Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 92, Ayat: 1-11)
Tafsir: Taʾwīlāt ahl as-sunna
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله - عز وجل - : { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ * وَٱلنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّىٰ } جعل الله - تعالى - الليل والنهار آيتين عظيمتين ظاهرتين مكررتين على الخلائق ما يعرف [ كل ] كافر ومؤمن ، وجميع أهل التنازع الذين ينازعون أهل الإيمان والتوحيد من الجبابرة والفراعنة . والقسم بالليل والنهار ، والقسم بقوله : { وَٱلضُّحَىٰ * وَٱللَّيْلِ إِذَا سَجَىٰ } [ الضحى : 1 - 2 ] واحد . وقد ذكرنا أن القسم إنما يذكر في تأكيد ما يقع به القسم ، ما لولا القسم كان ذلك يوجب دون القسم ؛ وذلك لعظم ما فيهما ؛ حتى قهرا جميع الفراعنة والجبابرة ، وغلبا عليهم في إتيانهما وذهابهما ، حتى أن من أراد منهم دفع هذا ومجيء هذا ، ما قدروا عليه . وفيهما دلالة وحدانية الله - تعالى - وألوهيته ، وقدرته ، وسلطانه ، وعلمه ، وتدبيره ، وحكمته : أما دلالة وحدانيته وألوهيته : اتساقهما وجريانهما على حد واحد وسنن واحد مذ كانا وأنشئا من الظلمة والنور ، والزيادة والنقصان ؛ فدل جريانهما على ما ذكرنا أن منشئهما واحد ؛ إذ لو كان فعل عدد ، لكان إذا جاء هذا ، وغلب الآخر ، دامت غلبته عليه ، وكذلك الآخر يكون مغلوبا أبدا ، والآخر غالبا ؛ فإذا لم يكن ذلك ، دل أنه فعل واحد . ويدل - أيضا - على أن ليس ذلك عمل النور والظلمة ، على ما تقوله الثنوية . ودل اتصال منافع أحدهما بمنافع الآخر على [ أن ] ذلك عمل واحد لا عدد . ودل اتساق ما ذكرنا ، ودوامهما على حد واحد على الاستواء أن منشئهما مدبر عليم ، عن تدبير وعلم خرج ذلك لا على الجزاف بلا تدبير . ودل مجيء كل واحد منهما بطرفة عين على أن منشئهما قادر لا يعجزه شيء من بعث ولا غيره . ودل ما ذكرنا أن فاعل ذلك حكيم ، على حكمة خرج فعله ، لا يحتمل أن يتركهم سدى لا يأمرهم ، ولا ينهاهم ، ولا يمتحنهم بأمور . وكذلك جعل فيما ذكر من الذكر والأنثى من الدلالات والآيات من الازدواج والتوالد والتناسل وغير ذلك . وقوله - عز وجل - : { وَمَا خَلَقَ ٱلذَّكَرَ وَٱلأُنثَىٰ } : قال بعضهم : إن حرف ( ما ) متى قرن بالفعل الماضي ، صار بمعنى المصدر ؛ كأنه قال : وخلق الذكر والأنثى ؛ فيكون قسما بجميع الخلائق ، إذ لا يخلو شيء من أن يكون ذكرا وأنثى . وكذلك ذكر في حرف ابن مسعود - رضي الله عنه - : { والذكرِ والأنثى } ، وكذلك روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قرأ كذلك . وقال بعضهم : ( ما ) هاهنا بمعنى " الذي " ؛ كأنه قال : والذي خلق الذكر والأنثى ؛ فيكون على هذا الوجه القسم بالله تعالى ، وعلى التأويل الأول بالذكر والأنثى . وقوله - عز وجل - : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } : قالوا : على هذا وقع القسم ، فإن قيل : إن كلا يعلم من كافر ومؤمن أن سعيهم لمختلف ؛ فما الحكمة والفائدة من ذكر القسم على ما يعلم كل ذلك ؟ فالوجه فيه - والله أعلم - : [ أن ] ما يقع لهم بالسعي ، وما يستوجبون به لمختلف في الآخرة ، وهو جزاء السعي ؛ كأنه قال : إن جزاء سعيكم وثوابه لمختلف ، وذلك أنهم كانوا يقولون : إن كانت دار أخرى على ما يقوله محمد - عليه الصلاة والسلام - فنحن أحق بها من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم كقوله : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } [ الكهف : 36 ] . أو يكون قوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } ؛ لأن المعطي في الشاهد ينفع غيره ، ويضر نفسه في الظاهر ، والممسك ينفع نفسه ، ثم المعطي محمود عند الناس ؛ فلو لم يكن عاقبة ينتفع المعطي بما أعطى ، ويضر البخيل المنع ، لكان الناس بما حمدوا هذا وذموا الآخر سفهاء ؛ فدل أن العاقبة هي التي تصير هذا محمودا . ولأن الخلق جميعا من مسلم وكافر ، ومحسن ومسيء ، قد استووا في نعم هذه الدنيا ولذاتها مما ذكرنا من ممر الليل والنهار [ و ] مما يخلق فيها من النبات والثمار والعيون والأشجار ، فإذا وقع الاستواء في هذه الدار ، وبه وردت الأخبار عن النبي المختار أن الناس شركاء في الماء والكلأ والنار - لا بد من دار أخرى للأشقياء والأبرار ؛ ليقع بها التفاوت [ بين الأبرار ] والأشرار ، والنافع منهم نفسه والضار ، وإذا ثبت أنهما استويا في منافع الليل والنهار ، وجميع ما في الدنيا من الأنزال وغيرها ، فإذا وقع الاستواء بينهم في الدنيا لا بد من دار أخرى [ فيها ] يقع التفاوت والتفاضل بينهم ، وفيها يميز بين ما ذكرنا . ثم بين أن السعي الذي يقع الجزاء له مختلف ، ما ذكر بقوله : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } ، وهو يخرج على وجوه : يحتمل { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ } ، أي : أعطى ما أمر به ، واتقى عصيانه وكفرانه نعمه ، أو اتقى المنع ، أو من أعطى التوحيد لله - تعالى - من نفسه ، واتقى الشرك والكفران لنعمه ، وصدق بموعود الله - تعالى - : { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } : للأعمال والشرائع ؛ إذ نشرح صدره للتوحيد والإسلام ونيسره عليه . { وَأَمَّا مَن بَخِلَ } ، ولم يأت بالتوحيد ، { وَٱسْتَغْنَىٰ } عن الله - تعالى - بما عنده ، { وَكَذَّبَ } بموعود الله { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } ؛ لما بعده من الأعمال ، والله أعلم . والثاني : في حق القبول والعزم على وفاء ذلك بقوله : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ } ، أي : قبل الإعطاء ، وعزم على وفاء ذلك ، { وَٱتَّقَىٰ } ، أي : عزم [ على ] اتقاء معاصي الله - تعالى - ومحارمه . { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } ، أي : بموعوده ؛ { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } ، أي : سنيسره لوفاء ما عزم [ عليه ] ، { وَأَمَّا مَن بَخِلَ } ، أي : عزم على البخل والمنع بذلك ، { وَٱسْتَغْنَىٰ } بالذي له وعنده ، { وَكَذَّبَ } بموعود الله تعالى { فَسَنُيَسِّرُهُ } لوفاء ما عزم [ عليه ] من الخلاف لله تعالى والمعصية له . وعلى ذلك يخرج ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن ذلك ؛ فقال : " كل ميسر لما خلق له " ، أو قال : " كل ميسر لما عمل " . والثالث : يخرج على حقيقة إعطاء ما وجب من الحق في المال وحقيقة المنع ؛ يقول : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ } ما وجب من حق الله - تعالى - في ماله ، { وَٱتَّقَىٰ } نقمة الله ومقته وعذابه ، { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } ، أي : بموعود الله تعالى ، { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } في الخيرات والطاعات . { وَأَمَّا مَن بَخِلَ } ، أي : منع حق الله - تعالى - الذي في ماله ، { وَكَذَّبَ } بالذي وعد على ذلك ، { فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } في الإفضاء إلى ما وعد . وقوله - عز وجل - : { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّىٰ } : قيل : إذا هلك ومات ، أو تردى في النار . وفي ظاهر قوله - تعالى - : { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ } دلالة على أن الآية في حقيقة الإعطاء من المال والمنع . وقوله - عز وجل - : { وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ } ، قال بعضهم : بالجنة . وقيل : بشهادة : أن لا إله إلا الله . وقيل : بالخلف على ما أنفق . وجائز أن تكون " اليسرى " اسم للجنة وكذلك " الحسنى " . و " العسرى " و " السوءى " : النار . ويحتمل أن تكون " اليسرى " اسما لكل ما طاب وحسن من العمل ، و " العسرى " : ما خبث ، وقبح من العمل . ومنهم من قال : إن الآية نزلت في أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - لأنه اشترى بلالا من أمية بن خلف وأبي بن خلف ببردة وعشر أواقٍ ، فأعتقه لله - تعالى - فأنزل الله تعالى : { وَٱلْلَّيْلِ إِذَا يَغْشَىٰ … } إلى قوله : { إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّىٰ } ، يعني : سعي أبي بكر وأمية وأبي . وذكر إلى آخر السورة : { فَأَمَّا مَنْ أَعْطَىٰ وَٱتَّقَىٰ * وَصَدَّقَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَىٰ } : أبو بكر ، رضي الله عنه ، { وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَٱسْتَغْنَىٰ * وَكَذَّبَ بِٱلْحُسْنَىٰ * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَىٰ } : أمية بن خلف ، وأبي بن خلف ؛ يرويه عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه .