Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 90, Ayat: 1-10)

Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله - عز وجل - : { لاَ أُقْسِمُ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } : اختلف في قوله : { لاَ } : قال بعضهم : { لاَ } هاهنا في موضع الدفع والرد لمنازعة كانت بين قوم ؛ فدفع الله - تعالى - المنازعة من بينهم بقوله : { لاَ } ، وكانت تلك المنازعة معروفة فيما بينهم ؛ فترك ذكرها لذلك ، كما ذكر الجواب في بعض السور ولم يذكر السؤال ؛ لما كان السؤال عندهم معروفا ؛ فترك ذكره ، وهو كقوله : { إِذَا زُلْزِلَتِ ٱلأَرْضُ زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] ، وغير ذلك . ومنهم من يقول بأن حرف { لاَ } مرة يستعمل في حق الصلة والتأكيد ، ومرة في موضع النفي ، [ و ] يظهر مراده بما يعقبه من الكلام : فإن كان الذي يعقبه إثباتا ، فهو بحق التأكيد ، وإن كان الذي يعقبه من الكلام نفيا فهو في موضع النفي . ثم الذي عقبه من الكلام إثبات ، وليس بنفي ؛ فدل أنه في موضع التأكيد ؛ فكأنه قال : لأقسم بهذا البلد ، ثم كان حقه أن يقول : " لأقسمن بهذا البلد " بإثبات النون ، كما يقال : " لأفعلن " ، في اليمين ، لكن نون التأكيد قد تذكر في موضع القسم ، وقد لا تذكر ، قال الله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } [ النحل : 124 ] ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } قالوا : أريد بهذا البلد : مكة ، فأقسم بها بما عظم شأنها بما سبق ذكرنا له ، ولخاصة هي معظمة في أعين أهلها ، ثم كان من عادة الكفرة القسم بكل ما يعظمونه ؛ فعاملهم الله - تعالى - من الوجه الذي جرت به العادة فيما بينهم ؛ ليؤكد ما قصد إليه بالقسم ؛ [ فيزيل عنه ] الشبه التي اعترضت لهم . وقوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } : قال بعضهم : { وَأَنتَ حِلٌّ } : نازلها من الحلول . وقال بعضهم : وأنت حلال بهذا البلد ، والحل والحلال لغتان . فإن كان على هذا فالحل غير منصرف إلى نفسه ؛ وإنما انصرف إلى ما أحل له ؛ لأنه لا يجوز أن يكون هو بنفسه حلالا أو حراما ؛ فالحل والحرمة إذا أضيفا إلى من له الحل والحرمة فإنما يراد بالحل والحرمة الشيء الذي أحل له ، والشيء الذي حرم عليه ، لا أن يكون الوصف راجعا إلى المضاف إليه ، فإذا قيل : هذا محرم ، أريد به أن الأشياء محرمة عليه ؛ وإذا قيل : هذا حلال ليس بمحرم أريد به أن الأشياء له حلال ، وإذا أضيفا إلى من لا يخاطب بالحل والحرمة ، أريد بهما عين ذلك الشيء كقوله : هذا لحم حلال أو صيد حلال ، وهذا لحم حرام ؛ فيريد أن ذلك اللحم حلال ، وذلك الصيد حرام أو حلال . ثم اختلفوا في الذي أحل له : فمنهم من صرفه إلى القتال ، فقال بأنه أحل له القتال فيها ، وذلك يوم فتح مكة . ومنهم من قال بأنه أحل له الدخول فيها إذا جاء من الآفاق بغير إحرام ، ولا يحل ذلك لغيره . وروي عن ابن عباس - رضي الله عنه - أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : " إن مكة حرام ، حرمها الله - تعالى - يوم خلق السماوات والأرض والشمر والقمر ، ووضع هذين الجبلين ، لم تحل لأحد قبلي ، ولا تحل لأحد بعدي ، ولم تحل لي إلا ساعة من نهار ، وهي ساعتي هذه ، هي حرام بحرام الله تعالى إلى يوم القيامة ، لا يختلي خلاها ، ولا يعضد شوكها ولا ينفر صيدها ، ولا يرفع لقطتها ، إلا من نشدها " ، فقال العباس - رضي الله عنه - : إلا الإذخر يا رسول الله ؛ فإنه لا غنى لأهل مكة عنه للقبر والبنيان ؟ فقال - عليه السلام - : " إلا الإذخر " فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها قد أحلت له ساعة من نهار . والحل يحتمل الوجهين اللذين ذكرناهما . وذكر أبو بكر الأصم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يؤذيه أهل مكة ؛ فيتأذى بهم ؛ فيخرج من بين أظهرهم ؛ فيحل له الصيد في ذلك الوقت . ولكن لا يسع صرف التأويل إلى هذا ؛ إذ لا يعرف مثل هذا إلا بالخبر والنقل . ثم في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان العباس - رضي الله عنه - : " إلا الإذخر " دلالة أن التحريم لم يكن منصرفا إليه ، ويحتمل أن يكون التحريم شاملاً له ، ثم استثناه بما ذكر العباس - رضي الله عنه - من حاجة أهل مكة إليه ؛ لما لم يكن بين ما ذكر من التحريم والتحليل كثير مدة يجري في مثلها النسخ ، ولكن ترك بيان الحل إلى أن سأله العباس - رضي الله عنه - ثم بين . وهو دليل قول أصحابنا - رحمهم الله - : إن تأخير البيان جائز . ثم قوله - عز وجل - : { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } يحتمل وجهين : أحدهما : أن يكون القسم منصرفا إلى نفسه ؛ فأقسم به ؛ لما عظم من أمره وشأنه ؛ كأنه قال - عز وجل - : لا أقسم بهذا البلد وبالذي هو حل بهذا البلد . أو يكون منصرفا إلى مكة ، ويكون قوله : { وَأَنتَ حِلٌّ بِهَـٰذَا ٱلْبَلَدِ } خرج مخرج التعريف بمكة ؛ لكونه فيها ، أي : البلد الذي أنت نازل به ، وحال به ، أو حلال فيه . وقوله - عز وجل - : { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } : قال بعضهم : الوالد هو آدم عليه السلام { وَمَا وَلَدَ } : هم أولاده وذريته ، ولكن آدم - عليه السلام - وأولاده ليسوا بمخصوصين بالدخول تحت اسم الولد والوالد ؛ بل ذلك فيهم ، وفي جملة الروحانيين ؛ فيكون القسم بالخلائق أجمع ، ويكون { وَمَا } على هذا التأويل بمعنى " الذي " . ومنهم من جعل الـ " ما " : " ما " جحد ؛ فقال : " وما ولد " أي : الذي لا يلد وهو العاقر ، فأقسم بالبشر جملة من يلد منهم ومن [ لا ] يلد ، وأقسم بهم - أيضا - لما جعلهم مفضلين على كثير من الخلائق . وقوله - عز وجل - : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } : قال بعضهم : الكبد : الانتصاب ، أخبر [ أنه ] خلق الإنسان منتصبا ، وخلق كل دابة منكبا . وقال بعضهم : الكبد : الشدة والمعاناة . وقال بعضهم : خلقه منتصبا في بطن أمه ، ثم يقلب وقت الانفصال . ولقائل أن يقول : أي حكمة في ذكر هذا وفي تأكيده بالقسم ، وكل يعلم أنه خلق كذلك ؟ فجوابه أن في ذكر هذا إبانة أنهم لم يخلقوا عبثا باطلا ، بل خلقهم الله تعالى ليمتحنهم ويأمرهم بالعبادة ، كما قال : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . فإن كان التأويل منصرفا إلى الشدة والمعاناة فتأويله : أنه خلقهم ليكابدوا المعاش والمعاد جميعا ، وخلقهم للشدة ؛ ليعتبروا ويتذكروا . وإن كان منصرفا إلى الانتصاب ، ففيه تعريف لعظم نعم الله - تعالى - عليهم من غير أن كانوا مستوجبين لذلك ؛ ليستأدي منهم الشكر بذلك . وإن كان التأويل على ما ذكر أنه خلقه منتصبا في بطن أمه ، ثم يقلب وقت الانفصال ، ففيه أن الله - تعالى - قادر على ما يشاء ، وأنه لا يعجزه شيء ؛ لأنه لا يتهيأ لأحد أن يقلب أحداً ، فيجعل أعلاه أسفله ، إلا أن يجد مثله في المكان سعة ، ثم إن الله - تعالى - قلبه ، فجعله أعلاه أسفله في ذلك المكان الضيق ، فتبين لهم ألاَّ يعجزه شيء ؛ فيحملهم ذلك على الإيمان بالبعث والنشور ، والله أعلم . ومعنى قوله : { لَقَدْ خَلَقْنَا ٱلإِنسَانَ فِي كَبَدٍ } عندنا : لقد خلقنا الإنسان لما له يكابد ، فإن كانت مكابدته في طاعة الله تعالى ، وكان مؤثرا لها - فقد خلق للجنة ، وإن كانت مكابدته في أمر الشيطان ، فهو للنار خلق ، وعلى هذا يخرج قوله - تعالى - : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ ٱلْجِنِّ وَٱلإِنْسِ } [ الأعراف : 179 ] ، أي : ذرأ من يعلم أنه يؤثر طاعة الشيطان وعصيان الرحمن لجهنم ، وذرأ من يعلم أنه يعبد الله ويوحده للعبادة بقوله : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] . والأصل : أن الحكيم أبدا يقصد بفعله العاقبة إلا الذي ليست له معرفة بالعاقبة ، فأما من عرف العاقبة فابتداء فعله يقع لتلك العاقبة ، فإن كانت عاقبته النار ؛ فابتداء الخلق من الله - تعالى - يقع لذلك الوجه ، وإن كانت عاقبته الجنة فهو لذلك الوجه ما خلق ؛ فعلى هذا يخرج تأويل قوله - عليه السلام - : " السعيد من سعد في بطن أمه ، والشقي من شقي في بطن أمه " وهو لا يوصف بالسعادة والشقاوة في ذلك الوقت ؛ ولكن معناه أنه : إذا آثر الشقاوة في حالة الامتحان خلق كذلك ، وإذا آثر السعادة فكذلك أيضا . وقال نوح - عليه السلام - : { وَلاَ يَلِدُوۤاْ إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 27 ] ، وهم في وقت ما ولدوا غير موصوفين بواحد من الوصفين ، بل يصيرون كذلك ؛ فيتبين أنهم خلقوا لذلك ؛ فموقع القسم على ما له يكابد ، ليس على المكابدة نفسها ؛ لأن المكابدة من الإنسان ظاهرة لا يحتاج إلى تأكيدها بالقسم . وقولنا : إن المقصود من ابتداء الفعل العاقبة قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إذا أردت أمرا فدبر عاقبته ، فإن كانت رشدا فأمضه ، وإن كانت غيا فانته " . وزعمت المعتزلة أن الله - تعالى - لم يخلق أحدا من البشر إلا ليعبده ، ولو كان الأمر على ما زعموا وظنوا ، لأدى ذلك إلى الجهل بالعواقب ، أو وجب أن يكون الفعل خارجا مخرج الخطأ ؛ لأن كل من صنع أمرا يريد غير الذي يكون جاهلا بالعواقب ، أو عابثا بالفعل ؛ لأن من يبني لشيء يعلم أنه لا يكون ، عد ذلك منه عبثا ، ولو كان غير الذي يريده ، وهو أن يبني ليسكن [ فيه ] ، ثم ينقض قبل أن يسكن ، كان الذي حمله على البناء جهله بالعواقب . وجل الله - تعالى - من أن يلحقه خطأ في التدبير أو جهل بالعواقب ؛ فثبت بما ذكرنا أن الله - تعالى - شاء لكل فريق ما علم الذي يكون منهم ، وخلقهم لذلك الوجه دون أن يكون خلق الجملة للعبادة ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ * يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً * أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } : فالآية تحتمل وجهين : أحدهما : [ أن ] يكون حسب أن الله - تعالى - لا يقدر على بعثه ؛ فيكون قوله : { أَحَدٌ } هو الله تعالى . { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } أي : جما : { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } ، أي : أنفقت منه مقدار ما يخرج عن حد الإحصاء . وقوله : { لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } ، أي : لم يعلم أحد مبلغ ما أنفق من ذلك . أو يكون قوله : { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } ، أي : لم يعلم أتباعه الذين أنفق عليهم مقدار ما أنفق عليهم ؛ فيكون في قوله - تعالى - : { أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } إظهار منه لسخاوته وجوده ، على الافتخار منه بذلك ، وامتنانا منه على أتباعه ، فإن كان على هذا فهو في أمر الدنيا ، وقد علم الله القدر الذي أنفق عليهم ، وعلم الخلق سخاوته لا بقوله ؛ فليس اشتغاله في إظهار الجود والامتنان إلا نوع من السفه ، وكان الذي يحق عليه الاشتغال بالشكر لله - تعالى - أو توجيه الحمد إليه ؛ لما علم أن الذي أنعم به من المال الكثير من الله تعالى ، وأن تلك المنقبة - وهي السخاوة - نالها بالله تعالى ، وهذا كقوله - تعالى - : { فَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، أي : آباؤكم لم ينالوا ما تذكرون من الشرف والمناقب الحميدة إلا بالله - تعالى - فاذكروه كذكركم آباءكم ، وهذا النوع من الافتخار راجع إلى الخصائص من القوم لا إلى الجملة ؛ إذ كل أحد يقول مثل ذلك : إنه أهلك مالا لبدا ، وفعل كذا . وقوله - عز وجل - : { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَاناً وَشَفَتَيْنِ } : فإن كان قوله : { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } على نفي القدرة على البعث ، ففي ذكر العينين نفي تلك الشبهة ، وهو أن الله - تعالى - أنشأ له بصرا يرى بفتحة واحدة ما بين السماء والأرض ، فمن بلغت قدرته هذا لا يعجزه شيء أو يخفى عليه أمر ، فقوله : { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } ، أي : ألم نخلق له عينين يدرك بهما المحسوسات بالنظر ، وجعلنا لهما جفونا وأشفارا يدفع بهن القذى عن عينيه ، ويغضهما بهن عن النظر إلى ما لا يعنيه . وقوله - عز وجل - : { وَلِسَاناً } أي : خلقنا له لسانا يحضر به ما غاب واستتر . وقوله : { وَشَفَتَيْنِ } ففي خلق الشفتين وجهان من الحكمة . أحدهما : أنه جعلهما طبقا يستران قبح ما في فمه ، ولولاهما لكان الناظر إليه وقت مضغه الطعام أو شيئا من الأشياء ، استقذر ذلك منه . وجعلهما طبقا للسانه ؛ لئلا يمده ، ويستعمله فيما لا يعنيه . فذكرهم عظيم نعمه في خلق العينين واللسان والشفتين ؛ لسيتأدي منهم الشكر ، وليعلموا أن الذي بلغت قدرته هذا ، ليس بالذي يعجزه شيء . وقوله : { وَهَدَيْنَاهُ ٱلنَّجْدَينِ } . أي : بينا له ما عليه ، وما له ، وما يحمد عليه ، وما يذم ، وما يقبح ويجمل ، والنجد : الطريق ، فبين [ للخلق ] الطريقين جميعا : طريق الخير والشر ، ومكنهم من الفعلين جميعا . وقال بعضهم : النجدان : الثديان ، أي : هديناه الثديين في حالة الإرضاع . ولكن التبيين والهداية لم ينصرف إلى هذا خصوصا ، بل هذا من بعض ما هداه وبينه ، فقد بين له غيره من الأمور ، ولا قيد في اللفظ ؛ فيحمل على الإطلاق والعموم .