Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 61-66)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ } . أخبر أنهم يؤذون النبي ، ولم يبين بما كانوا يؤذونه ، فيحتمل : يؤذون النبي بتكذيبهم إياه ، وتركهم الإجابة له والطاعة فيما يدعوهم إليه . ويحتمل : يؤذونه بكلمات يسمعونه ، وطعن يطعنونه ، ويعيبون عليه { وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ } . قيل : الأذن هو الذي يقبل العذر ممن اعتذر إليه ، ويسمع [ من كل أحد يعتذر إليه ويقبل ، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم يقبل العذر ممن اعتذر إليه ويسمع ] منه سواء كان له عذر أو لا عذر له ؛ لكرمه وشرفه ، وحسن خلقه ، فظن أولئك لما رأوه أنه كان يعاملهم معاملة أهل الكرم والشرف والمجد أنه إنما يعاملهم هذه المعاملة لسلامة قلبه ، وصغر همته ، وقصور يده ، وهم كانوا أهل كبر وأنفة ، قالوا : هو أذن ، نقول ما شئنا ثم نتخلف ونعتذر إليه فيصدقنا ، ويقبل عذرنا ؛ قال الله - تعالى - : { قُلْ } يا محمد { أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } أي : الذي يقبل العذر ويسمع خير لكم من الذي لا يقبل ولا يسمع ، فكيف تؤذونه ، وتطعنون [ عليه ] ، وتعيبونه ، ولا تصدقونه ولا تؤمنون به ؟ يخبر عن سفههم . قال أبو عوسجة : الأذن : الذي من قال له شيئاً ، أو حدثه حديثاً ، صدقه واستمع منه ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصدق كل من قال له شيئاً أو حدثه حديثاً ، واستمع منه ؛ لكرمه ، وشرفه ، ومجده ، وحسن خلقه ، لا لما ظن أولئك . وقيل : يقولون : هو أذن ، أي : يسر في نفسه ويكتم ، ولا يكافيء من آذاه ، ولا يجازيه ؛ قال الله : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } . وقال بعضهم : { يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ } ، أي : يصدق بالله بما ينزل عليه من آياته . { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } ، أي : يصدقهم فيما بينهم من شهاداتهم ، وأيمانهم على حقوقهم ، وفروجهم ، وأموالهم . ويحتمل قوله : يؤمن بالله ويصدقه بما يخبره من سرّ المنافقين ، وما استكتموه منه من الكيد له ، والمكر به ، ويؤمن للمؤمنين بما يخبرونه من قبل أولئك المنافقين من الطعن فيه ، والعيب عليه ، والإيمان بآخر هو التصديق بجميع ما فيه ، والإيمان له من خبره وحديثه . وقوله : { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } . فيما يشهدون في الآخرة له بالتبليغ إليهم ؛ كقوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ ٱلَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ ٱلْمُرْسَلِينَ } [ الأعراف : 6 ] أو أن يكون قوله : { وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } ، أي : يؤمن بالمؤمنين فيما بينهم بالأخوة في الدين ؛ كقوله : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ ٱلصَّلَٰوةَ وَءَاتَوُاْ ٱلزَّكَٰوةَ } [ التوبة : 11 ] . وقوله - عز وجل - : { وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } . كان صلى الله عليه وسلم رحمة للمؤمنين ؛ لما استنقذهم من الكفر إلى الإيمان ، ومن الهلاك إلى النجاة ، يشفع لهم في الآخرة بإيمانهم في الدنيا . { وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . في الآخرة ، بقية من الآية الأولى . وقوله : { وَٱلْغَارِمِينَ } . جعل الله الغارم موضعاً للصدقة ، وهو الذي عليه الدين والغرم من أي وجه لحقه ؛ [ و ] على ذلك روي في الخبر عن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن المسألة لا تحل إلا لإحدى ثلاث : من فقر مدقع ، أو غرم مفظع ، أو لذي دم موجع " . وفي بعض الأخبار : " إن الصدقة لا تحل إلا لخمس : للعاملين عليها ، أو رجل اشتراها ، أو غارم ، أو غاز في سبيل الله ، [ أو فقير تصدق عليه فأهداها لغني ] " . وروي عن الحسن ، والحسين وابن عمر ، وابن جعفر أن رجلاً سألهم شيئاً فقالوا : إن كانت مسألتك في إحدى ثلاث فقد وجب حقك : في فقر مدقع ، أو غرم مفظع ، أو دم موجع . هذه الأخبار كلها تدل على أن الغارم موضع للصدقة ، قل دينه أو كثر . فإن قيل : في الخبر : " أو غرم مفظع " ، قيل : لا خلاف بينهم في أن من دينه غير مفظع فله أن يأخذ بقدر دينه من الصدقة ، فهذا يدل أن الذي روي في الخبر إنما هو لكراهة المسألة ، لا على التحريم ، وهكذا نقول : إن المسألة لا تحل له إذا كان غرمه غير مفظع ، ولكن يحل وضعه عنه وأخذه له . مسألة : قوله : { وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ } هو ما ذكرنا أنه المنقطع من ماله ، جعله الله موضعاً للصدقة ، وإن كان غنيّاً في مقامه للحاجة التي بدت له ؛ وعلى ذلك روي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله ، أو ابن السبيل ، أو رجل له جار مسكين تصدق عليه فأهدى له " . وفي بعض الأخبار عنه ما ذكرنا قال : " لا تحل الصدقة إلا لخمس ، وفيه : أو [ فقير ] تصدق عليه فأهداها لغني " . وقد يكون الرجل غنيّاً بأن يكون له دار يسكنها ، ومتاع يتهيأه ، وثياب وعزم على الخروج في سفر غزو احتاج من آلات سفره ، وسلاح يستعمله في غزوه ، ومركب يغزو عليه ، وخادم يستغني بخدمته إلى ما لم يكن محتاجاً إليه في حال إقامته ، فيجوز أن يعطى من الصدقة ما يستغني به في حوائجه التي يحدثها لسفره ، فهو في مقامه غني بما يملكه ؛ لأنه غير محتاج حينئذ إلى ما وصفنا ، وهو في حال سفره غير غني ، فيحتمل أن يكون معنى قوله : " لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله " على من كان غنيّاً في حال مقامه ، فيعطى بعض ما يحتاج إليه لسفره ؛ لما أحدث له السفر من الحاجة . ألا ترى أن الرجل قد يكون له المتاع لا يحتاج إليه ، والدابة لا يركبها ، فإذا صار ذلك مائتي درهم لم يجز له أن يأخذ من الزكاة ، فإن عرض له مرض أو سفر فاحتاج إلى دابة ليركبها ، أنه يخرج من الغناء بما حدث له من الحاجة إلى الركوب ، وكان له أن يأخذ من الصدقة عندنا لا يستغني عما هو له ، وإنما الغني من استغنى عما يملكه . فكذلك الغارم على العرف قد تحدث له الحاجة إلى أكثر مما يملك ، وصار ممن يجوز أن يعان ، وإن كان ملكه الذي كان به غنيّاً قبل ذلك لم ينقص ، فهذا - والله أعلم - يحتمل . وابن السبيل - أيضاً - ما ذكرنا من الخبر ألا تحل الصدقة لغني إلا لابن السبيل ومن ذكر معه ، وعلى ذلك اتفاق الأمة ، وهو ما قيل : المجتاز من أرض إلى أرض . وعن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه - في تأويل قوله : { إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } [ النساء : 43 ] : هو المسافر . وهو ما ذكرنا أنه المنقطع عن ماله وإن كان غنيّاً في مقامه ، والفقير الذي يجوز أن يعطى من الصدقة . روي عن الحسن بن علي - رضي الله عنهما - قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " للسائل حق وإن جاء على فرس " . وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أعطوا السائل ولو جاء على فرس " . وجاء في بعض الأخبار عن رسول الله قال : " " لا يسأل عبدٌ - أو قال : أحد - مسألة ما يغنيه إلا جاءت يوم القيامة خدوشاً وكدوحاً في وجهه " قيل : يا رسول الله ، وماذا يغنيه ؟ أو ما أغناه ؟ قال : " خمسون درهماً أو حسابها من الذهب " " . وفي بعض الأخبار يقول : " من سأل وله أربعون درهماً فقد ألحف " . وعن علي وعبد الله قالا : لا تحلّ الصدقة لمن له خمسون درهماً ، أو عوضها من الذهب . وعن عمر كذلك . وعن ابن عباس قال : " [ سأل ] رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن لي أربعين درهماً ، أمستكثر أنا ؟ قال : " نعم " " . وفي بعض الأخبار عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوى " . وفي بعض الأخبار : [ ولا ] " لقوي مكتسب " . وإنما يحمل قوله : " لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مرة سوى " على الزجر عن العرض على الصدقة والمسألة عليها . ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إن الصدقة لا تحل إلا في إحدى ثلاث " ، فذكر إحداها : " أو فقر مدقع " ، فذلك يبيح لذي المرة السوى أن يقبل . ألا ترى أن الرجلين اللذان سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهما : " إن شئتما أعطيتكما " ، فلو كان حراماً عليهما ما أعطاهما الحرام ، ولكن ذلك على الزجر عن المسألة . وروي عن سلمان أنه حمل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صدقة ، فقال لأصحابه : " كلوا " ولم يأكل [ هو ] ، ولا يتوهم متوهم أن أصحابه كانوا زمني ، فهذا يبين أن النبي أراد الزجر عن المسألة والتعرض لها [ إلا ] في حال الضرورة ، لا على التحريم لها وأن من أخذها وله أقل من مائتي درهم أو قيمتها ، فله فيها ملك سداد من عيش ، فذلك مكروه . ألا ترى أنه روي عن الحسن أنه قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذون الصدقة ولأحدهم من السلاح والكراع والعقار قيمة عشرة آلاف درهم . فهذا حسن ، والتعفف عنها أحسن ؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استغنى أغناه الله ، ومن استعف أعفه الله " . وقوله : " لأن يأخذ أحدكم حبلا فيحتطب خير له من أن يسأل الناس شيئاً أعطوه أو منعوه " . وقوله - عز وجل - : { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } . بما حلفوا عليه . ذكر بعض أهل التأويل أن الأنصار مشت إليهم - يعني : إلى المنافقين - فقالوا : قد عيرنا بما نزل فيكم فحتى متى ؟ ! فكانوا يحلفون للأنصار : والله ما كان شيء من ذلك ، فأكذبهم الله فقال : { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ } : ما كان الذي بلغكم ، { لِيُرْضُوكُمْ } : بما حلفوا ، { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ } : منكم يا معشر الأنصار ، { أَن يُرْضُوهُ } : حيث اطلع [ على ما ] حلفوا وهم كذبة ، { إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } يقول : ولكن ليسوا بمصدقين . والأشبه أن تكون الآية نزلت في معاتبة جرت بين المؤمنين والمنافقين باستهزاء كان منهم برسول الله ، أو طعن فيه ، أو استهزاء بدين الله ، فاعتذروا إليهم وحلفوا على ذلك ليرضوهم ، فقال [ الله ] : { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ } حقيقة [ ولكن ] ليسوا بمؤمنين . وأما ما قاله بعض أهل التأويل أن رجلاً من المنافقين قال : والله ، لئن كان ما يقول محمد حقّاً لنحن شر من الحمر ، فسمعها رجل من المسلمين ، فأخبر بذلك رسول الله ، فدعاه ، فقال : " ما حملك على الذي قلت " فحلف والتعن ما قاله ، فنزل قوله : { يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ } ، هذا لو كان ما ذكر ، لكانوا يحلفون لرسول الله ، لا يحلفون لهم ؛ دل أن الآية في غير ما ذكر . ويذكر عن ابن عباس أن الآية نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله في غزوة تبوك ، فجعلوا يحلفون لرسول الله حين رجع أنهم لا يتخلفون عنه أبداً وكذلك قال غيره من أهل التأويل ، ولكن لو كان ما قالوا لكانوا يحلفون لرسول الله ويرضونه ، لا للمؤمنين ؛ دل أن الأشبه ما ذكرنا ، [ و ] فيه وجوه : أحدها : أن فيه دلالة تحقيق رسالته صلى الله عليه وسلم ليعلموا أنه حق ؛ حيث اطلع على ما أسرّوا في أنفسهم وكتموا من المكر به وأنواع السفه . والثاني : ليحذروا ويمتنعوا عن مثله والمعاودة إليه ؛ لما علموا أنه يطلع على جميع ما يسرون عنه ويكتمون . والثالث : تنبيهاً للمؤمنين وتعليماً لهم منه بأنه إذا وقع لهم مثل ذلك لا يشتغلون بالحلف طلباً لإرضاء بعضهم بعضاً ، ولكن يتوبون إلى الله ، ويطلبون منه مرضاته . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } . ذكره نفسه ورسوله ثم أضاف الرضاء إلى رسوله بقوله : { أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } ، ولم يقل : [ أحق ] أن يرضوهما ؛ فهو - والله أعلم - لأنهم إذا أرضوا رسوله رضي الله عنهم ، وكان في إرضائهم رسوله إرضاء له ، فهو ما ذكر أنهم { إِذَا دُعُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } [ النور : 51 ] ثم أضاف الحكم إلى رسوله ؛ لأنهم إنما دعوا إلى أن يحكم الرسول بينهم . وقوله : { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } ؛ لأن الخلاف والخيانة كان في حق الله ، وفي حق رسوله ، لم يكن في حق المؤمنين ؛ لذلك قال : { وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ } من المؤمنين . ثم ذكر محادة الله ورسوله ، ثم اقتصر على رضاء رسوله ؛ لأنهم لم يقصدوا قصد مخالفة [ الله ، وإنما قصدوا قصد مخالفة ] رسوله ، أو أن يكون ذكر إرضاء أحدهما ؛ لأن في إرضاء رسوله رضاء الرب ؛ كقوله : { مَّنْ يُطِعِ ٱلرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ ٱللَّهَ } [ النساء : 80 ] . وقوله - عز وجل - : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ } . [ و ] في الآية دلالة أنهم علموا أنهم معاندون في صنيعهم ، وعلموا أن من عاند وكابر بغير حق فإن له نار جهنم . وقوله : { يُحَادِدِ ٱللَّهَ } . يحتمل : يعاند الله . وقيل : { يُحَادِدِ ٱللَّهَ } : يشاقق الله ويخالفه ؛ وهو واحد . ثم قوله : { أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ } يخرج على وجهين : أحدهما : أي : قد علموا أنه من يحادد الله ورسوله فإن له ما ذكر ، لكنهم عاندوا [ وقصدوا ] الخلاف والمحادة له مع علمهم . والثاني : أي : علموا أنه من يحادد الله ورسوله ، فإن له ما ذكر ؛ على ما ذكرنا أن حرف الاستفهام من الله يخرج على الإيجاب والإلزام . وقوله - عز وجل - : { ذٰلِكَ ٱلْخِزْيُ ٱلْعَظِيمُ } . يحتمل وجهين : الأول : يحتمل الخزي ، أي : الفضيحة العظيمة في الدنيا . والثاني : يحتمل ذلك الخزي العظيم في الآخرة ، أي : نار جهنم خزي عظيم . وقوله - عز وجل - : { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم } . يحتمل قوله : { يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ } ، أي : الحق عليهم أن يحذروا ؛ لما أطلع الله ورسوله مراراً على ما أسروا وكتموا . ويحتمل على الخبر : أنهم كانوا يحذرون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم عما في قلوبهم ؛ لكثرة ما أطلع الله رسوله من سرائرهم وسفههم . وقوله - عز وجل - : { قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } . فهو - والله أعلم - ليس على الأمر ؛ ولكن على الوعيد ، يقول : استهزئوا ؛ فإن الله مظهر ومبين ما أسررتم وكتمتم من العيب والاستهزاء برسوله والطعن فيه . وقوله - عز وجل - : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } . ذكر السؤال ، ولم يبين عمّ يسألهم ، ولكن في الجواب بيان أن السؤال إنما كان على الاستهزاء ؛ حيث قال : { قُلْ أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } : ذكر أن نفرا من المنافقين كانوا اختفوا في بعض الطريق ، ليمر رسول الله ، ويرجع من الغزو فيقتلونه ، فأطلع الله نبيه على اختفائهم في ذلك أنه لماذا ؟ فقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } . وذكر بعض أهل التأويل أن النبي لمّا رجع من غزوة تبوك بينا هو يسير إذ هو برهط يسيرون بين يديه يضحكون ويستهزئون ، فأطلع الله رسوله أنهم يستهزءون بالله وكتابه ورسوله ؛ فقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ } . وقيل بغير ذلك . وقيل : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ } ، أي : لو سألتهم : ما تقولون ؟ فيقولون لك : مما يخوض فيه الركب إذا ساروا . وليس لنا إلى معرفة كيفية استهزائهم حاجة ، ولا مأرب سوى أن فيما ذكر لنا من خبر المنافقين تنبيهاً للمؤمنين وتحذيراً لهم ؛ ليحذروا إسرار ما لم يظهروا على ألسنتهم ؛ ليعلموا أن الله مطلع على ما يسرون ويضمرون . وقوله : { قُلْ أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } . قوله : { أَبِٱللَّهِ } يحتمل الإضافة إلى نفسه إضافة إلى أنفس المؤمنين ؛ لأنه لا أحد يقصد قصد الاستهزاء بالله ، ولكنهم كانوا يستهزئون برسول الله وبالمؤمنين ؛ فأضاف إلى نفسه ؛ كقوله : { يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ } [ البقرة : 9 ] ، وكذلك قوله : { إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ … } [ محمد : 7 ] الآية ؛ فعلى ذلك الأول كانوا يستهزئون برسول الله وبالمؤمنين ، فأضاف إلى نفسه ؛ تعظيماً لهم وإكراماً . وقوله : { وَآيَاتِهِ } يحتمل أنهم كانوا يستهزئون بالأحكام التي لها آيات ، فاستهزءوا بتلك الأحكام ؛ فأضاف الاستهزاء إلى الآيات ؛ كقوله : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } [ البقرة : 231 ] الآية . { وَلاَ تَتَّخِذُوۤاْ آيَاتِ ٱللَّهِ هُزُواً } [ البقرة : 231 ] ، [ هم ] لم يتخذوا آيات الله هزوا ؛ ولكن هزوا بالأحكام التي لها آيات فأضاف الهزء إلى آياته ، ولكن من استخف بحكم من الأحكام التي لها آيات كان ذلك استخفافا بآياته ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } . أي : لا تعتذروا فإنه لا يقبل اعتذاركم ؛ لما لا عذر لكم فيما تعتذرون بعد ما قلتم إنه أذن لما ظهر منكم الخلاف والكذب في ذلك ؛ كقوله : { يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا ٱللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ } [ التوبة : 94 ] أخبر أنه لا نصدقهم فيما اعتذروا ؛ لما ظهر كذبهم وتبين خلافهم . وقوله : { قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } . يحتمل : كفرتم في الباطن بعد ما أظهرتم باللسان . ويحتمل : { قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } حقيقة قد كفروا بعد ما آمنوا . وقوله - عز وجل - : { إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً } . قال بعضهم : قوله : { إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ } ذلك أن المنافقين قد آمن منهم بعد النفاق وتاب ، فأخبر أنه إن يعف عنهم يعذب طائفة : الذين لم يؤمنوا ولم يتوبوا . وقيل : إن يعف عن طائفة منكم يعذب طائفة ؛ لأن من المنافقين من قد ماتوا على الإيمان ، ومنهم من قد مات على الكفر ؛ فوعد العفو لمن مات على الإيمان ؛ كقوله : { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } [ الأحزاب : 24 ] : أخبر أنه إن شاء تاب عليهم ؛ فقوله : { إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ } الطائفة التي يتوب [ الله ] عليهم . وقوله : { قُلْ أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ } يحتمل وجهين : أحدهما : على الإيجاب ، أي : يفعلون بالله ورسوله ذلك . وقيل : على الوعيد والتوبيخ ؛ أبالله يفعلون هذا ؟ ! والله أعلم .