Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 91, Ayat: 1-10)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَٱلشَّمْسِ وَضُحَاهَا } . قالوا : تأويله : والشمس وضوئها . وقيل : وحرها . وقيل : وبهائها . وهذا في موضع القسم ؛ وذلك لأن الله - تعالى - جعل في الشمس معاني تدل على لطائف حكمته و [ عجائب تدبيره ، وجعلها في النهاية من البركات ، وفي النهاية من الآيات ، فمن ] عجيب تدبيره أنه جعل نورها بحيث يهلك نور الظل حتى إذا بدت في مكان أذهبت نور الظل ، ونور السراج ، ونور القمر ، وستر نورها الكواكب عن أن ترى ، وجعلها بحيث يظهر بها هباء الهواء ، فبين أن الهواء ذا هباء ؛ ألا ترى أنك إذا نظرت في المشكاة حين سقوط الشمس فيها تبين لك بها هباء الهواء ، ولو أراد أحد من الخلائق أن يتدارك المعنى الذي به استنار هذا الشمس كل هذا لم يقف عليه . ثم من بركتها أن بحرارتها مصالح الأغذية ، وبها مصالح النبات ، وبها ييبس الحب ، وبها تنضج الفواكه . ومن عجيب تدبيره أنه جعلها بالنائي عن كل شيء له بها صلاح ؛ إذ لو دنت منها ، لكانت تحرق الأشياء كلها . ومن آياتها أن جعلت بحيث تسير وتقطع كل يوم مسيرة ألف عام ما يتعذر على الذي خلق للسير والمشي قطع تلك المسافة بمدد كثيرة . وهي أيضا تظهر جود الرب - جل جلاله - لأن منافعها تعم الخلق كلهم : برهم وفاجرهم ، والولي منهم والعدو . فأقسم الله - تعالى - بها ؛ ليزيل عن الكفرة الشبهة التي تعرض لهم في أمر الدين ؛ إما في التوحيد ، أو في الرسالة ، أو في البعث ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلْقَمَرِ إِذَا تَلاَهَا } : جائز أن يتلوها في كل ما ذكرنا في الشمس من المنافع والمعاني ؛ فيكون ثانيها في العمل ، فإنه يقع به صلاح الأغذية أيضا ، وهو ينير أيضا إلا أنه لا ينتهي منتهاها ولا يبلغ مبلغها ، والله أعلم . وقال بعضهم : إذا تلاها ، أي : يتلوها في أول ما يهل ؛ فإنه إذا وجبت الشمس في آخر اليوم من الشهر تلا غروبها طلوع الهلال . وقال بعضهم : إنه يتلوها إذا صار بدرا ، وفي هذا دلالة أن منشئهما واحد ؛ لأن منافعهما تعم الخلق جميعا ، ولو لم يكن مدبرهما واحدا ، لكانت لا تعم ، بل يمنع كل واحد منهما مُنْشَأَه عن إيصال النفع إلى قوم عدوه . وقوله - عز وجل - : { وَٱلنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا } : يحتمل أوجها : يحتمل أن يكون النهار جلى الدنيا . ويحتمل أن يكون جلى الأرض . ويحتمل أن يكون جلى الشمس . ويحتمل أن تكون تجلى الأبصار بنورها عن ظلمة الليل التي يغشاها . وقوله - عز وجل - : { وَٱللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا } : ينصرف إلى الأوجه التي ذكرنا أيضا ، أي : يغشى الدنيا ، أو الأرض ، أو الشمس ، أو يغشى الأبصار بظلمتها عن الخلائق ، والله أعلم . ثم لليل والنهار زيادة سلطان ليست للشمس ولا للقمر ؛ لأن من سلطان الليل والنهار أنهما يفنيان الآجال ، ويقطعان الأعمال ، ولا يتهيأ لأحد الامتناع والتحرز من سلطانهما ، ويتهيأ للخلق دفع أذى الشمس والقمر عن أنفسهم بالحيل والأسباب ؛ فكان في ذكر الليل والنهار زيادة معنى ليس ذلك في ذكر الشمس والقمر . وقوله - عز وجل - : { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا } : قال الزجاج : " ما " بمعنى : " الذي " ، وقد تستعمل في مثله ، كقول العرب : " سبحان ما سبحت له السماوات والأرض " ، أي : سبحان الذي سبحت له . وقال بعضهم : " ما " هاهنا بمعنى " من " ؛ كأنه يقول : والسماء ومن بناها . وقال بعضهم : " ما " هاهنا تجعل الفعل الماضي بمعنى المصدر ، تقول : أعجبني ما صنعت ، أي : أعجبني صنعك ؛ فيكون معناه : والسماء وبنائها . فإن كان التأويل على الوجهين الأولين ، رجع القسم إلى الله تعالى ، والسماء ، وإلى ما تقدم من الشمس والقمر والنهار والليل . وإن كان على التأويل الآخر ، رجع القسم إلى ما خلق وهو السماء ، فإن بناء السماء عينها . وقال أبو بكر الأصم : إن هذه الماءات في قوله : { وَٱلسَّمَآءِ وَمَا بَنَاهَا * وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } ، تخرج على التعجب ، على شرط التقديم ، وإن كانت مؤخرة في اللفظ ؛ كأنه يقول [ الله ] تعالى : وما السماء ؟ ثم أجاب : بناها بأن رفع سمكها وسواها ورفعها بغير عمد ترونها ، والله أعلم . وقوله - عز وجل - : { وَٱلأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا } ، أي : بسطها . وقوله - عز وجل - : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } : قالوا تسويتها في أن خلقها باليدين والرجلين والعينين ونحوها ، فإن كان على هذا فالتسوية ترجع إلى الأغلب لا إلى الجملة ؛ إذ ليس لكل نفس هذه الجوارح جملة ؛ فيكون معناه : أنه سوى أكثر النفوس بما ذكر من اليدين والرجلين ، وذلك جائز في الكلام ، وهو كقوله - تعالى - : { وَجَعَلَ ٱلْلَّيْلَ سَكَناً } [ الأنعام : 96 ] ، { وَجَعَلْنَا ٱلنَّهَارَ مَعَاشاً } [ النبأ : 11 ] ، ومعناه : أنه جعله سكنا ومقرا لأكثر الخلائق لا للجملة ، وجعل النهار لأكثر الخلائق معاشا لا للجملة ، والله أعلم . وقيل : سوى جوارحها وأطرافها ما لو لم يكن له جارحة من تلك الجوارح يوصف بالنقصان ، وهذا أعم من الأول . ويحتمل : { سَوَّاهَا } على ما عليه مصلحتها ، وتملك التقلب والتعيش ، ليس على ما عليه سائر الحيوان . ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يكون قوله : { سَوَّاهَا } ، أي : جعلها بحيث احتمال الكلفة والمحنة ، كقوله - تعالى - : { وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَٱسْتَوَىٰ } [ القصص : 14 ] ، وتميز بين القبيح والحسن ، وتعرف عواقب الأمور من الخير والشر . وقوله - عز وجل - : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } : هذا يحتمل أوجها : أحدها : أي : بين لها فجورها وتقواها وعلمها ، فمن زعم أن المعارف ضرورية خلقة ، يحتج بهذه الآية ، فيقول : أخبر - تعالى - أنه علمها فجورها وتقواها ، وأنه وضع في نفسه ما يعرف به قبح كل قبيح ، وحسن [ كل حسن ] . والأصل فيه عندنا : أنه يعرف حسن الأشياء وقبحها جملة ببداية العقول ، ولكن العقول لا تعرف حسن كل شيء على الإشارة إليه ، ولا قبح كل قبيح على الإشارة إليه ؛ وإنما تعرف ذلك إما بخبر يرد على ألسن الرسل عليهم السلام ، أو باستعمال الفكر ؛ ألا ترى أنك تجد النفس من طبعها أنها تألف الملاذ والمنافع ، وتنفر عن المكاره والآلام ، ولكنها لا تعرف معرفة كل منتفع على الإشارة إليه ولا ضرارة أعين الأشياء ؛ وإنما تعرف ذلك بالذوق . وكذلك العين تدرك الألوان ، لكنها لا تعرف حسنه وقبحه ؛ بل العقل هو الذي يفصل بينهما ، فعلى ذلك قد جعل في طبع العقل قبح القبائح جملة وحسن الحسن ، ولكن لا يفصل بينهما على الإشارة إلى كل في نفسه إلا بما ذكرنا ؛ فيكون قوله : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } ، أي : جعل في نفسها ما يبين القبيح من الحسن ، والخبيث من الطيب ، ويبين قبح الفجور وحسن التقوى ، ويلزمه المحنة والكلفة بذلك ، ثم يصل إلى معرفة ذلك إما بالرسل ، وإما باستعمال الفكر . ويحتمل وجها آخر ، وهو أن يلهمها تقواها إذا وفى بما لله تعالى عليه من الاستقامة على الطريقة والمجاهدة ؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { وَٱلَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } [ العنكبوت : 69 ] ، فوعد الهداية بالجهاد ، وقال - تعالى - : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ ٱلدَّاعِ إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ، ثم كانت الإجابة مضمنة شريطة ، وهي أن يستجيب له الداعي فيما دعاه إليه ؛ ألا ترى إلى قوله - تعالى - : { فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } [ البقرة : 186 ] ، وقال - تعالى - : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِيۤ أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] ، وقال : { إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ ٱلصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ ٱلزَّكَاةَ … } الآية [ المائدة : 12 ] ؛ فثبت أن الذي يلهم التقوى هو الذي يقوم بوفاء ما عليه ، فإذا قام به ألهمه التقوى ، وبين له سبيل الفجور . وقال أبو بكر الأصم في قوله : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } ، أي : ألزمها فجورها وتقواها ؛ فتكون تقواها لها ، وفجورها عليها ، لا يؤخذ أحد بفجور أحد ، وفي هذا دليل على أن التقوى إذا ذكر مفردا انصرف إلى الخيرات أجمع ، وإذا قرن به البر والإعطاء ، انصرف إلى الاتقاء عن المحارم ، كقوله - تعالى - { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ … } [ الليل : 5 - 6 ] ، وإذا قيل : بر ، واتقى ، أريد به : أنه بر بكل ما يحمد عليه ، واتقى عن كل ما يذم عليه فاعله . وقوله - عز وجل - : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } : فموقع ما تقدم من القسم بالشمس والقمر والليل والنهار على هذا ، فقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا } في الآخرة { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } في الآخرة ؛ فيكون هذا منصرفا إلى الجزاء في الآخرة ؛ على ما يذكر في قوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } [ الليل : 4 ] ؛ فيكون في هذا إيجاب القول بالبعث من الوجه الذي نذكره ، إن شاء الله تعالى . ثم اختلفوا في تأويل الفلاح : قال بعضهم : أفلح ، أي : سعد . ومنهم من يقول : أي : بقي في الخيرات ، والفلاح : البقاء . ومنهم من يقول : أفلح ، أي : فاز ، والمفلح في الجملة هو الذي يظفر بما يأمل ، وينجو عما يحذر ؛ فيدخل في ذلك السعادة والبقاء والفوز . وقوله - عز وجل - : { مَن زَكَّاهَا } : جائز أن يكون منصرفا إلى الله تعالى . وجائز أن ينصرف إلى العبد ، قال الله - تعالى - : { وَلَوْلاَ فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } [ النور : 21 ] ، وقال - تعالى - : { قُلْ بِفَضْلِ ٱللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ … } [ يونس : 58 ] ، فبين الله - تعالى - أنه هو الذي تفضل بتزكية من زكا . وجائز أن يصرف إلى العبد ؛ فيكون قوله : { زَكَّاهَا } ، أي : صاحبها ، وكذلك قوله : { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } يحتمل هذين الوجهين ؛ فيكون الله - تعالى - هو الذي أنشأ فعل الضلال ؛ فيكون الفعل من حيث الإنشاء من الله تعالى ، ومن حيث العمل من العبد . ثم قوله : { مَن دَسَّاهَا } ، أي : أخفاها ، وإخفاؤها : أنه صيرها بحيث لا تذكر في المحافل إلا بالذم ، وزكى الأخرى ، أي : أظهرها حتى ينظر إليها الناس بعين التبجيل والتعظيم . وهكذا شأن المتقي أن يكون مبجلا معظما فيما بين الخلق ، والفاجر يعيش مذموما مهانا فيما بين الخلق . أو يرجع الإظهار والإخفاء إلى الآخرة : فيجلّ قدر المتقي المزكي ، ويخمل ذكر الفاجر . وقوله - عز وجل - : { دَسَّاهَا } من " دسَّسْت " ، فأسقط السين ، وأبدل مكانها الياء . ثم الإضافة في قوله : { دَسَّاهَا } إلى الله - تعالى - على خلق ذلك الفعل منه ، وفي قوله : { زَكَّاهَا } على التوفيق .