتدت العرب ومنعتهم الزكاة حاربهم حتى أذعنوا بأدائها إليه . روي عن أنس قال : " لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب كافة ، فقال عمر : يا أبا بكر ، أتريد أن تقاتل العرب كافة ؟ ! فقال أبو بكر : إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، منعوني دماءهم وأموالهم " والله لو منعوني عناقاً مما كانوا يعطون رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلتهم عليه . قال عمر : فلما رأيت رأي أبي بكر قد شرح عرفت أنه الحق " . وفي بعض الأخبار قالوا : نشهد أن لا إله إلا الله ، ونصلي ، ولكن لا نزكي ، فمشى عمر والبدريون إلى أبي بكر ، فقالوا : دعهم ؛ فإنهم إذا استقر الإسلام في قلوبهم وثبت أدَّوْا ، فقال : والله ، لو منعوني عقالا مما أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلتهم عليه ، قيل : أو قاتل رسول الله على ثلاث : شهادة أن لا إله إلا الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وقال الله : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } ، والله لا أسأل فوقهن ولا أقصر دونهن ، فقالوا : إنا نزكي ، ولكن لا ندفعها [ إليك ] ، فقال : والله حتى آخذها كما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأضعها مواضعها . وقال آخرون : قوله : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ } في قبولهم والاعتقاد بهما دون فعلهما ، لما لا يحتمل حبسهم ومنعهم إلى أن يحول الحول فيؤخذون بأداء الزكاة - دل على أنه على القبول والإقرار بذلك ، واستدلوا بما روي في بعض الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله [ فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها " وقالوا في بعض الأخبار : " أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إ لا الله ] ، وإني رسول الله ، فإذا قالوا ذلك : عصموا مني … " كذا ، وفي بعضها : " حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، وإني رسول الله ، وأقاموا الصلاة ، وآتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك منعوا مني … " كذا دل ما ذكرنا من الزيادات والنقصان [ أن ذلك ] في قوم مختلفين ، وأنه على القبول لذلك والاعتقاد ، لا على الفعل نفسه ، فمن كان لا يقرأ بشيء من ذلك ، فإذا قال : لا إله إلا الله ، كان ذلك منه إيماناً في الظاهر ، ومن كان يقول : لا إله إلا الله ، ولا يقول : محمد رسول الله ، فإذا قال ذلك كان ذلك منه إيماناً ، ومن كان يقر بهذين ولا يقر بالصلاة والزكاة ، فإذا أقر بذلك كان ذلك منه إيماناً ، فهو على الإقرار به والاعتقاد ، لا على الفعل ، ألا ترى أن للأئمة أن يأخذوا منهم الزكاة شاءوا أو أبو ؟ ! فلو كان الأداء من شرط الإيمان لكانوا غير مؤمنين بأخذ هؤلاء . واختلف الصحابة والروايات في الحج الأكبر : روي عن عبد الله بن الزبير [ عن أبيه ] قال : قال النبي - عليه السلام - يوم عرفة : " " هل تدرون أي يوم هذا ؟ " قالوا : نعم ، اليوم الحرام ، يوم الحج الأكبر ، قال : " فإن الله قد حرم دماءكم وأموالكم عليكم إلى يوم القيامة كحرمة يومكم هذا " " . وعن عمر - رضي الله عنه - أنه سئل عن الحج الأكبر ، فقال : يوم عرفة . وعنه : أنه وقف عليهم يوم عرفة فقال : إن هذا يوم الحج الأكبر ، فلا يصومنه أحد . وعن ابن الزبير يقول : يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر . وفي بعض الأخبار عنه صلى الله عليه وسلم أنه خطب على ناقة حمراء يوم النحر ، فقال رسول الله : " أتدرون أي يوم هذا ؟ هذا يوم النحر ، وهذا يوم الحج الأكبر " . وفي بعض الأخبار عن ابن عمر قال : رأيت أو قال : " سمعت - رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم يقول يوم النحر عند المحراب في حجة الوداع ، فقال : " أي يوم هذا ؟ " ، قالوا : هذا يوم النحر ، قال : " فأي بلد هذا ؟ " قالوا : بلد حرام ، قال : " فأي شهر هذا ؟ " ، قالوا : شهر حرام ، قال : " هذا يوم الحج الأكبر ، فدماؤكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام ؛ كحرمة هذا البلد في هذا اليوم " ، ثم قال : " هل بلغت " " . وعن الحارث [ قال ] : سألت عليّاً عن الحج الأكبر ، فقال : يوم النحر . وعن المغيرة بن شعبة : أنه خطب يوم العيد ، فقال : " هذا يوم النحر ، ويوم الأضحى ، ويوم الحج الأكبر " . وعن ابن عباس - رضي الله عنه - قال : " الحج الأكبر : يوم النحر " . وفيه قول ثالث : ما روي أنه كان في كتاب رسول الله الذي كتبه لعمرو بن حزم : " والحج الأصغر العمرة " . وعن ابن عباس : العمرة : هي الحجة الصغرى . وسئل عبد الله بن شداد عن الحج الأكبر ، فقال : الحج الأكبر يوم النحر ، والأصغر العمرة . فأما حديث عمرو بن حزم : فهو حكاية عن كتاب ، وليس فيه بيان عن يوم الحج الأكبر ، إنما يذكر فيه الحج الأصغر ، ولولا خبر علي وابن عمر لجاز أن يقال : يوم عرفة [ هو ] يوم الحج الأكبر ؛ لأنه يقضى فيه فرض الحج وهو الوقوف ، ومن فاته ذلك فقد فاته الحج ، وجاز أن يقال : هو يوم النحر ؛ لأنه فيه يقضى طواف الزيارة ، وهو فرض ويقضى فيه أكبر مناسك الحج ؛ بل يوم النحر أولى أن يكون يوم الحج الأكبر ؛ لأن الحاج يفعل في يوم عرفة فرضاً من فرائض الحج ، وهو الوقوف ، ويقضي في يوم النحر فرضاً آخر من فرائضه ، وهو طواف الزيارة ، ويقضي مع ذلك [ أكثر ] مناسك الحج ، فقد استوى هذان اليومان في أنه يُقْضَى في كل واحد منهما فرض من فرائض الحج ، وزاد يوم النحر على يوم عرفة بما يفعل في يوم النحر من مناسك الحج ، ولا يفعل في يوم عرفة شيئاً من النسك إلا الوقوف بعرفة . واحتج بعض الناس بفرضية العمرة بما رواه عمرو بن حزم أن الحج الأصغر هو العمرة ، والأكبر هو الحج ، بما سميت العمرة حجّاً ، وقد ذكرنا الوجه في ذلك فيما تقدم . وعن علي وأبي هريرة وابن أبي أوفى - رضي الله عنهم - أنهم قالوا : الحجة الكبرى : يوم النحر . وعن عمر وابن عباس أنهما قالا : يوم عرفة .