Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 58-60)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَمِنْهُمْ } يعني : المنافقين { مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ } اختلف فيه : قال بعضهم : { يَلْمِزُكَ } يزورك لمكان الصدقات ؛ طمعاً فيها ؛ لتعطيهم الصدقات ، و { يَلْمِزُكَ } ، أي : يزورك ؛ ليسألك من الصدقات ، أي : إنما يزورونك لمكان الصدقات لتعطيهم ، لا يزورونك ولا يأتونك لمكان الرسالة ، أو رغبة في الدين ، ولكن لمكان الصدقات ، فإن أعطوا منها رضوا عنك ويعظمونك ، وإن لم تعطهم إذا هم يسخطون ؛ لأن إتيانهم رسول الله وزيارتهم إياه لمكان الصدقة ، فإذا لم يعطوا منها شيئاً سخطوا . ومنهم من قال : قوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ } ، أي : يطعن عليك في الصدقات ، أو في قسمة الصدقات . روي عن أبي سعيد الخدري قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم قسماً له ، فجاءه رجل يقال له : ابن ذي الخويصرة التميمي ، قال : اعدل يا رسول الله ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " ويلك ومن يعدل إذا لم أعدل أنا ؟ ! " ، فقال عمر - رضي الله عنه - : ائذن لي يا رسول الله فأضرب عنقه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : " دعه ؛ فإن له أصحاباً يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم ، وصيامه إلى صيامهم " ؛ لحسن صلاتهم وصيامهم ، فيحقر صلاته عند صلاة أولئك ، " يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية " " ذكر حديثاً طويلاً ، وهو كأنه كان من الخوارج ، وهو الذي قتله علي ابن أبي طالب ، رضي الله عنه . وقوله - عز وجل - : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ وَرَسُولُهُ } . ما آتاهم الله من الرزق ، ورسوله من الصدقات . { وَقَالُواْ حَسْبُنَا ٱللَّهُ سَيُؤْتِينَا ٱللَّهُ مِن فَضْلِهِ } . أي : من دينه ورسوله ، وقالوا : حسبنا الله ، كان خيراً لهم مما طمعوا في هذه الصدقات ، وطعنوا رسول الله في ذلك . وقال بعضهم : [ لو ] رضوا ما آتاهم الله ورسوله من فضله مما رزق لهم ، لكان خيراً لهم مما فعلوا . وقال بعض أهل التأويل : { وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَآ آتَاهُمُ ٱللَّهُ } من فضله ، أي : من الصدقات التي كان أعطاهم رسول الله منها وإلى الله رغبوا ، لكان خيراً مما طمعوا في تلك الصدقات ، وطعنوا رسول الله ، وسخطوا عليه . ويقرأ و { يَلْمِزُكَ } : برفع الميم . قال أبو عوسجة : اللمز : العيب ؛ يقال له : لماز ولامز ، وهماز وهامز . وقال القتبي : { يَلْمِزُكَ } ، أي : يعيبك ويطعن عليك ؛ يقال : همزت فلاناً ولمزته : إذا اغتبته وعبته ، وكذلك قول الله : { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] . وقوله - عز وجل - : { إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ } . يشبه أن تكون الآية في بيان موضع الصدقة ؛ على ما تقدم من الذكر بقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ فِي ٱلصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ . … } الآية ، ما ذكر أن المنافقين كانوا يأتون رسول الله ، يسألونه من الصدقات ، فإن أعطاهم رضوا عنه ، وإن لم يعطهم طعنوا فيه ، وعابوا عليه ، فبين أن الصدقات ليست لهؤلاء ، ولكن للفقراء من المسلمين ، والمساكين من المسلمين ، وكذلك ما ذكر من الأصناف : المكاتبين والغارمين … أنها لهؤلاء من المسلمين ، لا لهم . ويدل على ذلك ما جاء من الأخبار : وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه وضع صدقات بأعيانها حملت إليه في صنف واحد [ مثل ] : ما روي أنه أعطى الأقرع بن حابس مائة من الإبل ، وأعطى فلاناً كذا . وروي عن الصحابة أنهم وضعوا الصدقة في صنف واحد . وروي عن حذيفة أنه قال : هؤلاء أهلها ، ففي أي صنف وضعتها أجزأك . وعن ابن عباس أنه قال كذلك . وعن عمر : أنه كان إذا جمع صدقات [ الناس ] المواشي والبقر والغنم ، نظر ما كان منتجة للبن ، فيعطي لأهل البيت على قدر ما يكفيهم ، فكان يعطي العشرة شاة للبيت الواحد ، ثم يقول : عطية تكفي خير من عطية لا تكفي ، أو كلام نحو هذا . وقد روي عنه أنه سئل عن ذلك ، فقال : والله ، لأردن عليهم الصدقة حتى يروح على أحدهم مائة ناقة ، أو مائة بعير . وعن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أنه أتي بصدقة ، فبعثها إلى أهل بيت واحد . هؤلاء نجباء الصحابة استجازوا وضع الصدقة في صنف واحد ، ولو كان حق كل صدقة أن تقسم بين هؤلاء الأصناف الذين ذكر بالسوية على ما قال القوم ، لكان قال الله - عز وجل - : إنما الصدقات بين الفقراء وبين من معهم من الأصناف ؛ كما يقال : الميراث لقرابة فلان ، أي : ليس للأجنبيين في ذلك حق ، ولا يقال : الميراث بين قرابة فلان ؛ لأن لكل في ذلك حقّاً ؛ لأن حرف " بين " يقتضي التسوية بجميعهم ، وقوله : " لهم " يقتضي أنه لا حق فيه لغيرهم . ألا ترى أنه يقال : الخلافة لولد العباس ، يراد أنه لا حظ فيها لغيرهم ، والسقاية لبني هاشم ، ونحوه ، ليس يراد ذلك بينهم بالتسوية ، وإنما يراد ذلك أن لا حق لغيرهم فيها ؟ ! وبعد ، فإنه لو كان في الآية : إنما الصدقات بين الفقراء وبين من ذكر معهم ، لكان لا يجب قسمة كل صدقة بين هؤلاء الأصناف المذكورة في الآية ؛ لأنه ليس للصدقات انقطاع ، بل لها مداد إذا دفع صدقة واحدة إلى صنف واحد ، فإذا أتي بصدقة أخرى دفع إلى صنف آخر ، هكذا يعمل في الأصناف كلها . وبعد ، فإنه لم يذكر عن أحد من الأئمة أن تكلف طلب هؤلاء الأصناف فقسمها بينهم ، وكذلك لم يذكر عن أحد من أرباب الأموال أنهم دفعوا صدقة واحدة بين هؤلاء الذين ذكر ؛ فدل أنه خرج على ما ذكرنا ؛ لأنه لو كان على تسوية كل صدقة بينهم ، لم يجز ألا يقسموها كذلك ويضيعون حق البعض من هؤلاء . وبعد ، فإنه لو تكلف الإمام أن يظفر بهؤلاء الثمانية ما قدر على ذلك ، دل أنه لم يخرج الخطاب على توهم خصومنا . ولأن الحق لو كان التسوية بينهم في كل صدقة ، لكان إذا لم يجد في بلدة مكاتبين أو واحدا من هؤلاء الأصناف ، فيجب أن يسقط مقدار حصة من لم يجد عن أربابها ، فذلك بعيد ؛ فقد جاء في الخبر أنه بعث معاذاً إلى اليمن ، فقال له : " خذ من أغنيائهم وردّ في فقرائهم " . ويكره إخراج صدقة كل بلد إلى غيره من البلدان . ثم تحتمل الآية جميع الصدقات التي يتصدق بها على الفقراء والمساكين من الفيء وغيره ، فبين أن هؤلاء موضع لذلك كله ، من نحو قوله : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [ الأنعام : 141 ] وقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا } [ التوبة : 103 ] . ويحتمل زكاة الأموال المفروضة ، والوجه فيه ما ذكرنا . فإن قيل : إن الرجل إذا أوصى فقال : " ثلث مالي لفلان وفلان [ وفلان ] ، أليس هو مقسوماً بينهما بالسويّة ؟ ما منع أن الأوّل بمثله ؟ قيل : لا تشبه الصدقات الوصايا ؛ وذلك أن الوصية إنما وقعت في مال معلوم ، لا يزيد فيه بعد موت الميت شيئاً ، ولا يتوهم له مدد ، والصدقات يزيد بعضها بعضاً ، وإذا فني مال جاء مال آخر ، وإذا مضت سنة جاءت سنة أخرى بمال جديد ، فإذا دفع الإمام صدقة جميع ما عنده إلى الفقراء ثم حضره غارمون فتحمل إليه صدقة أخرى يجعلها فيهم ، فيصلح بذلك أحوال الجميع ؛ لما لا انقطاع للأموال إلى يوم القيامة . وكيف تقسم الصدقة على ثمانية أسهم ؟ ولا خلاف في أن للعاملين بقدر عمالتهم زاد ذلك على الثمن أو نقص منه ، فإذا زالت القسمة في أحد الأصناف زالت في الجميع ، فأعطي كل صنف منهم بقدر حاجته كما أعطي العاملون ، وكيف يصنع بسهم المؤلفة قلوبهم وقد ارتفع ذلك ونسخ ؟ وعلى ذلك جاء عن بعض الصحابة ، من نحو أبي بكر وعمر أنهم لم يعطوهم شيئاً ، أليس يرد ذلك على سائر السهام ؟ ! فإذا جاز أن يزاد على الثمن في وقت ، جاز أن ينقص منه في وقت . وفي قوله : { وَٱلْعَامِلِينَ } دلالة أن لا بأس للأئمة والقضاة أخذ الكفاية من بيت المال ، ولكل عامل للمسلمين أخذ كفايته ورزقه من ذلك إذا فرغ نفسه لذلك ، وكفها عن غيره من المنافع والأعمال . ثم اختلف في الفقراء والمساكين ؛ قال بعضهم : الفقراء : هم من المهاجرين ؛ كقوله : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } [ الحشر : 8 ] والمساكين : من الذين لم يهاجروا . وقال بعضهم : الفقير : الذي به زمانة ، والمسكين : الذي ليست به زمانة ، وهو محتاج . وقال بعضهم : الفقراء : هم المتعففون الذين لا يخرجون ولا يسألون الناس ؛ كقوله - تعالى - : { يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَآءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ } [ البقرة : 273 ] ، والمساكين : هم الذين يسألون ، وكذلك قال الحسن . وعن عمر قال : ليس المسكين الذي لا مال له ، ولكن المسكين الذي لا يصيب المكسب . وعن ابن عباس قال : الفقراء فقراء المسلمين ، والمساكين : الطوافون . وهو قريب مما قاله الحسن . وعن الأصم قال : الفقير : الذي لا يسأل ، وهو ما ذكرنا بدءاً ، والمسكين : الذي يسأل إذا احتاج ، ويمسك إذا استغنى . وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم برواية أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : " " ليس المسكين هذا الطواف الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان " قيل : فما المسكين يا رسول الله ؟ قال : " الذي لا يجد ما يغنيه ، ولا يفطن له ، فيتصدق عليه ، ولا يقوم فيسأل الناس " " . فهذا لو حمل على ظاهره لدفع قول من قال : إن المسكين هو الذي يسأل الناس ، ولكن يجوز أن يكون معناه - والله أعلم - أن الذي يسأل وإن كان عندكم مسكيناً ، فإن الذي لا يسأل أشد مسكنة منه ، ولا يحمل على غير ذلك ؛ لأن الله قد سمى الذين لا يسألون الناس فقراء ، ولا يجوز أن يجعل الحديث مخالفاً للآية ما أمكن أن يكون موافقاً لها ؛ قال الله - تعالى - : { يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 15 - 16 ] . فقوله { ذَا مَتْرَبَةٍ } [ البلد : 16 ] قيل : هو الذي لا حائل بينه وبين التراب لفقره ؛ فدل بذلك - والله أعلم - على أن المسكين هو الشديد الفقر ، والفقير هو الذي لا يملك شيئاً ، ولم يبلغ في الفقر والضرورة حال المسكين ، ويدل لذلك قول عمر : ليس المسكين من لا مال له ، ولكن المسكين من لا مكسب له ؛ كأنه يقول : إن الذي لا مال له وله مكسب هو فقير ، والمسكين أشد حالاً من الفقير ، وليس له مال ولا مكسب . وإن حمل قول النبي - عليه السلام - : " ليس المسكين الذي يسأل ، ولكن المسكين الذي لا يفطن له ولا يسأل " على أن ذلك الذي لا يفطن به هو أشد مسكنة من الآخر ، وإن كان الآخر مسكيناً - أيضاً - كان موافقاً للمعنى الذي ذكرنا ؛ لأنا قلنا : إن المسكين هو الشديد الفقر ، وقد يكون فقيراً وإن لم يبلغ به الضر مبلغ الضر الأول . وقد يخرج قول من قال : إن المسكين الذي يخرج هذا المخرج ؛ لأن من شأن المسلم الفقير أنه يتحمل ما كانت له حيلة ، ويتعفف ، ولا يخرج فيسأل وله حيلة فخروجه يدل على شدة ضيقه ، وعلى الزيادة في سوء حاله ، فكان القولان جميعاً يرجعان إلى معنى واحد . وإذا كان الفقير أحسن حالا من المسكين لما ذكرنا ، فقد يجوز أن تدفع الصدقة إلى من له مال قليل ؛ لأنه فقير ، وإن لم يكن حاله في فقره حال المسكين الذي لا يملك شيئاً ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا } ؟ اختلف فيه : قال بعضهم : يعطى لهم الثمن . وقال بعضهم : يعطى لهم قدر عمالتهم . وقال بعضهم : يعطى لهم قدر كفايتهم وعيالهم . أما قول من قال : يعطى لهم الثمن : فلا معنى له ؛ لما يجوز ألا يبلغ الثمن الوفاء أو عمالته لا تبلغ عشر عشر ذلك . ومن قال : يعطى لهم قدر كفايتهم وكفاية عيالهم ، فهو - والله أعلم - إذا [ كان ] هو يسلم نفسه لذلك واستعمله الإمام في جميع أمور المسلمين ، فإذا كان كذلك يعطى له عند ذلك الكفاية له ولعياله ، وأما إذا تولى شيئاً من تلك العمالة في وقت ، فيعطي له الكفاية فلا . والأشبه عندنا : أن يعطى لهم قدر عمالتهم ، وهكذا الإمام إذا استعمل أحداً في عمل من أعمال اليتيم فإنه يعطى له قدر أجر عمله . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ } . قد ذكرنا فيما تقدم أنه - عليه السلام - كان يعطي الرؤساء من المنافقين من الصدقات ، يتألف به قلوبهم ليسلموا ؛ على ما روي أنه كان يعطي فلاناً مائة من الإبل ، وفلاناً كذا . روي أنه قسم ذهبة أو أديماً مقروطاً ، بعثها علي - رضي الله عنه - من اليمن ، بين الأقرع بن حابس وبين فلان وفلان . والحديث في هذا كثير أن النبي كان يخص به الرؤساء منهم بالصدقة يتألفهم ، والإسلام في ضعف وأهله في قلة ، وأولئك كثير ذوو قوة وعدة ، فأما اليوم فقد كثر أهل الإسلام ، وعز الدين ، وصار أولئك إذ لا يحمد الله ، فقد أرتفع ذلك وذهب ؛ إذ قوي المسلمون وكثروا ، فيقاتلون حتى يسلموا ، وعلى ذلك جاء الخبر عن أبي بكر وعمر - رضي الله عنهما - فدل على ما ذكرنا . روي أن الأقرع بن حابس وعيينة بن حصن جاءا إلى أبي بكر - رضي الله عنه - فقالا : يا خليفة رسول الله ، إن عندنا أرضاً سبخة ، ليس فيها كلأ ولا منفعة ، فإن رأيت [ أن ] تقطعناها ، فأقطعنا إياها ، وكتب لهما عليها كتاباً ، وأشهد عمر - رضي الله عنه - وليس في القوم ، فانطلقا إلى عمر ليشهداه ، فلما سمع عمر ما في الكتاب ، فتناوله من أيديهما ، ثم نظر فيه ، فمحاه ، فتذمرا وقالا له مقالة سيئة ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتألفكما والإسلام يومئذ قليل ، وإن الله - تعالى - قد أعز الإسلام ؛ اذهبا فاجهدا جهدكما ، لا أرعى الله عليكما إن رعيتما . ونحن نذهب إلى هذا الحديث ؛ لأن أبا بكر لم ينكر على عمر قوله وفعله ، فصار ذلك وفاقاً منه له ، فكفى بقولهما حجة لنا . ولنا في ذلك وجهان من الحجج : أحدهما : أن النبي - عليه السلام - كان يعاهد قوماً وهو إلى مداراتهم ومعاهدتهم محتاج ؛ لما ذكرنا من قلة أهل الإسلام وضعفهم ، فلما أعز الله الإسلام وأكثر أهله ردّ إلى أهل العهود عهودهم ، ثم أمر بمحاربتهم جميعاً . والثاني : ما قال الله - تعالى - : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي ٱلأَرْضِ } [ الأنفال : 67 ] فكانت الحال الثانية التي عز فيها الإسلام وقوي أهله وعزوا مخالفة للحال الأولى في هذه الأشياء ، فكذلك أمر المنافقين جائز الرضا في الحال الأول محظور في الحال الثانية ، والله أعلم . وفي الآية دلالة جواز النسخ بالاجتهاد ؛ لارتفاع المعنى الذي [ به ] كان ؛ ليعلم أن النسخ قد يكون بوجوه . وفي خبر أبي بكر ، وعمر - رضي الله عنهما - دلالة أن إذن الإمام شرط في إحياء الأرض الموات التي لا تملك إلا بالإذن ؛ لأن ذَيْنَك الرجلين [ اللذين ] أتيا أبا بكر ، والأرض لا كلأ فيها ، وذلك صورة أرض الموات . وقوله - عز وجل - : { وَفِي ٱلرِّقَابِ } . اختلف فيه ؛ قال بعضهم : معناه : العتق ، ويجوز أن يعتق عن الزكاة . وقال بعضهم : هم المكاتبون ، يستأدونهم في كتابتهم ، وقالوا : لا يشبه الإعتاق ما يدفع إلى المكاتب فيؤدي فيعتق ؛ لأن العتق ليس بتمليك ، وإنما هو إبطال ملك ، وما يدفع إلى المكاتب فهو تمليك ، فذلك مختلف ، وإنما تكون الزكاة زكاة إذا زالت من مالك إلى مالك . والثاني : أن العتق يوجب الولاء للمعتق ، فحقه فيه باق ، والذي يدفع الزكاة إلى مكاتب لغيره لا يرجع إليه بذلك حق ، ولا يجب فيه ولاء ، فهما مختلفان . والثالث : وهو أن الله - تعالى - [ قال ] : { وَٱلْغَارِمِينَ } ، ولو أن رجلا قضى من غارم دينه بغير أمره ، لم يجز من زكاة ماله ، وإنما يكون زكاة إذا دفعها إلى الغارم ، فعتق المزكي العبد بمنزلة قضاء دين الغارم ؛ لأنه لا يحتاج في واحد منهما إلى قبول من الغارم والعبد ، وإعطاؤه المكاتب في الزكاة كدفعه إياها إلى الغارم ؛ لأنه قد دفعها في كلا الحالين إلى من قبلها منه من زكاة وقبضها ، وفي ذلك وجه آخر : وذلك أن أشترى عبداً من رجل لأعتقه ، فقد صار ثمنه ديناً في ذمتي قبل أن أنقد المال ، فإذا أقبضته فإنما قضيته عن ذمتي ديناً قد لزمني ، ولا يجوز أن أقضي ديني . وقوله - عز وجل - : { وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } . قيل : هم الغزاة . ويحتمل : { وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ } ، أي : في طاعة الله أن كل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات ، فإنه داخل في ذلك . وقوله : { وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } . قيل : الضيف ينزل به . وقيل : هو المار عليك وإن كان غنيّاً ، والمنقطع عن ماله . وقوله : { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ } يحتمل : بياناً من الله وإعلاماً أهل الصدقات منهم من غيرهم . ويحتمل قوله : { فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ } أي : واجباً من الله وفرضاً { وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } .