Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 90, Ayat: 11-20)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { فَلاَ ٱقتَحَمَ ٱلْعَقَبَةَ } : قيل : فيه من وجهين : أحدهما : فهلا اقتحم العقبة . والثاني : أنه لم يقتحم . فإن كان على الأول ، فمعناه : أن الذي قال : أنفقت مالا لبدا ، كيف لا كان إنفاقه في فك الرقبة ، وفي الإنفاق على اليتيم والمسكين الذي بلغ به الجهد إلى أن ألصق بالتراب ؟ ويكون من جملة من آمن بالله - تعالى - وتواصى بالصبر والمرحمة ؛ ليكون من أصحاب الميمنة ، ويكسب بذلك الحياة الطيبة في الآخرة دون أن تكون العاقبة في الملاهي وشهوات النفس ؛ فلم يحصل لنفسه حمداً ولا أجرا في العقبى ، بل صار من أصحاب المشأمة ، فيكون ما بعد قوله : { أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } [ البلد : 6 ] صلة له وتفسيرا . وإن كان التأويل على النفي ، ففيه تكذيبه فيما زعم أنه أنفق مالا لبدا ، فيقول : لو كان على ما يظن ، لظهر ذلك ، بفك الرقاب والمواساة على اليتيم وعلى المسكين الذي هو ذو متربة ؛ فيكون هذا كله صلة قوله - عز وجل - : { أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } أيضا . ثم قيل : في العقبة من وجهين : أحدهما : على تحقيق العقبة ، وهو أن يكون في النار عقبة لا تجاوز ولا تقطع إلا بما ذكر من فك الرقبة والإطعام في يوم ذي مسغبة ، كقوله - تعالى - : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } [ المدثر : 17 ] . وقوله - عز وجل - : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا ٱلْعَقَبَةُ } على تحقيق العقبة ، معناه : وما يدريك بم تقطع تلك العقبة ؟ ثم بين أنها تقطع بما ذكر من فك الرقبة ونحوه . وجائز أن يكون على التمثيل لا على التحقق ، ووجهه : أنه يشتد عليه تحمل المؤن التي ذكر من فك الرقبة ، وإطعام المساكين ، ومواساة اليتيم ؛ فتكون العقبة كناية عن تحمل المؤن ، لا على العقبة نفسها ، وهو كقوله : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي ٱلسَّمَآءِ } [ الأنعام : 125 ] ، أي : يصير الإيمان عليه في الشدة والثقل كأنه كلف الصعود إلى السماء ، ويشتد على الأول تحمل المؤن ، كما يشتد عليه قطع العقبة والصعود عليها . والاقتحام : هو رمي النفس في المهالك . وقيل : الاقتحام : هو تحمل المؤن : فإن كان على تحمل المؤن ، فوجهه ما ذكرنا : أن كيف لم يتحمل هذه المؤن ؛ ليصير من أهل الميمنة ؟ وإن كان على الرمي في المهالك ؛ فكأنه يقول : قد أهلك نفسه بتركه الإنفاق في الوجوه التي ذكر ، والإعراض عن الإيمان بالله تعالى ، بتركه فكاك الرقبة . وروى أبو بكر الأصم في تفسيره خبرا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم " أن رجلا سأله فقال : يا رسول الله ، دلني على عمل أدخل به الجنة ؛ فأمره بعتق النسمة ، وفك الرقبة ؛ فقال السائل : أليسا هما واحدا ؟ فقال [ النبي صلى الله عليه وسلم ] : " لا ؛ عتق النسمة : أن تعتقها ، وفك الرقبة : أن تعين على فكاكها " . ففكاك الرقبة : أن تخلصها من وجوه المهالك ، وذلك يكون بالتخليص عن ذل الرق ، وأن ترى إنسانا يهم بقتل آخر بغير حق ؛ فتدفع عن المظلوم شر الظالم ، وتراه يغرق ؛ فتخلصه عن ذلك ؛ فيكون في ذلك كله فكاك الرقبة عن المهالك ؛ لتكتسب بها الحياة الطيبة في الآخرة . واختلف القراء في هذا الحرف : فمنهم من قرأه : { فَكَّ رقبةً * أو أَطْعَمَ في يوم ذي مسغبة } على النصب . ومنهم من قرأه : { فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ } على الرفع . فإذا قرأته بالنصب ، فمعناه : هلا فك رقبة ، أو أطعم ؛ فيكون راجعا إلى تفسير الاقتحام . وإذا قرأته بالرفع ، انصرف التأويل إلى تفسير العقبة ؛ فكأنه قال : قطع العقبة يكون بالفك وبما ذكر . وذكر عن سفيان بن عيينة - رضي الله عنه - أنه قال : كل ما في القرآن : { وَمَآ أَدْرَاكَ } ، فقد أعلمه ودرَّاه ، وكل ما فيه { وَمَا يُدْرِيكَ } [ الأحزاب : 63 ] فهو لم يعلمه ، والله أعلم . والمسغبة : المجاعة . وقوله - عز وجل - : { ذَا مَقْرَبَةٍ } : أي : ذا قرابة منه . قوله - عز وجل - : { ذَا مَتْرَبَةٍ } : أي : ألصق بطنه بالتراب . وقيل : الذي ليس له شيء يحجبه عن التراب . ثم في قوله : { يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ } دلالة وجوب حق اليتيم على القريب إذا كان محتاجا ؛ فيكون فيه حجة لقول أصحابنا : إن اليتيم إذا كان محتاجا ، فرضت نفقته على أقربائه . وفي قوله : { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } دلالة أن المسكين الذي وصفه ، وهو ألا يكون بينه وبين التراب حائل ، فكفايته تلزم الخلق جملة . وقوله - عز وجل - : { ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } : فتأويله أنه لا ينفعه فك الرقبة ولا الإطعام ؛ حتى يكون مؤمنا مع ذلك ، متواصيا بالصبر والمرحمة ، فإذا كان كذلك ؛ فحينئذ يحصل قاطعا للعقبة . وجائز أن يكون الصبر أريد به الإيمان ؛ كقوله : { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ } [ هود : 11 ] ، أي : آمنوا . والتواصي بالصبر والمرحمة هو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ؛ إذ التواصي مأخوذ من الوصية ، وهذا يوجب أن يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في اعتقاد الإيمان . وقوله - عز وجل - : { أُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلْمَيْمَنَةِ } : أي : أصحاب الميامن ، وهم أهل اليُمن . وقوله - عز وجل - : { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ ٱلْمَشْأَمَةِ } : أي : أصحاب الشؤم على أنفسهم ؛ حيث عملوا بالمعاصي ، واستوجبوا بها نارا مؤصدة ، وهي المؤصدة المطبقة المبهمة ، وصفة الإطباق ما ذكر في آية أخرى ، وذلك قوله - تعالى - : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ ٱلنَّارِ وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] ، وقال [ الله ] تعالى : { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا … } الآية [ الكهف : 29 ] ، والله أعلم .