Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 17, Ayat: 8-17)

Tafsir: Tafsīr al-Ǧīlānī

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ثم قال سبحانه : { عَسَىٰ رَبُّكُمْ } يا بني إسرائيل { أَن يَرْحَمَكُمْ } بعد المرة الثانية ، إن تبتم عن معاصيكم وجرائمكم { وَإِنْ عُدتُّمْ } إليها ثالثاً { عُدْنَا } إلى الانتقام والعذاب ثالثاً ، وهكذا رابعاً وخامساً ، وقد عادوا في النوبة الثالثة بتكذيب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وقصدوا قتله ، فأعاد الله عليهم الخزي ، بأن سلط المسلمين عليهم ، فقتلوهم وأسروهم ، وضربوا الجزية على باقيهم ، وصاروا مهانين أذلاء صاغرين إلى قيام الساعة ، هذا في النشأة الأولى { وَ } في النشأة الأخرى { جَعَلْنَا جَهَنَّمَ } البعد والخذلان ، والطرد والحرمان { لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } [ الإسراء : 8 ] محبساً ومضيفاً لا ينجون منها أبد الآباد . ومن أراد نجاة الدارين ، وخير النشأتين ، فعليه الامتثال والانقياد بما في القرآن المنزل على خير الأنام { إِنَّ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنَ } الفارق بين الهداية والضلال ، والحق والباطل ، والحلال والحرام { يَِهْدِي } ويرشد { لِلَّتِي } أي : للطريق التي { هِيَ أَقْوَمُ } الطرق وأعدله ، وأوضحُ السبل وأبينُه إلى التوحيد المنجي عن ظلمات النشأتين { وَيُبَشِّرُ } أيضاً { ٱلْمُؤْمِنِينَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ ٱلصَّالِحَاتِ } المأمورة منه ، المقربة إلى التوحيد { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً } [ الإسراء : 9 ] هو الفوزُ بشرف اللقاء ، والتحقق عند سدرة المنتهى . { و } يخبر القرآن آيضاَ { أَنَّ ٱلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِٱلآخِرَةِ } ولم يقصدوا ما فيها من الحساب والعقاب ، والصراط والسؤال وجميع ما فيها { أَعْتَدْنَا } وهيأنا { لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ الإسراء : 10 ] مؤلماً محزناً لرؤيتهم المؤمنين متنعمين مترفين في الجنة مترفهين . { وَ } من جملة الأخلاق المذمومة ، والديدنة القبيحة : { يَدْعُ ٱلإِنْسَانُ } مسرعاً مستعجلاً { بِٱلشَّرِّ } الملحق له من غير علم بشريته ، ووخامة عاقبته { دُعَآءَهُ بِٱلْخَيْرِ } أي : مثل دعائه الخير ؛ أي : لسرعته { وَكَانَ ٱلإِنْسَانُ } في جِبِلَّته خُلِق { عَجُولاً } [ الإسراء : 11 ] مسرعاً مستعجلاً على ما يميل إليه ، وإن كان مضراً له . { وَ } من كمال رحمتنا وإشفاقنا { جَعَلْنَا ٱلَّيلَ وَٱلنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ ٱلَّيلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ ٱلنَّهَارِ مُبْصِرَةً } ذا نورٍ وإضاءةٍ { لِتَبْتَغُواْ } وتطلبوا { فَضْلاً } وعطايا ناشئة { مِّن رَّبِّكُمْ } لتعيشوا بها ، وتقوّموا أمزجتكم منها { وَلِتَعْلَمُواْ } بتجدد الملوين { عَدَدَ ٱلسِّنِينَ وَٱلْحِسَابَ } المتداولة بينكم في معاملتكم وجرائتكم وتجارتكم { وَ } بالجملة : في { كُلَّ شَيْءٍ } تحتاجون إليه في أمور معاشكم ومعادكم { فَصَّلْنَاهُ } أي : بيّناه وأوضحناه لكم ، وعلّمنا طريق وصولكم ونيلكم إليها { تَفْصِيلاً } [ الإسراء : 12 ] وتبييناً واضحاً لائحاً ، فعليكم أن تتخذوني وكيلاً في جميع حوائجكم الدنيوية والأخروية . { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } أي : بعدما رتبنا أمور معاش الإنسان ومعاده على ما ينبغي ويليق بحاله ، كتبنا جميع ما صدر عنه من الأعمال الصالحة والفاسدة في مكتوبٍ جامع لها ، محيط بها ، وعلقناه في عنقه تعليقاً لازماً ، شبّه الأعمال بالطائر ؛ لأن الإنسان يطير ويميل نحو السعادة والشقاة بما صدر عنه من الأعمال ، كأن الأعمال جناح له { وَ } بعد انقضاء النشأة الأولى المعدَّة للاختبار والاعتبار { نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كِتَاباً } جامعاً لجميع ما صدر عنه في دار الابتلاء { يَلْقَاهُ } وينال إليه { مَنْشُوراً } [ الإسراء : 13 ] على رءوس الملأ والأشهاد تكريماً وتعظيماً ، أو تفضيحاً وتقريعاً . وحين إلقائه إليه يُقال له : { ٱقْرَأْ } أيها المكلّف في دار الابتلاء بأنواع التكليفات ، والمأمور فيها بامتثال الأوامر ، وترك المنهيات { كِتَٰبَكَ } أي : مكتوبك المشتمل على جميع ما صدر عنك ؛ إذ { كَفَىٰ بِنَفْسِكَ ٱلْيَوْمَ } أي : كفى نسك اليوم { عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] أي : كافياً وشهيداً بلا احتياج لك إلى محاسب آخر . { مَّنِ ٱهْتَدَىٰ } من النشأة الأولى بمتابعة ما أُمر ونُهي { فَإِنَّمَا يَهْتَدي } ويفيد { لِنَفْسِهِ } إذ نفعُ الهداية هو الوصول إلى مرتبة الخلافة والنيابة التي جُبل الإنسان عليها ، عائد إلى الموحد نفسه بلا سراية إلى غيره ، ألاَّ على وجه الإرشاد والتنبيه { وَ } كذا { مَن ضَلَّ } عن طريق الحق ، وانحرف عن مسلك التوحيد بترك المأمورات ، وارتكاب المنهيات { فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي : إنما لا يعود ويرجع وبال ضلالها إلاَّ على نفسها بلا سرايةٍ إلى غيرها ، إلاَّ تسبباً وإضلالاً . { وَ } بالجملة : { لاَ تَزِرُ } ولا تحمل نفس { وَازِرَةٌ } آثمة عاصية { وِزْرَ } نفس { أُخْرَىٰ } مثلها ، بل كل نفسٍ رهينة ما كسبت ، سواء كان خيراً أو شراً { وَ } بعدما قرر سبحانه أن الهداية والضلالة لا تسري إلى الغير ، أراد أن يبين سبحانه أن الأخذ على الضلال إنما هو بعد الإرشاد والتنبيه ، فقال : { مَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ } لأهل الضلال { حَتَّىٰ نَبْعَثَ } ونرسل إليهم { رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] منهم ، حين ظهر عليهم علامات الفسوق والعصيان ، وأمارات الضلال والطغيان ؛ ليبين لهم طريق الهداية ، ويرغبهم إليها ، ويجنبهم عن الضلال ، وينفرهم عنها . وبعد بعثنا وإرسالنا ، إن لم يقبلوا قول الرسل ، ولم يمتثلوا بما أُمروا على ألسنتهم ، ونُهوا عليها ، بل أصروا على ما هم عليه من الضلال ، أُخذوا وعُذبوا { وَ } كذلك جرت سنتنا أنَّا { إِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ } ونستأصل { قَرْيَةً } مستحقةً للإهلاك والاستئصال { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } أي : متنعميها بالإطاعة والانقياد { فَفَسَقُواْ فِيهَا } وخرجوا عن مقتضى الأمر ، ولم يبالوا به { فَحَقَّ } أي : ثبت واستقر { عَلَيْهَا ٱلْقَوْلُ } أي : على أهل القرية العذابُ الموعود والمعهود { فَدَمَّرْنَاهَا } وأهلكنا أهلها ؛ بسبب فسقهم ، وخروجهم عن الإطاعة والامتثال بالمأمور { تَدْمِيراً } [ الإسراء : 16 ] أي : هلاكاً كلياً ، واستئصالاً حقيقياً إلى حيث لم يبقَ منهم ومن عمرانهم وزراعتهم شيء . ليس أمثال هذا الإهلاك ببدعٍ منا ، بل { وَكَمْ } أي : كثيراً { أَهْلَكْنَا مِنَ ٱلْقُرُونِ } الماضية { مِن بَعْدِ نُوحٍ } كعادٍ وثمود ؛ لتعوّهم وعنادهم مع رسول الله { وَ } لا يحتاج لإثبات ضلال أولئك الضالين المضلين إلى شاهدٍ ومبينٍ ، بل { كَفَىٰ بِرَبِّكَ } أي : كفى ربك يا أكمل الرسل { بِذُنُوبِ عِبَادِهِ } وخروجهم عن إطاعته وانقياده { خَبِيرَاً } إذ هو عالم بما في سرائرهم وضمائرهم ، بل ما في استعداداتهم { بَصِيراً } [ الإسراء : 17 ] بما هو في ظواهرهم وعلنهم .