Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 6-15)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } وقد قال : { فَإِذَا ٱنسَلَخَ ٱلأَشْهُرُ ٱلْحُرُمُ فَٱقْتُلُواْ ٱلْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَٱحْصُرُوهُمْ وَٱقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } الآية [ التوبة : 5 ] ، فأمر بالآية الأولى عند الوجود [ بالإجارة ] ، وفي هذه بالقتل والأسر ، وأمر في الأولى بتبليغه مأمنه ، وفي هذه بأن يقعد له كل مرصد ، وحال هذه هي حال الأولى في رأي العين ، ويتهيأ له في كل وقت يظفر به أن يستجير ؛ لما ذكر ، وفي كل حال يرصد له أن يحتال ليرد إلى مأمنه ، وفي ذلك زوال القيام بما في إحدى الآيتين في الظاهر ، فألزم ذلك طلب المعنى الموفق بين الأمرين من طريق التأمل بالأسباب التي هي تدل على حق المعاملة بالآيتين جميعاً . فقال أصحابنا : إنه إذا قصد نحو مأمن أهل الإسلام غير مظهر أعلام الحرب ، ولا بما يدل أنه على ذلك مجيئه ؛ بل يمشي مشي من ينقلب لحاجة ، ومن يتعاهد ومن ينادي إليه بالاستجارة - فيجار . ولو كان مقبلا نحو مأمننا ، كالطالب لأحد ، عليه أعلام الحرب ، لكنه كالغافل عن الذين يرصدون له أو الذين لهم منعة ولا قوة به - فلا يقبل قوله ، وذلك على تسليم الأمر الغالب من الأحوال ؛ إذ لا وجه لعلم الحقيقة في ذلك ، وعلى ذلك عامة الأمور بين أهل الدارين ، وما ذكرت عن الآية في لزوم ذلك الاعتبار ؛ إذ لا وجه له غيره هو دليله ، والله أعلم . ثم دل قوله : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ } بعد العلم بأنه من مأمنه لا يقدر على الاستجارة لبعد [ مأمن كل من ] مأمن الآخر ، ثم لا يكون مأمن الفريقين في إحدى الدارين ؛ لما كان تحقيق أمن كل فريق منهما نفي أمن الآخر ؛ إذ به خوفه ؛ فثبت أنه قد يؤذن له بالخروج للاستجارة من مأمنه والدخول في مأمن المسلمين إلى أن يبلغوا مساكنهم فيستجيروا ؛ فلذلك لا يوجب ذلك الوجود حق الأسر ولا القتل ، ويجب رده لو لم يجر ، ولم يسع تعرضه لشيء من ذلك . ثم قوله : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ ٱلْمُشْرِكِينَ ٱسْتَجَارَكَ } من غير أن يبين استجارته لماذا ، يحتمل أن يكون ترك بيانه ؛ لما في الجواب ذلك بقوله : { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } ، وذلك كقوله : { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ ٱللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي ٱلْكَلاَلَةِ } [ النساء : 176 ] أنه في الجواب بيان ما استفتوا . ويحتمل أن يكون ذلك لازم أن يسمع كلام الله بمعنى حجته لأي وجه دخل بأمان . وذلك قريب ؛ لأنا أمرنا بالتضييق عليهم ليسلموا ، فإذا أبحنا لهم الدخول للحاجات بلا غرض ، تذهب منفعة التضييق ، فيكون المقصود بالعهد لما يرون من آثار الإسلام ، وحسن رعاية أهل الإسلام ، ويسمعون حججه وما به ظهور الحق فيه ، رجاء أن يجيبوا ، فلذلك يؤذنون ، وإن كان في ذلك قضاء حاجاتهم . وقد روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يكن يقاتل حتى يدعو ؛ إلى الإسلام ، فيما قد كان دعاهم غير مرة ، فذلك المعنى عند الأمان أولى ، والله أعلم . وقوله : { حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلاَمَ ٱللَّهِ } فالأصل أن حقيقة الكلام لا تسمع بالكلام نفسه ؛ إذ الذي يؤدي حروف الكلام بما يقلب الحروف ويؤلفه ولا صوت له يسمع ؛ نحو اللسان والشفة ، ونحو ذلك ، وإنما يسمع بصوت يهيج من حيث الجارحة التي [ يتكلم وقوله ] ، فيبلغ كلامه أو حروف كلامه المسامع ، فالسمع يقع على الصوت الذي به يدرك الكلام ويفهم ، فصار سمع الكلام في الأصل مجازاً لا حقيقة ؛ فعلى ذلك ما قيل من سماع كلام الله . ثم هو يخرج على وجوه : أحدها : أن يسمع المعنى الذي جعل له الكلام وهو الأمر ، والنهي ، والتحريم والتحليل ، ونحو ذلك ، وذلك مما ينسب إلى الله ، فقيل بذلك كلام الله ؛ لما إليه ينسب إلى الأمر به والنهي ، ونحو ذلك . والوجه الثاني : أن يكون [ الله ] ألفه ونظمه على ما أعجز خلقه عن مثله ، فينسب إليه بما منه تأليفه على ما هو عليه ، وإن كان مسموعاً من غيره ؛ على ما تنسب القصائد إلى مبدعيها ، والكتب إلى مؤلفيها ، والأقاويل إلى الأوائل التي منهم ظهرت ، وإن لم يكن الذي يقوله في الحقيقة قوله أو كلامه بما كان منه البداء الذي عليه يتكلم ؛ فمثله معنى قوله : " حتى يسمع كلام الله " . والثالث : أن يكون ذلك ؛ لما بكلامه يعبر ، وبه يوصف أن له كلاماً ، وبه يرجع إلى ذلك ، وإن كان الله - تعالى - يجل عن الوصف لكلامه بالحروف ، والهجاء ، والأبعاض ، ونحو ذلك ، فلما كان إليه المرجع ، وإن كان حد ذلك غير متوهم هنالك ولا متصور ، فنسب إليه ؛ كما قال الله - تعالى - { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ النساء : 1 ] وقال : { خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } [ الروم : 20 ] من غير توهم كلية العالم في ذلك التراب أو النفس الواحدة ؛ لما إليه مرجع الكل نسب إليه ؛ فعلى ذلك أمر الكلام ، وذلك على ما قيل من لقاء الله والمرجع إلى الله والمصير بما لا تدبير لأحد هنالك ذكر المصير إليه ؛ لأن لذلك من صيرورة إليه - في الحقيقة - ورجوع لم يكن من قبل ، فمثله لما قيل : كلام الله . ثم الله - تعالى - يجل عن التصوير في الأوهام أو التقدير في العقول [ فعلى ذلك صفته بل ذلك أحق وأولى ، إذ نجد صفات الخلق لا تحد ولا تصور في الأوهام ولا تقدر بها العقول ] ، إلا من طريق القول بالحقيقة على ما هن أغيار لهم ، فالله - تعالى - المتعالي عن التصور في الأوهام ووصفه بالعلم ، والكلام ، ونحو ذلك ، أحق في إبطال توهم ذلك ، [ فتدبر ] فيه . وقال [ الثلجي ] : يقال : كلام الله ، على الموافقة ، لا على الحقيقة ؛ كما يقال : ذا قول فلان ، وكلام فلان ، وليس غيره كلام المتكلم به ، فالقائل الشاهد . وقال أبو بكر : فهذا يدل على أن كلام الله يسمع من وجوه ؛ فكأنه يذهب إلى مثل ما يقال : يعرف الله من وجوه ، على تحقيق الوجوه ، فمثله كلامه والله [ أعلم ] من غير توهم المعنى الذي به يعرف عن الله - سبحانه - كذلك سماع كلامه . وفي قوله : { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } دلالة أنه لم يقبل ما سمع وعرض عليه ؛ إذ لو قبل لكان يكون مأمنه هذه الدار ، لا تلك ، ولكان يحق عليه الخروج منها ، لا العود إليها . ثم معلوم أن كلام الله هو حجته ، وأن الحجة قد لزمته ؛ لوجهين : أحدهما : ما ظهر عجز الخلق عن مثله ، وانتشر الخبر في الآفاق على قطع طمع المقابلين لرسول الله بالرد ، الباذلين مهجهم وما حوته أيديهم في إطفاء نوره ، فكان ذلك حجة بينة لزمتهم . والثاني : أن جميع ما يتلى منه لا يؤتى عن آيات إلا وفيها مما يشهد العقول على قصور أفهام الخلق عن بلوغ مثله من الحكمة وعجيب ما فيه من الحجة ؛ مما لو قوبل بما فيه من المعنى وما يحدث به من الفائدة ، ليعلم أن ذلك من كلام من يعلم الغيب ، ولا يخفى عليه شيء ، وإذا كان كذلك صار هو بالرد مكابراً ، وحق مثله الزجر والتأديب أنه لم يفعل [ لما لم يكن ] يضمن أمانة القبول ، ولا [ أن ] يعارضه بالرد ، وذلك أعظم مما فيه الحدود ، فالحد أحق ألا يقام عليه ، والله أعلم . ثم قوله : { أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يدعه ولا يمنعه عن العود إلى مأمنه ؛ ليعلم أن حكم تلك الدار لم يزل عنه ، وأنه لا تلزم الجزية إلا عن طوع أو دلالة عليه . والثاني : أن يكون عليه حفظه إلى أن يبلغه مأمنه بدفع المسلمين عنه ، وفي ذلك لزوم حق الأمان الجميع بإجازة [ بعض ] ، وعلى ذلك كل مسلم . ثم سماع كلام الله يخرج على القرآن ، وفيه ما ذكرت من الدلالة ، وعلى سماع أوامر الله ونواهيه في حق الفرض عليه ، وعلى سماع حجج النبوة وآيات الرسالة والتوحيد من القرآن ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } . أي : ما لهم وما عليهم . ويحتمل نفي العلم : بما لم ينتفعوا بما علموا . ويحتمل ذلك تعليم [ من ] مع رسول الله كيفية معاملة الكفرة ؛ إذ هم لم يكونوا يعلمون من قبل ، والله أعلم . ثم قوله - عز وجل - : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ ٱللَّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ } . هو - والله أعلم - أن كيف يستحقون العهد ، وكيف يُعْطَى لهم العهد ، وقد نقضوا العهود التي بينهم وبين ربهم وبين رسول الله ؟ ! فأما العهود التي بينهم وبين ربهم فهي عهد الخلقة ؛ إذ في خلقة كل أحد الشهادة على وحدانية الله وألوهيته ، والشهادة على الرسالة . وما عهد إليهم في كتبهم من إظهار صفة محمد ونعته للخلق ، فنقضوا ذلك كله ونقضوا العهود التي بينهم وبين رسول الله ولم يحفظوها ؛ يقول - والله أعلم - : كيف يستحقون أن يُعْطَى العهد لهم ، وقد نقضوا العهد الذي عهد الله إليهم والعهود التي أعطاهم رسول الله ؟ ! لا يستحقون ذلك ، إلا أن الله - عز وجل - بفضله وإحسانه أذن أن يعطي لهم العهود : { فَمَا ٱسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَٱسْتَقِيمُواْ لَهُمْ } ، أي : أوفوا لهم العهد إذا أوفوا لكم وإن انقضت المدة ؛ يقول - والله أعلم - : إذا استقاموا لكم في وفاء العهد ، فاستقيموا لهم في وفائه ، وإن انقضت المدة . وقوله - عز وجل - : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِندَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ } . استثنى الذين عاهدوا عند المسجد الحرام ، يحتمل ألا يعطى العهد إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام . ويحتمل قوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ عَاهَدْتُمْ } ، فإنهم [ إن وفوا لكم فأوفوا لهم ] { إِنَّ ٱللَّهَ يُحِبُّ ٱلْمُتَّقِينَ } إن الله يحب من اتقى الشرك واتقى كل جور وظلم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } يقول : كيف تعطون لهم العهد وكيف يستحقون العهد ، ولو ظهروا عليكم لا يرقبون فيكم إلاًّ ولا ذمة ؟ ! وقال بعضهم : وكيف لا تقاتلونهم { وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } ، قال : الإل : الله ، والذمة : العهد . وقيل : الإل : القرابة . وقيل : الإل : العهد ، والذمة ، وكذلك ذكر في حرف حفصة : ( لا يرقبوا فيكم عهدا ولا ذمة ) . وقال القتبي : الإل : العهد . قال : ويقال : القرابة . وقال أبو عوسجة : الإل : القرابة . وقال أبو عبيدة : الإل : العهد ، والذمة : التذمم . وقال ابن عباس : الإل : الله ، بمنزلة جبريل ، تفسيره : عبد الله ؛ لما قيل : جبريل هو عبد الله . وقيل : الإل : الحرم ؛ يقول : كيف تعطونهم العهد وإن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم القرابة ولا العهد ، ولا يرقبوا الحرم فيكم ؟ ! وقد كانوا يحفظون فيما بينهم القرابة والرحم حتى يعاون بعضهم بعضاً ويناصر ، إذا وقع بين قرابتهم ورحمهم وبين قوم آخرين مباغضة وعداوة ، وكانوا يرقبون حرم الله حتى لا يقاتلون في الأشهر الحرم وعند المسجد الحرام ، وكانوا يحفظون العهود فيما بينهم من قبل ، ولا يرقبونها فيكم ولا يحفظونها . هذا - والله أعلم - تأويل قوله : { لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } ، وقد كانوا يرقبون من قبل . وقوله - عز وجل - : { يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ } . بأنهم يوفون العهد ويحفظونه . { وَتَأْبَىٰ قُلُوبُهُمْ } إلا النقض . وقوله : { وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ } في نقض العهد . والفسق : هو الخروج عن أمر الله ؛ كقوله : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } [ الكهف : 50 ] . وقوله - عز وجل - : { ٱشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } . يحتمل : حججه وبراهينه . ويحتمل : آيات القرآن ومحمد . ويحتمل : آياته : دينه . وقوله - عز وجل - : { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } . أي : صدوا الناس عن متابعة النبي . وقيل : صدوا الناس عن دين الله الإسلام . { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } . أي : بئس ما عملوا بصدهم الناس عن دين الإسلام ومتابعة محمد صلى الله عليه وسلم ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } هذا قد ذكرناه . { وَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُعْتَدُونَ } . في نقض العهد ، والاعتداء : هو المجاوزة عن الحد الذي جعل لهم . وقوله - عز وجل - : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } . قال بعض أهل التأويل : انظروا إلى كرم ربكم وجوده ، قوم قد افتروا على الله كذباً ، وكذبوا رسول الله ، وهموا بقتله وإخراجه من بين أظهرهم ، وطعنوا في دينهم ، وعملوا كل بلية من نصب الحروب والقتال فيما بينهم ، ثم إنه وعدهم التوبة والمغفرة والتجاوز عما كان منهم بقوله : { إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ } [ الأنفال : 38 ] وجعل فيما بينهم الأخوة والمودة بقوله : { فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } ، وقال : { وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [ الروم : 21 ] وقال : { إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [ آل عمران : 103 ] وغير ذلك من الآيات ، وفيه أن من كان له بمكان آخر ذنب أو جفاء ، فإذا رجع عن ذلك وتاب لزمه أن يتجاوز عنه وألا يذكر بعد ذلك ما كان منه من الذنب ؛ على ما جعل الله فيما بين هؤلاء الأخوة والمودة إذا تابوا ، وقال : { فَإِخْوَٰنُكُمْ فِي ٱلدِّينِ } وقد كان منهم ما كان ، ومن حق الأخوة ألا يذكر ما كان منهم من المساوئ . ثم قوله : { فَإِن تَابُواْ } من الشرك وما كان منهم . وقوله : { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ } . يحتمل قوله : { وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ } وجهين : الأول : يحتمل : الصلاة المعروفة والزكاة المعروفة ، زكاة المال ، وهو ما ذكرنا فيما تقدم من الإقرار بهما والاعتقاد والقبول لذلك دون فعلهما ، وهو في الكبراء والقادة الذين كانوا يأنفون عن الخضوع لأحد ، ولا يؤتون الزكاة ، ولا يتصدقون ؛ لما ظنوا أنهم يخلدون في الدنيا ؛ إشفاقاً على أنفسهم . والثاني : يحتمل أن يكون المراد من الصلاة : الخضوع والخشوع ، لا الصلاة المعروفة ، والمراد من الزكاة زكاة النفس وإصلاحها ، فإن كان هذا فهو لازم في الأوقات كلها ، ما من وقت إلا وله على كل أحد الخضوع [ له ] والخشوع له ، ويزكي نفسه ويصلحها ، وهو كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } [ الشمس : 9 ] . وقوله : { وَنُفَصِّلُ ٱلأيَـٰتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : نبين الآيات لقوم يعلمون ينتفعون بعلمهم . ويحتمل : { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي : لقوم إذا نظروا فيها وتدبروا يعلمون لا لقوم لا يعلمون . وقوله - عز وجل - : { وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } [ قوله : أيمانهم : العهود نفسها كقوله : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ ٱللَّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ ٱلأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } [ النحل : 91 ] . يحتمل قوله : { وَإِن نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ } [ أيمانهم ] أيماناً يحلفونها بعد إعطاء العهد توكيداً ؛ لئلا ينقضوا العهد إذ عادتهم نقض العهد ونكثه . وقوله - عز وجل - : { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } [ طعنهم ] في الدين ظاهر . وقوله - عز وجل - : { فَقَاتِلُوۤاْ أَئِمَّةَ ٱلْكُفْرِ } . أي : أئمة الكفرة ، وتخصيص الأمر بمقاتلة الأئمة ؛ لما أن الأتباع أبداً يقلدون الأئمة ، ويصدرون عن آرائهم وتدبيرهم ، فإذا قاتلوهم اتبع الأتباع لهم . والثاني : لنفي الشبه أي : ليس الأئمة منهم كأصحاب الصوامع ، وإن كانوا هم أئمة في العبادة ، فلا تترك مقاتلتهم ؛ كما تترك مقاتلة أصحاب الصوامع ؛ [ لأن أصحاب الصوامع ] قد عزلوا أنفسهم عن الناس وعن جميع المنافع ، وحبسوها للعبادة ، والأئمة ليسوا كذلك . والثالث : خصّ الأئمة بالقتال ؛ لأنهم إذا قتلوهم لم يبق لهم إمام في الكفر ، فيذهب الكفر رأساً ، وهو كقوله : { وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ … } الآية [ الأنفال : 39 ] . [ وقوله ] : { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } . يحتمل : { لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } أي : لا عهد لهم بعد نقضهم العهد ، أي : لا توفوا لهم العهد الذي كان لهم إذا نقضوا . ويحتمل : { لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } أي : لا يعطي لهم العهد [ مبتدأً بعدما نقضوا العهد ؛ لأنهم اعتادوا نقض العهد . والثاني : قال ذلك في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون ] أبداً . وفيه لغة أخرى : { لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } ، بكسر الألف : { لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } أي : لا يؤمنون أبداً [ فإن كان كذلك وذلك في قوم علم الله أنهم لا يؤمنون أبداً ] . وفائدة قوله : { إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } تخرج على وجهين : أحدهما : أن أهل العهد إذا نقضوا العهد ينقض ذلك ، ويتركون على النقض ، ويقاتلون بعد النقض ، وليس كأهل الذمة إذا نقضوا الذمة لا يتركون على ذلك ، ولكن يردون إلى الذمة ولا تنقض الذمة [ فيما ] بينهم . وقال الحسن : قوله : { لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ } يقول : لا تصديق لهم . وقوله : { لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } . عن نقض العهد . وقوله - عز وجل - : { أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُوۤاْ أَيْمَانَهُمْ } أي : كيف لا تقاتلون قوماً نكثوا أيمانهم ، وأيمانهم ما ذكرنا ، وهو حرف الإغراء على مقاتلة من اعتقد نقض العهود والتحريش عليهم { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ } . يحتمل قوله : { وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ ٱلرَّسُولِ } : القتل ، أي : هموا بقتله ، وفي القتل إخراجه . أو هو إخراجه من المدينة ، على ما ذكر في بعض القصة : أن اليهود قالوا لرسول الله : إن مكان الأنبياء والرسل بيت المقدس ، لا المدينة ، فانتقل إليه . وفي الآية دلالة إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ؛ لأنه معلوم أنهم أسروا في أنفسهم وفيما بينهم إخراجه وقتله ، لا أنهم أظهروا ذلك ، ثم أخبرهم بذلك ، دل أنهم إنما علموا أنه إنما عرف ذلك بالله تعالى . وقوله - عز وجل - : { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } . يحتمل قوله : { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } في نقض العهد ، أي : هم بدءوكم بنقض العهد . ويحتمل : بدءوكم بالقتال أول مرة والإخراج . وقوله - عز وجل - : { أَتَخْشَوْنَهُمْ فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ } أي : لا تخشوهم واخشوا الله ؛ فإنهم لا يقدرون أن تصل إليكم نكبة إلا بإقدار الله إياهم ، فلا تخشوهم واخشوا الله . ويحتمل قوله : { أَتَخْشَوْنَهُمْ } فالله القادر بنصركم وبقهر عدوكم { فَٱللَّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } : إذ هو القادر على منعهم عنكم ونصركم عليهم . وقوله - عز وجل - : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ } الآية . علم الله - عز وجل - كراهة القتل وثقله على الخلق ، فأمر المؤمنين بمقاتلة الكفرة ، ووعدهم النصر . والتعذيب بأيديهم : يحتمل وجهين : الأول : يحتمل : القتل والإهلاك . والثاني : يحتمل الأسر والسبي . { وَيُخْزِهِمْ } يحتمل أيضاً وجهين : الأول : يحتمل : الهزيمة والإذلال . والثاني : يحتمل قوله : { وَيُخْزِهِمْ } : في الآخرة ؛ كقوله : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } [ آل عمران : 192 ] ، الخزي : العذاب الذي فيه الفضيحة والذلة . وفي قوله : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ ٱللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ } دلالة نقض قول المعتزلة ؛ لقولهم : إنه لا قدرة لله على أفعال الخلق ، وقد أخبر أنه يعذبهم بأيديهم ، ولو كان غير قادر على أفعالهم ، كان يعذبهم بيده لا بأيديهم . { وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ } . وعدهم النصر عليهم والظفر وخزي الكفرة ، وهو ما ذكر : { قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى ٱلْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } [ التوبة : 52 ] [ وكذلك في قوله : { أَن يُصِيبَكُمُ ٱللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } ] دلالة نقض قولهم [ أيضا ، ] لأنه أخبر أنهم يصيبهم العذاب من عنده أو بأيدي المؤمنين ؛ كما ذكرناه . [ و ] قوله : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } . يحتمل أن تكون قلوبهم توجعت وتألمت بكفرهم بالله وتكذيبهم الرسول ، فوعدهم شفاء صدورهم ، وذلك يحتمل وجهين : أحدهما : أنهم يسلمون ، فيصيرون إخواناً ، فيدخل فيهم السرور والفرح بإزاء ما حزنوا وتألموا ، وذلك شفاء صدورهم . والثاني : يشف صدورهم بالقتل والهزيمة ، يقتلون ويهزمون ، ففي ذلك شفاء صدورهم ، لما تألمت وتوجعت بالتكذيب والكفر بالله وآياته . وقوله - عز وجل - : { وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ } هذا يحتمل - أيضاً - وجهين : يذهب الغيظ الذي كان في قلوبهم [ بتكذيبهم رسول الله وكفرهم بآيات الله بإسلامهم يسلمون فيكونون إخواناً . أو يقتلون ويهلكون فيذهب عنهم الغضب الذي كانوا ] غضبوا عليهم بالذي ذكرنا . وقوله - عز وجل - : { وَيَتُوبُ ٱللَّهُ عَلَىٰ مَن يَشَآءُ } أي : من شاء عذب ، ومن شاء تاب عليه . وفي الآية دلالة [ الرد ] على المعتزلة ؛ لأنهم يقولون : شاء أن يتوب على جميع الكفرة ، لكنهم لا يتوبون ، فأخبر أنه يعذب بعضاً ويتوب على بعض ، فإنما شاء أن يعذب غير الذي شاء أن يتوب [ عليه وشاء أن يتوب على ] غير الذي شاء أن يعذبه . { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ } . بما كان ويكون ، أي : عن علم بما كان منهم خلقهم ، لا عن جهل ؛ إذ خلقه إياهم ليس لمنافع نفسه وحاجته ، إنما خلقهم لحاجتهم ومنافعهم { حَكِيمٌ } وضع كل شيء موضعه . ويحتمل : { عَلِيمٌ } : بما كان من هؤلاء من التكذيب لرسول الله والكفر بآياته ، { حَكِيمٌ } أي : فيما جعل عليهم من القتل والتعذيب والخزي كأنه وضع الشيء موضعه .