Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 123-128)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

{ ثُمَّ } بعدما أشرنا إليك يا أكمل الرسل كما استحقاقه ، ولياقته للاقتدار والمتابعة { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } تكريماً لك وله { أَنِ ٱتَّبِعْ } في إيصال الدعوة ، وتبليغ الرسالة ، وإظهار الدين والأحكام ، والرق والتليين مع الأنام ، والحكم والتواضع معهم على أبلغ وجه وأكمل نظام { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ } أي : خصلة جدك - عليك و عليه الصلاة والسلام - إذ كان { حَنِيفاً } مائلاً عن كلا طرفي الإفراط والتفريط في جميع الأطوار والأخلاق ، والأفعال والأقوال { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ } [ النحل : 123 ] المستكبرين في خُلُقٍ من الأخلاق ، ووصفٍ من الأوصاف ، بل كان على مقتضى صرافة التوحيد ، وعدالة اليقين والتحقيق ؛ لذلك صار إماماً للموحدين إلى قيام الساة . ثمَّ قال سبحانه تعييراً على المشركين ، وتقريعاً لهم : { إِنَّمَا جُعِلَ ٱلسَّبْتُ } أي : قُدر وفرض لحوق وبال يوم السبت ، وأنواع العقوبات والمسخ { عَلَىٰ } المشركين { ٱلَّذِينَ ٱخْتَلَفُواْ فِيهِ } وجادلوا مع نبيهم في تعيينه واختياره ؛ إذ أمرَهم موسى عليه السلام بتعظيم يوم الجمعة واتخاذها عيداً ، فأبوا معللين : إن الله قد فرغ من خلق السماوات والأرض في السبت ، فنحن نوافقه ، ونتخذه عيداً ، فألزمهم الله تعظيم السبت ، وتحريم الصيد فيه ، فاحتالوا فيه ، فاصطادوا بالمكر ، فمسخهم الله ، ولحقهم من الوبال ما لحقهم { وَإِنَّ رَبَّكَ } يا أكمل الرسل { لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } [ النحل : 124 ] ويجادلون مع الرسل ، فيجازيهم ويعاقبهم على مقتضى ما صدر عنهم . ثمَّ أشار سبحانه إلى تتميم تكريم حبيبه صلى الله عليه وسلم ، وتعظيم رتبته ، وتهذيب أخلاقه ، وتكميل حكمته ورسالته ، وتعميم رأفته ورحمته إلى جميع البرية ، وكافة الخليقة ؛ إذ هو مبعوث على الكل بالرحمة العامة ، وهو خاتم الرسالة والنبوة ، ومكمل أمر التشريع والتكميل ؛ إذ العلة الغائبة في مطلق التشريع والإنزال والإرسال إنما هي ظهور مرتبته ومكانته التي هي الدعوة إلى التوحيد الذاتي ، ومتى ظهرت فقد كملت وتمت ؛ لذلك نزل في شأنه : { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [ المائدة : 3 ] . وهي آخر أية نزلت من القرآن ، وقال صلى الله عليه وسلم : " بُعِثْتُ لأُِتَمَّمَ مَكَارِمَ الأَخْلاَقِ " فقال مخاطباً له خطاب تمكينٍ وتكريم : { ٱدْعُ } يا أكمل الرسل { إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ } أي : إلى طريق توحيد مربيك الذي أرشدك إلى معارج عنايته ، وهداك إلى كمال كرامته كافة البرايا ، وعامة العباد { بِٱلْحِكْمَةِ } البالغة المكيفة لقلبهم عن صلابة التقليدات الراسخة الموروثة لهم عن أسلافهم ، المصفية نفوسهم عن الحمية الجاهلية المتمكنة فيها ، الخالية عن توهم السطوة والاستيلاء ، المثيرة لأنواع الأعراض النفسانية المترتبة فيها ، الخالية عن توهم السطوة والاستيلاء ، المثيرة لأنواع الأعراض النفسانية المترتبة على البشرية ، المزيلة لأنواع الشبه والتخيلات الناشئة من الأسباب والوسائل العادية المقنعة ، ملائمة للفطرة الأصلية التي فطر الناس عليها رجاء أن يتفطنوا ، ويتنبهوا بمقتضى جِبِلَّتهم وفطرتهم . { وَٱلْمَوْعِظَةِ ٱلْحَسَنَةِ } الموروثة لهم يقظاناً من سِنَة الغفلة ، ونوم النيسان ، المحصلة لهم شوقاً وسروراً إلى مُبدئهم ومُنشئهم ، الموغّبة لهم إلى اللذات الروحانية الدائمة الباقية المستمرة بلا ورود زوالٍ وانقطاعٍ ، المنفِّرة عما هم عليه من العوائق ، والعلائق العائقة من اللذات الوهمية المنقضية المنقطعة المورِثة لأنواع المحن والأحزان . { وَ } إن احتجت يا أكمل الرسل في دعوتهم إلى المجادلة معهم والمكالمة { جَٰدِلْهُم بِٱلَّتِي } أي : بالطريق التي { هِيَ أَحْسَنُ } الطرق وأسلمها ، وأعدلها من المقدمات المعتدلة الدالة على المساواة من كلا الجنابين برفق وتليين ومسكنة ، وإرخاء عنان خالٍ عن السطوة والتهور ، والغضب والتجبر ، وعن التمسخر والضحك والاستهزاء ، والتجهيل والتسفيه ، والتشنيع الشنيع ، كما يفعله عوام العلماء في محاوراتهم ومنظاراتهم ؛ إذ هي بعيدة عن الحكمة بمراحل ، مثيرة لأنواع الفتن والخصومات ، فلك ألاَّ تبالغ في إهدائهم وإيمانهم ، ولا تتشوش وتتحزن عن ضلالهم وطغيانهم ؛ إذ ما عليك إلاَّ تبليغ ما أُرسلت به . وأما حصول الهداية والضلالة فيهم فأمر خارج عن وسعك وطاقتك { إِنَّ رَبَّكَ } المطلع على استعدادات عباده وقابلياتهم { هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } الموصل إلى توحيده { وَهُوَ } أيضاً { أَعْلَمُ بِٱلْمُهْتَدِينَ } [ النحل : 125 ] إذ قدَّر في سابق قضائه هدايتهم وضلالهم ، وكذا جميع ما جرى عليهم في شئونهم وتطوراتهم على التفصيل ، بحيث لا يشذّ عن حيطة علمه شيء منها . وبعدما أمر سبحانه حبيبه بما أمر من آداب الدعوة ، وأخلاق الرسالة والنبوة ، ومراعاة حقوق الأنام ، والمداراة معهم ، أشار إلى المجازاة والمحاذاة ، والقصاص والعقوبات الواقعة في أمر الرسالة ، ووضع التشريع والتبليغ ، إذ هي مبنية على الأمر بترك المألوفات ، وترك العادات والاعتقادات ، وترك التخمينات والتقليدات ؛ لذلك لا يخلو عن المنازعات والمخاصمات المؤدية إلى أنواع الجنايات . فقال سبحانه مخاطباً له ولمن تبعه من المؤمين ، { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ } أيها المؤمنون منتقمين عنهم { فَعَاقِبُواْ } أي : فعليكم أن تعاقبوا { بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } لا أزيد منه ؛ إذ الزيادة منافية لاعتدال الإيمان والتوحيد { وَلَئِن صَبَرْتُمْ } أيها المؤمنون على ما أصابكم من العقوبات ، وأعرضتم عن الانتقام صفحاً ، وكظمتم الغيظ كظماً { لَهُوَ } أي : العفو والكظم { خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } [ النحل : 126 ] الذين صبروا على ما أصابهم من المكروهات ، مسترجعين إلى الله ، منزلين إنزاله إليه سبحانه بلا رؤية الوسائل في البين ، بل يعدون العناء عطاءً ، والترح فرحاً ، والنقمة نعمةً ، والمحنة منحةً ؛ لصدورها من الله . وبعدما خاطب وأوصى سبحانه للمؤمنين بالصبر والعفو على وجه العموم ، وترك الانتقام ، خص رسوله صلى الله عليه وسلم بالخطاب ؛ لكونه أحق وأولى بامتثال أمثاله ؛ إذ هو جامع جميع مرابت الكمال بالاستحقاق والاستقلا ل ، فقال : { وَٱصْبِرْ } أيها المتحقق المتمكن في مقر التوحيد ، المسقط لجميع الإضافات على ما جرى عليك من الأذيات المترتبة على بشريتك وناسوتك { وَمَا صَبْرُكَ } وكظمُك بعد فنائك عن بشريتك { إِلاَّ بِٱللَّهِ } المتجلي عليك بالإطلاق إلى أن انخلعتُ عنك لوازم ناسوتك ، وما بقيت لك إلاَّ لوازم لاهوتك ، وظاهر أنه لا يجري فيها المكروه والمنكر { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي : على المؤمنين بما لحقهم من المنافرات والمشوشات { وَلاَ تَكُ } بعد انشراح صدرك بالتوحيد الذاتي { فِي ضَيْقٍ } ضيق صدر ، وحزن وكآبة { مِّمَّا يَمْكُرُونَ } [ النحل : 127 ] أولئك الماكرون المعاندون المكابرون . { إِنَّ ٱللَّهَ } المختبر لأنبيائه وأوليائه ، وخواص عباده بأنواع الأذى والمحن الجسمانية { مَعَ } الصابرين { ٱلَّذِينَ ٱتَّقَواْ } وأَخذوا عن الانتقام وقت الغدوة طلباً لمرضاة الله وجرياً على مقتضى توحيده { وَّٱلَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] على من أساء إليهم رفقاً له ، وتلطيفاً إيام ابتغاءً لمرضاة الله ، وتثبيتاً في طريق وتوحيده . أذقنا حلاوة توحيدك ، وأصبرنا على ما جرى علينا من المحن ، والعطاء والعناء طلباً لمرضاتك ، إنك على ما تشاء قدير . خاتمة السورة عليك أيها المسترشد الخبير البصير - أرشدك الله إلى امتثال ما سمعتَ في هذه السورة ، سيما في الكريمة المذكورة آنفاً ، ورزقك الاتصاف بما فيها من الحِكَم والآداب ، والأخلاق المرضية ، والسجايا الفاضلة - أن تتأمل فيها حق التأمل والتعمق ، حالَ كونك خالياً صافياً عن الكدورات العارضة من طغيان القوى البهيمية ، والحميّة الجاهلية ، تاركاً بما عرض عليك من الأغراض النفسانية المترتبة على الأمور العادية ، المستلزمة فيه لأنواع الضلال والفساد من التفوق على الأقران ، والترفع على الإخوان ، والتكبر على ضعفاء الأنام ، والتلذذ بالسمعة والرياء المثيرة لأصناف الأهواء الفاسدة ، والآراء الباطلة التي لا يمكن قلعها وقمعها أصلاً ، سيما تمرنتَ ورسختَ ، فلك أن تراجع وجدانك بأي شيء أردت الترفع ، وقصدت التفوق والتفضل ، أما ترى منشأك ماذا ؟ ! أما استحييت التفوه من هذا وهذا ؟ ! . وأمّا قصة كرامتك وخلافتك التي هي من المواهب الإلهية ، والعطاءات الغيبية ، فإنما هي مبنية على محض التذلل والتواضع ، والخضوع والانكسار مع كل ذرةٍ من ذرائر الكائنات ؛ إذ مبناه على الحكمة المتقنة المتشعبة من أسرار سرائر الرسالة والنبوة ، وهي عبارة عن اعتدال جميع الأوصاف ، وتزكية النفس عن جميع الرذائل ، بل هي مبنية على إفناء متقضيات الأوصاف البشرية رأساً إرادةً واختياراً . وبالجملة : من أنصف على نفسه أدرك أن جميع ما في نفسه سوى التذلل والانكسار ، والمسكنة والافتقار ، حال كونه خالياً عن شوب الرياء والسمعة ، والعُجب والجَرْبَزَة ، إنما هي رعونات صدرت من طغيان القوى البهيمية المؤيدة بالعقل المستعار المموه بتمويهات الأوهام الباطنة ، وتزيينات الخيالات الكاذبة . هب لنا من لدنك جذبةً تنجينا من أنانيتنا ، ولذةً تلجئنا إلى سلوك طريق الفناء الموصل إلى البقاء السرمدي ، إنك أنت الوهاب .