Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 105-111)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم قال سبحانه في حق القرآن ونزوله وعظم قدر من أنزل إليه : { وَبِٱلْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ } أي : ما أنزلنا القرآن إلا ملتبساً بالحق المطابق للواقع بلا عروض الباطل عليه أصلاً { وَبِٱلْحَقِّ نَزَلَ } أي : ما نزل فيه من الأحكام والأوامر والنواهي والعبر والأمثال والرموز والإشارات والمعارف والحقائق ، كلها نزل بالحق الصريح الثابت الخالص عن توهم الباطل مطلقاً { وَ } أيضاً { مَآ أَرْسَلْنَاكَ } يا أكمل الرسل على كافة البرايا { إِلاَّ مُبَشِّراً } بالحق للمؤمن المطيع بأنواع الخيرات واللذات الروحانية المعنوية { وَنَذِيراً } [ الإسراء : 5 ] بالحق للكافر الجاحد عن أنواع العذاب العقاب الجسمانية والروحانية ، وأرسلناك عليهم ؛ لتكون داعياً لهم إلى التوحيد والعرفان تالياً لهم . { وَقُرْآناً } فرقاناً بين الحق والباطل والهداية والضلال { فَرَقْنَاهُ } أي : فرقنا إنزاله مفرقاً منجماً { لِتَقْرَأَهُ عَلَى ٱلنَّاسِ } لدى الحاجة { عَلَىٰ مُكْثٍ } مهلٍ وتؤدةٍ ، فإنها أسهل وأيسر للحفظ والفهم { وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] على حسب الوقائع ومقتضى الزمان والمورد في عرض عشرين سنة . { قُلْ } يا أكمل الرسل للطاعنين في القرآن ، المائلين عن حقيته جهلاً وعناداً على سبيل التهديد والتوبيخ : { آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُوۤاْ } أي : سواء منكم الإيمان بالقرآن وعدم الإيمان به ؛ لأنكم جهلاء عما فيه من الحقائق والمعارف ، غفلاء عن الرموز والإشارات المودعة فيه ، فتصديقكم وتكذيبكم لا يجدي نفعاص ، ولا يورث ضراً ، إنما العبرة لذوي الخبرة { إِنَّ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْعِلْمَ } من لدن حكيمٍ عليمٍ بحقية ما فيه ، وما في جميع الكتب الإلهية ، وهم الأنبياء والأولياء المجبولون على فطرة التوحيد والعرفان ، كانوا يؤمنون به ويصدقون به { مِن قَبْلِهِ } أي : قبل نزوله ، وبعد نزوله كذلك { إِذَا يُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ } ويسقطون { لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } [ الإسراء : 107 ] متذللين ، واضعين جباههم وأذقانهم على تراب المذلة تعظيماً لأمر الله ، وشكراً له لإنجازه وعده . { وَيَقُولُونَ } في حين سجودهم منزِّهين مسبِّحين : { سُبْحَانَ رَبِّنَآ } وتعالى عن أن يأتي الخُلْف فيما عهدنا ، أو عن أن يعجز عن إتيان ما وَعَدَنا { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 108 ] أي : إنه كان وعد ربنا إلى وعدنا به في الكتب السالفة من إرسال رسولٍ بأوصافٍ مخصوصةٍ مع كتابٍ جامعٍ لما في الكتب السالفة ، ناسخٍ لها ، خاتمٍ للرسالة العامة والتشريع الشامل ، لذلك صار دينه ناسخاً لجميع الأديان ، فقد أنجز سبحانه وعده بإرسال هذا النبي الأمي الموعود . { وَيَخِرُّونَ } أيضاً العالمون العارفون بحقية القرآن بعد تأملهم ، وتوغلهم في حِكَمِه وأحكامه وحقائقه ومعارفه { لِلأَذْقَانِ } حال كونهم { يَبْكُونَ } من خشية الله { وَ } بالجملة : { يَزِيدُهُمْ } التأمل والتدبر فيه على وجه التدقيق والتعمق { خُشُوعاً } [ الإسراء : 109 ] وخضوعاً ؛ لاطلاعهم على سرائر شهِدَت بها أذواقهم ، وذاق حلاوتَها وجدانُهم وسرائرُهم . { قُلِ } يا أكمل الرسل للمحجوبين الغافلين عن سر سريان الوحدة الذاتية الإلهية في المظاهر كلها والمجالي برمتها : { ٱدْعُواْ ٱللَّهَ } أي : سمُّو الذات الأحدية باسم الله المستجمع لجميع الصفات إجمالاً { أَوِ ٱدْعُواْ ٱلرَّحْمَـٰنَ } أي : سموه باسم الصفات التي اتصفت بها الذات الأحدية تفصيلاً { أَيّاً مَّا تَدْعُواْ } وتسَمُّوا من أسماء الذات والصفات { فَلَهُ } أي : لله المنزله عن سِمَة الكثرة والحدوث مطلقاً ، ووصمه الشركة والتعدد رأساً عن { ٱلأَسْمَآءَ ٱلْحُسْنَىٰ } الكاملة الدالة على أحدية ذاته ، غايته في الباب أنها باعتبار شؤونه وتجلياته ، إذ الاسم والمسمى كلاهما يتحدان عن سقوط الإضافات ورفع التعينات ؛ إذ لا يتصور التعدد دون جنابه إلا وهما واعتباراً . { وَ } إذا كان الكل من المسميات راجعة إلى الذات الأحدية بعد رفع التعينات وسقوط الإضافات { لاَ تَجْهَرْ } أيها العارف المتمكن في مقام التوحيد ، الراشح فيه بلا تلوين وتقييد ولا تعقل { بِصَلاَتِكَ } وميلك نحو الحق بَوحاً وشطحاً ، ولا تقل في حال صحوك إفاقتك كلامَ أرباب السكر والحيرة { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } أيضاً خيفةً وشحاً على ذوي الاستعداد الاسترشاد { وَٱبْتَغِ } وأختر يا صاحب التمكين { بَيْنَ ذٰلِكَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 110 ] مقتصداً معتدلاً مائلاً عن كلا طرفي الإفراط والتفريط ؛ إذ الخير في كل الأمور أوسطها وأعدلها . { وَقُلِ } بعدما تحققتَ وتمكنتَ في مقر التوحيد شكراً لما أنعمك الحق الوصل إليه ، وأمكنك التحقق دونه والورود عليه : { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ ٱلَّذِي } توحد بذاته ونقدس بأسمائه وصفاته ، وتفرد بألوهيته ، واستقل بوجوده وربوبيته إلى حيث { لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } يخلف عنه لكونه صمداً قيوماً أزلياً سرمدياً ، لا يعرضه الفناء ولا يعتريه الانصرام والانقضاء { وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي ٱلْمُلْكِ } والملكوت يظاهره أو يزاحمه ويخاصمه ؛ إذ لا شيء في الوجود سواه { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ } يولي أمره ويعين عليه حين ما لحقه { مِّنَ ٱلذُّلِّ } المسقطِ لعزه الأصلي وعِظَمِهِ الحقيقي الأزلي ؛ إذ لا تغيرَ ولا تبدلَ في ذاته أصلاً . { وَ } بالجملة : { كَبِّرْهُ تَكْبِيراً } [ الإسراء : 111 ] ذاتياً حقيقياً وعظِّمه تعظيماً صورياً ومعنوياً ؛ إذ لا وجود للغير معه حتى يتصور هناك النسبة والإضافة ، بل هو أجل وأكبر لذاته بلا توهم الإضافة فيه . اهدنا بفضلك سواء سبيلك إلى توحيدك ، واجعلنا من زممرة أرباب تمييزك وتمجيدك . خاتمة السورة . عليك أيها الموحد المحقق في مقام تمجيد الحق وتحميده . مكّنك الله بما أوصاك إليه وقررك دونه . أن تعظمَ الحقَ غاية التعظيم ، وتكبره كمال التكبير والتكريم ، واعلم أن تعظيمه إنما هو بتعظيم مظاهره ومجاليه ؛ إذ ما من ذرةٍ من ذرائر الكائنات إلا وقد ظهر الحق فيه ، وتجلى عليه بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ، فلك أن تتواضع وتتذلل عند المظاهر طوعاً ورغبةً ، ولا تتكبر عليها ، ولا تتعظم دونها ؛ إذ التكبر والتفوق على ذرةٍ صغيرةٍ من أمارات عدم الوصول إلى مرتبة اليقين الحقي ومقرِّ التوحيد الحقيقي . وذلك إنما يحصل لك بعد رفع مقتضيات أوصافك البشرية بموتك الإرادي الاختياري ، وهو إنما يحصل بالرياضات الشاقة القالعة لدرن الهوى والغفلات ، وترك العادات الراسخات في نفوس أصحاب الجهالات ، والركون إلى العزلة والخلوات ، والانقطاع عن رسوم أصحاب التخمينات والتقليدات ، والتبتل نحو الحق في عموم الأوقات والحالات . وفقنا الله وإياكم سلوك طريق التوحيد ، ورزقنا الوصول إلى منزلة التجريد والتفريد ، وجعلنا من زمرة أهل المحبة والولاء الوالهين في مقام التمجيد والتحميد ، إنك قريب مجيب حميد مجيد .